الباحث القرآني

سُورَةُ النّاسِ وتُسَمّى مَعَ ما قَبْلَها كَما أشَرْنا إلَيْهِ قَبْلُ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ بِكَسْرِ الواوِ، والفَتْحُ خَطَأٌ، وكَذا بِالمُقَشْقِشَتَيْنِ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في أمْرِ مَكِّيَّتِها ومَدَنِيَّتِها، وهي سِتُّ آياتٍ لا سَبْعٌ، وإنِ اخْتارَهُ بَعْضُهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿قُلْ أعُوذُ﴾ وقُرِئَ في السُّورَتَيْنِ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى اللّامِ كَما قُرِئَ:«فَخُذَ ارْبَعَةً» . ﴿بِرَبِّ النّاسِ﴾ أيْ: مالِكِ أُمُورِهِمْ ومُرَبِّيهِمْ بِإفاضَةِ ما يُصْلِحُهم ودَفْعِ ما يَضُرُّهُمْ، وأمالَ «النّاسِ» هَنا أبُو عَمْرٍو والدُّورِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ وكَذا في كُلِّ مَوْضِعٍ وقَعَ فِيهِ مَجْرُورًا. ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ عَطْفُ بَيانٍ عَلى ما اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ جِيءَ بِهِ لِبَيانِ أنَّ تَرْبِيَتَهُ تَعالى إيّاهم لَيْسَتْ بِطَرِيقِ تَرْبِيَةِ سائِرِ المُلّاكِ لِما تَحْتَ أيْدِيهِمْ مِن مَمالِيكِهِمْ بَلْ بِطَرِيقِ المُلْكِ الكامِلِ والتَّصَرُّفِ الكُلِّيِّ والسُّلْطانِ القاهِرِ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ فَإنَّهُ لِبَيانِ أنَّ مُلْكَهُ تَعالى لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلاءِ عَلَيْهِمْ والقِيامِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ سِياسَتِهِمْ والتَّوَلِّي لِتَرْتِيبِ مَبادِئِ حِفْظِهِمْ وحِمايَتِهِمْ كَما هو قُصارى أمْرِ المُلُوكِ بَلْ هو بِطْرِيقِ المَعْبُودِيَّةِ المُؤَسَّسَةِ عَلى الأُلُوهِيَّةِ المُقْتَضِيَةِ لِلْقُدْرَةِ التّامَّةِ عَلى التَّصَرُّفِ الكُلِّيِّ فِيهِمْ إحْياءً وإماتَةً وإيجادًا وإعْدامًا. وجُوِّزَتِ البَدَلِيَّةُ أيْضًا وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا مانِعَ مِنهُ عَقْلًا، ثُمَّ ما هُنا -وإنْ لَمْ يَكُنْ جامِدًا- فَهو في حُكْمِهِ، ولَعَلَّ الجَزالَةَ دَعَتْ إلى اخْتِيارِهِ وتَخْصِيصِ الإضافَةِ إلى النّاسِ مَعَ انْتِظامِ جَمِيعِ العالَمِ في سِلْكِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى ومَلَكُوتِهِ وأُلُوهِيَّتِهِ عَلى ما في الإرْشادِ لِلْإرْشادِ إلى مِنهاجِ الِاسْتِعاذَةِ الحَقِيقِيَّةِ بِالإعاذَةِ فَإنَّ تَوَسُّلَ العائِذِ بِرَبِّهِ وانْتِسابَهُ إلَيْهِ بِالمَرْبُوبِيَّةِ والمَمْلُوكِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ في ضِمْنِ جِنْسٍ هو فَرْدٌ مِن أفْرادِهِ مِن دَواعِي مَزِيدِ الرَّحْمَةِ والرَّأْفَةِ، وأمْرُهُ تَعالى بِذَلِكَ مِن دَلائِلِ الوَعْدِ الكَرِيمِ بِالإعاذَةِ لا مَحالَةَ، ولِأنَّ المُسْتَعاذَ مِنهُ شَرُّ الشَّيْطانِ المَعْرُوفِ بِعَداوَتِهِمْ فَفي التَّنْصِيصِ عَلى انْتِظامِهِمْ في سِلْكِ عُبُودِيَّتِهِ تَعالى ومَلَكُوتِهِ رَمْزٌ إلى إنْجائِهِمْ مِن مَلَكَةِ الشَّيْطانِ وتَسَلُّطِهِ عَلَيْهِمْ حَسْبَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ واقْتَصَرَ بَعْضُ الأجِلَّةِ في بَيانِ وجْهِ التَّخْصِيصِ عَلى كَوْنِ الِاسْتِعاذَةِ هُنا مِن شَرِّ ما يَخُصُّ النُّفُوسَ البَشَرِيَّةَ وهي الوَسْوَسَةُ كَما قالَ تَعالى: ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ﴾ وبُحِثَ فِيهِ بَعْدَ الإغْماضِ عَمّا فِيهِ مِنَ القُصُورِ في تَوْفِيَةِ المَقامِ حَقَّهُ بِأنَّ شَرَّ المُوَسْوِسِ كَما يَلْحَقُ النُّفُوسَ يَلْحَقُ الأبْدانَ أيْضًا، وفِيهِ شَيْءٌ سَنُشِيرُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ، واخْتارَ هَذا الباحِثُ في ذَلِكَ أنَّهُ (p-286)لَمّا كانَتِ الِاسْتِعاذَةُ فِيما سَبَقَ مِن شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أُضِيفَ الرَّبُّ إلى كُلِّ شَيْءٍ؛ أيْ بِناءً عَلى عُمُومِ الفَلَقِ، ولَمّا كانَتْ هُنا مِن شَرِّ الوَسْواسِ لَمْ يُضَفْ إلى كُلِّ شَيْءٍ، وكانَ النَّظَرُ إلى السُّورَةِ السّابِقَةِ يَقْتَضِي الإضافَةَ إلى الوَسْواسِ لَكِنَّهُ لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ حَطًّا لِدَرَجَتِهِ عَنْ إضافَةِ الرَّبِّ إلَيْهِ بَلْ إلى المُسْتَعِيذِ، وكانَ في هَذا الحَطِّ رَمْزًا إلى الوَعْدِ بِالإعاذَةِ وهو الَّذِي يَجْعَلُ لِما ذُكِرَ حَظًّا في أداءِ حَقِّ المَقامِ، ورُبَّما يُقالُ: إنَّ في إضافَةِ الرَّبِّ إلى النّاسِ في آخِرِ سُورَةٍ مِن كِتابِهِ تَذْكِيرَ الأوَّلِ أمْرٌ عَرَفُوهُ في عالَمِ الذَّرِّ وأخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِالإقْرارِ بِهِ فِيما بَعْدُ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ الآيَةَ.. فَيَكُونُ في ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلى الِاسْتِعاذَةِ مِن شَرِّ الوَسْواسِ لِئَلّا يَتَدَنَّسُ أمْرُ ذَلِكَ العَهْدِ، وفِيهِ أيْضًا رَمْزٌ إلى الوَعْدِ الكَرِيمِ بِالإعاذَةِ. وذَكَرَ القاضِي أنَّ في النَّظْمِ الجَلِيلِ إشْعارًا بِمَراتِبِ النّاظِرِ المُتَوَجِّهِ لِمَعْرِفَةِ خالِقِهِ؛ فَإنَّهُ يَعْلَمُ أوَّلًا بِما يَرى عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ أنَّ لَهُ رَبًّا ثُمَّ يَتَغَلْغَلُ في النَّظَرِ حَتّى يَتَحَقَّقَ أنَّهُ سُبْحانَهُ غَنِيٌّ عَنِ الكُلِّ وذاتُ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ ومَصارِفُ أمْرِهِ مِنهُ؛ فَهو المَلِكُ الحَقُّ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ لا غَيْرَ. ويَنْدَرِجُ في وُجُوهِ الِاسْتِعاذَةِ المُعْتادَةِ تَنْزِيلًا لِاخْتِلافِ الصِّفاتِ مَنزِلَةَ اخْتِلافِ الذّاتِ؛ فَإنَّ عادَةَ مَن ألَمَّ بِهِ هَمٌّ أنْ يَرْفَعَ أمْرَهُ لِسَيِّدِهِ ومُرَبِّيهِ كَوالِدَيْهِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى رَفْعِهِ رَفَعَهُ لِمَلِكِهِ وسُلْطانِهِ، فَإنْ لَمْ يُزِلْ ظُلامَتَهُ شَكاهُ إلى مَلِكِ المُلُوكِ، ومَن إلَيْهِ المُشْتَكى والمَفْزَعُ، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى عِظَمِ الآفَةِ المُسْتَعاذِ مِنها. ولِابْنِ سِينا هاهُنا كَلامٌ تَتَحَرَّجُ مِنهُ الأقْلامُ كَما لا يَخْفى عَلى مَن ألَمَّ بِهِ وكانَ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ المُطَهَّرَةِ أدْنى إلْمامٍ. وتَكْرِيرُ المُضافِ إلَيْهِ لِمَزِيدِ الكَشْفِ والتَّقْرِيرِ والتَّشْرِيفِ بِالإضافَةِ، وقِيلَ: لا تَكْرارَ؛ فَإنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالعامِّ بَعْضُ أفْرادِهِ فالنّاسُ الأوَّلُ بِمَعْنى الأجِنَّةِ والأطْفالِ المُحْتاجِينَ لِلتَّرْبِيَةِ، والثّانِي الكُهُولُ والشُّبّانُ لِأنَّهُمُ المُحْتاجُونَ لِمَن يَسُوسُهُمْ، والثّالِثُ الشُّيُوخُ المُتَعَبِّدُونَ المُتَوَجِّهُونَ لِلَّهِ تَعالى وهو عَلى ما فِيهِ يُبْعِدُهُ حَدِيثُ إعادَةِ الشَّيْءِ مَعْرِفَةً وإنْ كانَ أغْلَبِيًّا. والوَسْواسُ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنى الوَسْوَسَةِ، والمَصْدَرُ بِالكَسْرِ وهو صَوْتُ الحُلِيِّ والهَمْسُ الخَفِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الخَطِرَةِ الرَّدِيَّةِ وأُرِيدَ بِهِ هاهُنا الشَّيْطانُ، سَمِّي بِفِعْلِهِ مُبالَغَةً كَأنَّهُ نَفَسَ الوَسْوَسَةَ أوِ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ ذِي الوَسْواسِ. وقالَ بَعْضُ أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ: إنَّ فَعْلَلَ ضَرْبانِ: صَحِيحٌ كَدَحْرَجَ، وثَنائِيٌّ مُكَرَّرٌ كَصَلْصَلَ، ولَهُما مَصْدَرانِ مُطَّرِدانِ: فَعْلَلَةٌ وفِعْلالٌ بِالكَسْرِ وهو أقْيَسُ، والفَتْحُ شاذٌّ لَكِنَّهُ كَثُرَ في المُكَرَّرِ كَتَمْتامٍ وفَأْفَأةٍ، ويَكُونُ لِلْمُبالَغَةِ كَفَعّالٍ في الثُّلاثِيِّ كَما قالُوا وطْواطٌ لِلضَّعِيفِ وثَرْثارٌ لِلْمُكْثِرِ، والحَقُّ أنَّهُ صِفَةٌ فَلْيُحْمَلْ عَلَيْهِ ما في الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى التَّجَوُّزِ أوْ حَذْفِ المُضافِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الزِّلْزالِ ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا المَبْحَثِ فَتَذَكَّرْ فَما في العَهْدِ مِن قِدَمٍ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ الِاسْتِعاذَةُ مِن شَرِّ الوَسْواسِ مِن حَيْثُ هو وسْواسٌ، ومَآلُهُ إلى الِاسْتِعاذَةِ مِن شَرِّ وسْوَسَتِهِ وقِيلَ: المُرادُ الِاسْتِعاذَةُ مِن جَمِيعِ شُرُورِهِ؛ ولِذا قِيلَ: مِن شَرِّ الوَسْواسِ ولَمْ يُقَلْ: مِن وسْوَسَةِ الوَسْواسِ. قِيلَ: وعَلَيْهِ يَكُونُ القَوْلُ بِأنَّ شَرَّهُ يَلْحَقُ البَدَنَ كَما يَلْحَقُ النَّفْسَ أظْهَرُ مِنهُ عَلى الظّاهِرِ، وعُدَّ مِن شَرِّهِ أنَّهُ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ «يَعْقِدُ عَلى قافِيَةِ رَأْسِ العَبْدِ إذْ هو نامَ ثَلاثَ عُقَدٍ،» مُرادُهُ بِذَلِكَ مَنعُهُ مِنَ اليَقَظَةِ، وفي عَدِّ هَذا مِنَ الشَّرِّ البَدَنِيِّ خَفاءٌ، وبَعْضُهم عَدَّ مِنهُ التَّخَبُّطَ إذا لَحِقَ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِن مَسِّهِ كَما تَقَدَّمَ في مَوْضِعِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الخَنّاسِ﴾ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ أوْ نِسْبَةٌ؛ أيِ الَّذِي عادَتُهُ أنْ يَخْنِسَ ويَتَأخَّرَ إذا ذَكَرَ الإنْسانُ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ. أخْرَجَ الضِّياءُ في المُخْتارَةِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا عَلى قَلْبِهِ الوَسْواسُ، فَإذا عَقَلَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعالى خَنَسَ، فَإذا غَفَلَ وسْوَسَ، ولَهُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الكَلْبِ، ويُقالُ: إنَّ رَأْسَهُ كَرَأْسِ الحَيَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ شاهِينٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ (p-287)تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: ««إنَّ لِلْوَسْواسِ خَطْمًا كَخَطْمِ الطّائِرِ، فَإذا غَفَلَ ابْنُ آدَمَ وضَعَ ذَلِكَ المِنقارَ في أُذُنِ القَلْبِ يُوَسْوِسُ، فَإنْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعالى نَكَصَ وخَنِسَ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الوَسْواسَ الخَنّاسَ»».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب