الباحث القرآني
﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ بَيانٌ لِلَّذِي يُوَسْوِسُ عَلى أنَّهُ ضَرْبانِ؛ جِنِّيٌّ وإنْسِيٌّ كَما قالَ تَعالى: ﴿شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ﴾ أوْ مُتَعَلِّقٌ بِ «يُوَسْوِسُ»، و«مِن» لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: يُوَسْوِسُ في صُدُورِهِمْ مِن جِهَةِ الجِنِّ مِثْلَ أنْ يُلْقِيَ في قَلْبِ المَرْءِ مِن جِهَتِهِمْ أنَّهم يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ، ومِن جِهَةِ النّاسِ مِثْلَ أنْ يُلْقِيَ في قَلْبِهِ مِن جِهَةِ المُنَجِّمِينَ والكُهّانِ وأنَّهم يَعْلَمُونَ الغَيْبَ. وجُوِّزَ فِيهِ الحالِيَّةُ مِن ضَمِيرِ: ﴿يُوَسْوِسُ﴾ والبَدَلِيَّةُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن شَرِّ﴾ بِإعادَةِ الجارِّ وتَقْدِيرِ المُضافِ، والبَدَلِيَّةُ مِنَ الوَسْواسِ عَلى أنَّ «مِن» تَبْعِيضِيَّةٌ. وقالَ الفَرّاءُ وجَماعَةٌ: هو بَيانٌ لِلنّاسِ بِناءً عَلى أنَّهُ يُطْلَقُ عَلى الجِنِّ أيْضًا فَيُقالُ كَما نُقِلَ عَنِ الكَلْبِيِّ: ناسٌ مِنَ الجِنِّ. كَما يُقالُ: نَفَرٌ ورِجالٌ مِنهُمْ، وفِيهِ أنَّ المَعْرُوفَ عِنْدَ النّاسِ خِلافُهُ مَعَ ما في ذَلِكَ مِن شُبَهِ جَعْلِ قِسْمِ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، ومِثْلُهُ لا يُناسِبُ بَلاغَةَ القُرْآنِ وإنْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ، وتُعُقِّبَ أيْضًا بِأنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ القَوْلُ بِأنَّ الشَّيْطانَ يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الجِنِّ كَما يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الإنْسِ ولَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. ولا يَجُوزُ جَعْلُ الآيَةِ دَلِيلًا لِما لا يَخْفى، وأقْرَبُ مِنهُ عَلى ما قِيلَ أنْ يُرادَ بِالنّاسِ النّاسِي بِالياءِ مِثْلُهُ في قِراءَةِ بَعْضِهِمْ: «مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسِ» بِالكَسْرِ ويُجْعَلُ سُقُوطُ الياءَ كَسُقُوطِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ﴾ ثُمَّ يُبَيَّنُ بِالجِنَّةِ والنّاسِ؛ فَإنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الفَرِيقَيْنِ مُبْتَلًى بِنِسْيانِ حَقِّ اللَّهِ تَعالى إلّا مَن تَدارَكَهُ شَوافِعُ عِصْمَتِهِ وتَناوَلَهُ واسِعُ رَحْمَتِهِ. جَعَلَنا اللَّهُ مِمَّنْ نالَ مِن عِصْمَتِهِ الحَظَّ الأوْفى وكالَ لَهُ مَوْلاهُ مِن رَحِمْتِهِ فَأوْفى.
ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ: إنَّ حُرُوفَ هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَ المُكَرَّرِ اثْنانِ وعِشْرُونَ حَرْفًا وكَذا حُرُوفُ الفاتِحَةِ؛ وذَلِكَ بِعَدَدِ السِّنِينَ الَّتِي أُنْزِلَ فِيها القُرْآنُ فَلْيُراجَعْ، وبَعْدَ أنْ يُوجَدَ الأمْرُ كَما ذُكِرَ لا يَخْفى أنَّ كَوْنَ سِنِي النُّزُولِ اثْنَتَيْنِ وعِشْرِينَ سَنَةً قَوْلٌ لِبَعْضِهِمْ. والمَشْهُورُ أنَّها ثَلاثٌ وعِشْرُونَ اه. ومِثْلُ هَذا الرَّمْزِ ما قِيلَ إنَّ أوَّلَ حُرُوفِهِ الباءُ وآخِرُها السِّينُ كَأنَّهُ قِيلَ «بَسْ» أيْ حَسْبُ؛ فَفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ كافٍ عَمّا سِواهُ، ورُمِزَ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ وقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُ الفُرْسِ فَقالَ:(p-288)
؎أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس
ومِثْلُهُ مِنَ الرُّمُوزِ كَثِيرٌ، لَكِنْ قِيلَ: لا يَنْبَغِي أنْ يُقالَ إنَّهُ مُرادُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. نَعَمْ قَدْ أرْشَدَ عَزَّ وجَلَّ في هَذِهِ السُّورَةِ إلى الِاسْتِعانَةِ بِهِ تَعالى شَأْنُهُ كَما أرْشَدَ جَلَّ وعَلا إلَيْها في الفاتِحَةِ، بَلْ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ تَعالى عَلى القَوْلِ بِأنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ بِوَحْيِهِ سُبْحانَهُ مِن خَتْمِ كِتابِهِ الكَرِيمِ بِالِاسْتِعاذَةِ بِهِ تَعالى مِن شَرِّ الوَسْواسِ الإشارَةُ كَما في الفاتِحَةِ إلى جَلالَةِ شَأْنِ التَّقْوى والرَّمْزُ إلى أنَّها مِلاكُ الأمْرِ كُلِّهِ وبِها يَحْصُلُ حُسْنُ الخاتِمَةِ، فَسُبْحانَهُ مِن مَلِكٍ جَلِيلٍ ما أجَّلَ كَلِمَتَهُ، ولِلَّهِ دَرُّ التَّنْزِيلِ ما أحْسَنَ فاتِحَتَهُ وخاتِمَتَهُ.
وبَعْدُ، فَهَذا والحَمْدُ لِلَّهِ تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، فَأسْعَدَنِي ولَهُ الشُّكْرُ بِالتَّوْفِيقِ لِتَفْسِيرِ كِتابِهِ العَزِيزِ الَّذِي لا يَذِلُّ مَن لاذَ بِهِ ولا يَشْقى، فَإذْ وفَّقْتَنِي يا إلَهِي لِتَفْسِيرِ عِبارَتِهِ، ووَفَّقْتَنِي عَلى ما شِئْتَ مِن مُضْمَرِ إشارَتِهِ، فاجْعَلْنِي يا رَبّاهُ مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِمُحْكَمِ حَبْلِهِ، ويَتَمَسَّكُ بِعُرْوَتِهِ الوُثْقى، ويَأْوِي مِنَ المُتَشابِهاتِ إلى حِرْزِ مَعْقِلِهِ، ويَسْتَظِلُّ بِظِلالِ كَهْفِهِ الأوْفى، وأعِذْنِي بِهِ مِن وساوِسِ الشَّيْطانِ ومَكائِدِهِ، ومِنَ الِارْتِباكِ بِشِباكِ غُرُورِهِ ومَصائِدِهِ، واجْعَلْهُ وسِيلَةً لِي إلى أشْرَفِ مَنازِلِ الكَرامَةِ، وسُلَّمًا أعْرُجُ فِيهِ إلى مَحَلِّ السَّلامَةِ، فَطالَما يا إلَهِي أسْهَرَتْنِي آياتُهُ، حَتّى خَفَقَتْ بِرَأْسِي سِنَةُ الكَرى، فَلَمْ أفِقْ إلّا وقَدْ لَطَمَتْنِي مِن صِفاحِ صَحائِفِ سُورَةٍ ذاتِ سَوارٍ. وكَمْ وكَمْ سَرَتْ بِي يا مَوْلايَ عِباراتُهُ، حَتّى حُقِّقَتْ لِي دَعْوى: عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى. فَلَمْ أشْعُرْ إلّا وقَدْ تَلَفَّعْتُ نَواعِسَ السَّوادِي مِن فَضْلِ مِئْزَرِ مَهاةِ الصُّبْحِ بِخِمارٍ، ولَمْ أزَلْ أُسَوِّدُ الأوْراقَ في تَحْرِيرِ ما أفَضْتَ عَلَيَّ حَتّى بَيَّضَ نُسْخَةَ عُمْرِي المَشِيبُ، وأجْدَدَ النَّظَرُ بِتَحْدِيقِ الأحْداقِ، فِيما أُفِيضَتْ بِهِ مِنَ المَشايِخِ إلَيَّ حَتّى بَلِيَ بَرْدُ شَبابِي القَشِيبُ. هَذا مَعَ ما قاسَيْتُهُ مِن خَلِيلٍ غادِرٍ، وجَلِيلٍ جائِرٍ، وزَمانٍ غَشُومٍ، وغُيُومٍ وابِلُها غُمُومٌ، إلى أُمُورٍ أنْتَ بِها يا إلَهِي أعْلَمُ، ولَمْ يَكُنْ لِي فِيها سِواكَ مَن يَرْحَمُ. وأكْثَرُ ذَلِكَ يا إلَهِي قَدْ كانَتْ حَيْثُ أهَّلْتَنِي لِخِدْمَةِ كِتابِكَ، ومَنَنْتَ عَلَيَّ مِن غَيْرِ حَدٍّ بِالفَحْصِ عَنْ مُسْتَوْدَعاتِ خِطابِكَ فاكْفِنِي اللَّهُمَّ بِحُرْمَتِهِ مُؤْنَةَ مَعَرَّةِ العِبادِ، وهَبْ لِي أمْنَ يَوْمِ المَعادِ، وأعِذْنِي بِلُطْفِكَ وأعِذْنِي بِنِعْمَتِكَ ووَفِّقْنِي لِلَّتِي هي أزْكى، واسْتَعْمِلْنِي بِما هو أرْضى، واسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ المُثْلى، وزَوِّدْنِي مَطِيّاتِ الهُدى وزَوِّدْنِي باقِياتِ التَقى، وأصْلِحْ ذُرِّيَّتِي، وبَلِّغْنِي بِهِمْ أُمْنِيَّتِي، واجْعَلْهم عُلَماءَ عامِلِينَ وهُداةً مَهْدِيِّينَ، وكُنْ لِي ولَهم في جَمِيعِ الأُمُورِ واحْفَظْنِي واحْفَظْهم مِن فِتَنِ دارِ الغُرُورِ وأيِّدِ اللَّهُمَّ خَلِيفَتَكَ في خَلِيقَتِكَ، ووَفِّقْهُ بِحُرْمَةِ كَلامِكَ لِإعْلاءِ كَلِمَتِكَ، وصَلِّ وسَلِّمْ عَلى رُوحِ مَعانِي المُمْكِناتِ عَلى الإطْلاقِ، ورُوحِ مَعانِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ، في سائِرِ الآفاقِ وعَلى آلِهِ وأصْحابِهِ وكُلِّ مَن سَلَكَ سُنَنَ سُنَّتِهِ، واقْتَفى وقالَ في ظِلالِ ظَلِيلِ شَرِيعَتِهِ قائِلًا: حَسْبِي ذَلِكَ وكَفى.
وقَدْ صادَفَ تَسْلِيمُ القَلَمِ رُكُوعَهُ وسُجُودَهُ، في ظُلَمِ دَياجِي المِدادِ، واضْطِجاعِهِ في بَيْتِ الدَّواةِ، بَعْدَ قِيامِهِ عَلى ساقِ الخِدْمَةِ لِكِتابِ رَبِّ العِبادِ، لَيْلَةَ الثُّلاثاءِ لِأرْبَعٍ خَلَوْنَ مِن شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ سَنَةَ ألْفٍ ومِائَتَيْنِ وسَبْعٍ وسِتِّينَ، مِن هِجْرَةِ سَيِّدِ الأوائِلِ والأواخِرِ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وجاءَ تارِيخُهُ (أكْمَلَ تَفْسِيرِي رُوحَ المَعانِي والحَمْدُ لِلَّهِ باطِنًا وظاهِرًا ولَهُ سُبْحانُهُ الشُّكْرُ أوَّلًا وآخِرًا).
{"ayah":"مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











