الباحث القرآني

﴿قالَ﴾ اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ كَما سَبَقَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَما كانَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: قالَ المَلِكُ إثْرَ ما بَلَّغَهُ الرَّسُولُ الخَبَرَ وأحْضَرَهُنَّ: ﴿ما خَطْبُكُنَّ﴾ أيْ شَأْنُكُنَّ، وأصْلُهُ الأمْرُ العَظِيمُ الَّذِي يَحِقُّ لِعَظَمَتِهِ أنْ يُكْثِرَ فِيهِ التَّخاطُبَ ويَخْطُبَ لَهُ ﴿إذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ﴾ وخادَعْتُنَّهُ ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ ورَغَّبْتُنَّهُ في طاعَةِ مَوْلاتِهِ هَلْ وجَدْتُنَّ فِيهِ مَيْلًا إلَيْكُنَّ؟ ﴿قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ﴾ تَنْزِيهًا لَهُ وتَعْجِيبًا مِن نَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وعِفَّتِهِ ﴿ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ﴾ بالَغْنَ في نَفْيِ جِنْسِ السُّوءِ عَنْهُ بِالتَّنْكِيرِ وزِيادَةِ (مِن) وفي الكَشْفِ في تَوْجِيهِ كَوْنِ السُّؤالِ المُقَدَّرِ في نَظْمِ الكَلامِ عَنْ وِجْدانِهِنَّ فِيهِ المَيْلَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ سُؤالٌ عَنْ شَأْنِهِنَّ مَعَهُ عِنْدَ المُراوَدَةِ، وأوَّلُهُ المَيْلُ ثُمَّ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وحَمْلُهُ عَلى السُّؤالِ يَدَّعِي النَّزاهَةَ الكُلِّيَّةَ فَيَكُونُ سُؤالُ المَلِكِ مُنْزَلًا عَلَيْهِ إذْ لا يُمْكِنُ ما بَعْدَهُ إلّا إذا سَلِمَ المَيْلَ، وجَوابُهُنَّ عَلَيْهِ يَنْطَبِقُ لِتَعَجُّبِهِنَّ عَنْ نَزاهَتِهِ بِسَبَبِ التَّعَجُّبِ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلى خُلُقٍ عَفِيفٍ مِثْلِهِ لِيَكُونَ التَّعَجُّبُ مِنها عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ فَيَكُونُ أبْلَغَ وأبْلَغَ، ثُمَّ نَفْيُهُنَّ العِلْمَ مُطْلَقًا وطَرَفًا أيَّ طَرَفٍ دَهَمَ مِن سُوءٍ أيَّ سُوءٍ فَضْلًا عَنْ شُهُودِ المَيْلِ مَعَهُنَّ، اهـ، وهو مِنَ الحُسْنِ بِمَكانٍ. وما ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ -مِن أنَّ النِّسْوَةَ قَدْ أجَبْنَ بِجَوابٍ جَيِّدٍ يَظْهَرُ مِنهُ بَراءَةُ أنْفُسِهِنَّ جُمْلَةً وأعْطَيْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْضَ بَراءَةٍ، وذَلِكَ أنَّ المَلِكَ لَمّا قَرَّرَهُنَّ أنَّهُنَّ راوَدْنَهُ قُلْنَ جَوابًا عَنْ ذَلِكَ وتَنْزِيهًا لِأنْفُسِهِنَّ: ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في جِهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَوْلُهُنَّ: ﴿ما عَلِمْنا﴾ إلَخْ لَيْسَ بِإبْراءٍ تامٍّ، وإنَّما هو شَرْحُ القِصَّةِ عَلى وجْهِها حَتّى يَتَقَرَّرَ الخَطَأُ في جِهَتِهِنَّ- ناشِئٌ عَنِ الغَفْلَةِ عَمّا قَرَّرَهُ المَوْلى صاحِبُ الكَشْفِ ﴿قالَتِ امْرَأتُ العَزِيزِ﴾ وكانَتْ حاضِرَةَ المَجْلِسِ، قِيلَ: أقْبَلَتِ النِّسْوَةُ عَلَيْها يُقَرِّرْنَها، وقِيلَ: خافَتْ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْها بِما قالَتْ يَوْمَ قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ فَأقَرَّتْ قائِلَةً: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ﴾ أيْ ظَهَرَ وتَبَيَّنَ بَعْدَ خَفاءٍ قالَهُ الخَلِيلُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الحِصَّةِ وهي القِطْعَةُ مِنَ الجُمْلَةِ أيْ تَبَيَّنَتْ حِصَّةُ الحَقِّ مِن حِصَّةِ الباطِلِ، والمُرادُ تُمَيُّزُ هَذا عَنْ هَذا، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الزَّجّاجُ أيْضًا، وقِيلَ: هو مِن حَصَّ شَعَرَهُ إذا اسْتَأْصَلَهُ بِحَيْثُ ظَهَرَتْ بَشَرَةُ رَأْسِهِ، وعَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأْسِي فَما أطْعَمُ نَوْمًا غَيْرَ تَهْجاعٍ ويَرْجِعُ هَذا إلى الظُّهُورِ أيْضًا، وقِيلَ: هو مِن حَصْحَصَ البَعِيرُ إذا ألْقى مَبارِكَهُ لِيُناخَ، قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الهِلالِيُّ يَصِفُ بَعِيرًا: ؎فَحَصْحَصَ في صُمٍّ الصَّفا ثَفِناتِهِ ∗∗∗ وناءَ بِسَلْمى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّما والمَعْنى الآنَ ثَبَتَ الحَقُّ واسْتَقَرَّ، وذَكَرَ الرّاغِبُ وغَيْرُهُ أنَّ حَصَّ وحَصْحَصَ -كَكَفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وقُرِئَ بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ عَلى مَعْنى أُقِرَّ الحَقُّ في مَقَرِّهِ ووُضِعَ في مَوْضِعِهِ، و(الآنَ) مِنَ الظُّرُوفِ المَبْنِيَّةِ في المَشْهُورِ وهو اسْمٌ لِلْوَقْتِ الحاضِرِ جَمِيعِهِ كَوَقْتِ فِعْلِ الإنْشاءِ حالَ النُّطْقِ بِهِ أوِ الحاضِرِ بَعْضُهُ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ وقَدْ يَخْرُجُ عِنْدَ ابْنِ مالِكٍ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ كَخَبَرِ ”فَهُوَ يَهْوى في النّارِ الآنَ حِينَ انْتَهى إلى مَقَرِّها“ فَإنَّ الآنَ فِيهِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، و”حِينَ“ خَبَرُهُ وهو مَبْنِيٌّ لِإضافَتِهِ إلى جُمْلَةٍ صَدْرُها ماضٍ وألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ لِقَوْلِهِمْ في مَعْناهُ: الأوانُ، وقِيلَ: عَنْ ياءٍ لِأنَّهُ مِن (p-260)آنَ يَئِينُ إذا قَرُبَ، وقِيلَ: أصْلُهُ أوانٍ قُلِبَتِ الواوُ ألِفًا ثُمَّ حُذِفَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، ورُدَّ بِأنَّ الواوَ قَبْلَ الألْفِ لا تُقْلَبُ كالجَوادِ والسَّوادِ، وقِيلَ: حُذِفَتِ الألِفُ وغُيِّرَتِ الواوُ إلَيْها كَما في راحَ ورَواحٍ اسْتَعْمَلُوهُ مَرَّةً عَلى فَعَلٍ وأُخْرى عَلى فِعالٍ كَزَمَنٍ وزَمانٍ، واخْتَلَفُوا في عِلَّةِ بِنائِهِ فَقالَ الزَّجّاجُ: بُنِيَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإشارَةِ لِأنَّ مَعْناهُ هَذا الوَقْتُ، ورُدَّ بِأنَّ المُتَضَمِّنَ مَعْنى الإشارَةِ بِمَنزِلَةِ اسْمِ الإشارَةِ وهو لا تَدْخُلُهُ ألْ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى لامِ التَّعْرِيفِ لِأنَّهُ اسْتُعْمِلَ مَعْرِفَةً ولَيْسَ عَلَمًا وألْ فِيهِ زائِدَةٌ، وضُعِّفَ بِأنَّ تَضَمُّنَ اسْمٍ مَعْنى حَرْفٍ اخْتِصارًا يُنافِي زِيادَةَ ما لا يُعْتَدُّ بِهِ هَذا مَعَ كَوْنِ المَزِيدِ غَيْرَ المُضَمَّنِ مَعْناهُ فَكَيْفَ إذا كانَ إيّاهُ، وقالَ المُبَرِّدُ وابْنُ السَّرّاجِ: لِأنَّهُ خالَفَ نَظائِرَهُ إذْ هو نَكِرَةٌ في الأصْلِ اسْتُعْمِلَ مِن أوَّلِ وضْعِهِ بِاللّامِ، وبابُها أنْ تَدْخُلَ عَلى النَّكِرَةِ وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ، ورَدَّهُ ابْنُ مالِكٍ بِلُزُومِ بِناءِ الجَمّاءِ الغَفِيرِ ونَحْوِهِ مِمّا وقَعَ في أوَّلِ وضْعِهِ بِاللّامِ، وبِأنَّهُ لَوْ كانَتْ مُخالَفَةُ الِاسْمِ لِسائِرِ الأسْماءِ مُوجِبَةً لِشَبَهِ الحَرْفِ واسْتِحْقاقِ البِناءِ لَوَجَبَ بِناءُ كُلِّ اسْمٍ خالَفَ الأسْماءَ بِوَزْنٍ أوْ غَيْرِهِ وهو باطِلٌ بِإجْماعٍ، واخْتارَ أنَّهُ بُنِيَ لِشَبَهِ الحَرْفِ في مُلازَمَةِ لَفْظٍ واحِدٍ لِأنَّهُ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ ولا يُصَغَّرُ بِخِلافِ حِينَ، ووَقْتٍ وزَمانٍ ومُدَّةٍ، ورَدَّهُ أبُو حَيّانَ بِما رَدَّ هو بِهِ عَلى مَن تَقَدَّمَ، وقالَ الفَرّاءُ: إنَّما بُنِيَ لِأنَّهُ نُقِلَ مِن فِعْلٍ ماضٍ وهو آنَ بِمَعْنى حانَ فَبَقِيَ عَلى بِنائِهِ اسْتِصْحابًا عَلى حَدِّ أنْهاكم عَنْ قِيلٍ وقالَ، ورُدَّ بِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهِ ألْ كَما لا تَدْخُلُ عَلى ما ذُكِرَ، وجازَ فِيهِ الإعْرابُ كَما جازَ فِيهِ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ مُعْرَبٌ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: كَأنَّهُما مِلَآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا. بِكَسْرِ النُّونِ أيْ مِنَ الآنِ فَحُذِفَتِ النُّونُ والهَمْزَةُ وجُرَّ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ مُعْرَبٌ وضَعُفَ بِاحْتِمالِ أنْ تَكُونَ الكَسْرَةُ كَسْرَةَ بِناءٍ ويَكُونُ في بِناءِ الآنِ لُغَتانِ: الفَتْحُ والكَسْرُ كَما في شَتّانَ إلّا أنَّ الفَتْحَ أكْثَرُ وأشْهَرُ، وفي شَرْحِ الألْفِيَّةِ لِابْنِ الصّائِغِ أنَّ الَّذِي قالَ: إنَّ أصْلَهُ أوانٍ يَقُولُ: بِإعْرابِهِ كَما أنَّ وأْنًا مُعْرَبٌ. واخْتارَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ القَوْلَ بِإعْرابِهِ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِبِنائِهِ عِلَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَهو عِنْدَهُ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وإنْ دَخَلَتْ مِن جُرَّ وخُرُوجُهُ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ غَيْرُ ثابِتٍ، وفي الِاسْتِدْلالِ بِالحَدِيثِ السّابِقِ مَقالٌ، وأيّامّا كانَ فَهو هُنا مُتَعَلِّقٌ –بِحَصْحَصَ- أيْ حَصْحَصَ الحَقُّ في هَذا الوَقْتِ ﴿أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ لا أنَّهُ راوَدَنِي عَنْ نَفْسِي، وإنَّما قالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِرافِها تَأْكِيدًا لِنَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكَذا قَوْلُها: ﴿وإنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ﴾ أيْ في قَوْلِهِ حِينَ افْتَرَيْتُ عَلَيْهِ ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ قِيلَ: إنَّ الَّذِي دَعاها لِذَلِكَ كُلِّهِ التَّوَخِّي لِمُقابَلَةِ الِاعْتِرافِ حَيْثُ لا يُجْدِي الإنْكارُ بِالعَفْوِ، وقِيلَ: إنَّها لَمّا تَناهَتْ في حُبِّهِ لَمْ تُبالِ بِانْتِهاكِ سَتْرِها وظُهُورِ سِرِّها، وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّها لَمْ تُرِدْ بِقَوْلِها: (الآنَ) إلَخْ مُجَرَّدَ ظُهُورِ ما ظَهَرَ بِشَهادَةِ النِّسْوَةِ مِن مُطْلَقِ نَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما أحاطَ بِهِ عِلْمُهُنَّ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَزاهَتِهِ في سائِرِ المَواطِنِ خُصُوصًا فِيما وقَعَ فِيهِ التَّشاجُرُ بِمَحْضَرِ العَزِيزِ ولا بَحَثَ عَنْ حالِ نَفْسِها وما صَنَعَتْ في ذَلِكَ بَلْ أرادَتْ ظُهُورَ ما هو مُتَحَقِّقٌ في نَفْسِ الأمْرِ وثُبُوتَهُ مِن نَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في مَحَلِّ النِّزاعِ وخِيانَتَها، ولِهَذا قالَتْ: ﴿أنا راوَدْتُهُ﴾ إلَخْ، وأرادَتْ –بِالآنَ- زَمانَ تَكَلُّمِها بِهَذا الكَلامِ لا زَمانَ شَهادَتِهِنَّ اهـ فافْهَمْ وتَأمَّلْ، هَلْ تَرى فَوْقَ هَذِهِ المَرْتَبَةِ نَزاهَةً حَيْثُ لَمْ يَتَمالَكِ الخُصَماءُ مِنَ الشَّهادَةِ بِها عَلى أتَمِّ وجْهٍ. ؎والفَضْلُ ما شَهِدَتْ بِهِ الخُصَماءُ. ولَيْتَ مَن نَسَبَ إلَيْهِ السُّوءَ –وحاشاهُ- كانَ عِنْدَهُ عُشْرُ مِعْشارِ ما كانَ (p-261)عِنْدَ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ الشّاهِداتِ مِنَ الإنْصافِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب