الباحث القرآني

﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ أيْ: لَمْ يُكافِئْهُ أحَدٌ ولَمْ يُماثِلْهُ ولَمْ يُشاكِلْهُ مِن صاحِبَةٍ وغَيْرِها. وقِيلَ: هو نَفْيٌ لِلْكَفاءَةِ المُعْتَبَرَةِ بَيْنَ الأزْواجِ وهو كَما تَرى. و«لَهُ» صِلَةُ ﴿كُفُوًا﴾ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ وغَيْرُهُ، والأصْلُ أنْ يُؤَخَّرَ إلّا أنَّهُ قُدِّمَ لِلِاهْتِمامِ لِأنَّ المَقْصُودَ نَفْيُ المُكافَأةِ عَنْ ذاتِهِ عَزَّ وجَلَّ، ولِلِاهْتِمامِ أيْضًا قُدِّمَ الخَبَرُ مَعَ ما فِيهِ مِن رِعايَةِ الفَواصِلِ. قِيلَ لَهُ إنَّ الظَّرْفَ هُنا وإنْ لَمْ يَكُنْ خَيِّرًا مُبْطِلٌ سُقُوطُهُ مَعْنى الكَلامِ؛ لِأنَّكَ لَوْ قُلْتَ: لَمْ يَكُنْ كُفُوًا أحَدٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى، فَلَمّا احْتِيجَ إلَيْهِ صارَ بِمَنزِلَةِ الخَبَرِ فَحَسُنَ ذَلِكَ. وقالَ أبُو حَيّانَ: كَلامُ سِيبَوَيْهِ في الظَّرْفِ الَّذِي يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا وهو الظَّرْفُ التّامُّ وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ. وقالَ ابْنُ الحاجِبِ: قُدِّمَ الظَّرْفُ لِلْفَواصِلِ ورِعايَتِها ولَمْ يُقَدَّمْ عَلى «أحَدٌ» لِئَلّا يُفْصَلَ بَيْنَ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ وفِيهِ نَظَرٌ ظاهِرٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الظَّرْفُ حالًا مِن ( أحَدٌ ) قُدِّمَ عَلَيْهِ رِعايَةً لِلْفاصِلَةِ ولِئَلّا يَلْتَبِسَ بِالصِّفَةِ أوِ الصِّلَةِ وأنْ يَكُونَ خَبَرًا لِيَكُنْ، ويَكُونُ ( كُفُوًا ) حالًا مِن ( أحَدٌ ) قُدِّمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً أوْ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ الواقِعِ خَبَرًا، وهَذا الوَجْهُ نَقَلَهُ أبُو عَلِيٍّ في الحُجَّةِ عَنْ بَعْضِ النُّحاةِ ورُدَّ بِأنَّهُ كَما سَمِعْتَ آنِفًا عَنْ أبِي حَيّانَ ظَرْفٌ ناقِصٌ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا، فَإنْ قُدِّرَ لَهُ مُتَعَلِّقٌ خاصٌّ وهو مُماثِلٌ ونَحْوَهُ مِمّا تَتِمُّ بِهِ الفائِدَةُ يَكُونُ ( كُفُوًا ) زائِدًا. ولَعَلَّ وُقُوعَ الجُمَلِ الثَّلاثِ مُتَعاطِفَةً دُونَ ما عَداها مِن هَذِهِ السُّورَةِ لِأنَّها سِيقَتْ لِمَعْنًى وغَرَضٍ واحِدٍ وهو نَفْيُ المُماثَلَةِ والمُناسَبَةِ عَنْهُ تَعالى بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ وما تَضَمَّنَتْهُ أقْسامُها لِأنَّ المُماثِلَ إمّا ولَدٌ أوْ والِدٌ أوْ نَظِيرُ غَيْرِهِما فَلِتَغايُرِ الأقْسامِ واجْتِماعِها في المُقَسَّمِ لَزِمَ العَطْفُ فِيها بِالواوِ كَما هو مُقْتَضى قَواعِدِ المَعانِي. وفي ( كُفُوًا ) لُغاتٌ: ضَمُّ الكافِ وكَسْرُها وفَتْحُها مَعَ سُكُونِ الفاءِ، وضَمُّ الكافِ مَعَ ضَمِّ الفاءِ. وقَرَأ حَمْزَةُ ويَعْقُوبُ ونافِعٌ في رِوايَةٍ: «كُفُؤًا» بِالهَمْزِ والتَّخْفِيفِ وحَفْصٌ بِالحَرَكَةِ وإبْدالِ الهَمْزَةِ واوًا وباقِي السَّبْعَةِ بِالحَرَكَةِ مَهْمُوزًا، وسَهَّلَ الهَمْزَةَ الأعْرَجُ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ ونافِعٌ في رِوايَةٍ، وفي أُخْرى عَنْهُ: «كُفًى» مِن غَيْرِ هَمْزٍ؛ نَقَلَ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ إلى الفاءِ وحَذَفَ الهَمْزَةَ. وقَرَأ سُلَيْمانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ: «كِفاءٌ» بِكَسْرِ الكافِ وفَتْحِ الفاءِ والمَدِّ كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ: لا تَقْذِفَنِّي بِرُكْنٍ لا كِفاءَ لَهُ. أيْ: لا مِثْلَ لَهُ كَما قالَ الأعْلَمُ، وهَذِهِ السُّورَةُ الجَلِيلَةُ قَدِ انْطَوَتْ مَعَ تَقارُبِ قُطْرِها عَلى أشْتاتِ المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ والعَقائِدِ الإسْلامِيَّةِ؛ ولِذا جاءَ فِيها ما جاءَ مِنَ الأخْبارِ، ووَرَدَ ما ورَدَ مِنَ الآثارِ، ودَلَّ عَلى تَحْقِيقِ مَعْنى الآلِهَةِ بِالصَّمَدِيَّةِ الَّتِي مَعْناها وُجُوبُ الوُجُودِ أوِ المَبْدَئِيَّةُ لِوُجُودِ كُلِّ ما عَداهُ مِنَ المَوْجُوداتِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيانِ أنَّهُ لا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ غَيْرُهُ لِأنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ عَنْ غَيْرِهِ، وبَيَّنَ أنَّهُ تَعالى وإنْ كانَ إلَهًا لِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ فَيّاضًا لِلْوُجُودِ عَلَيْها (p-278)فَلا يَجُوزُ أنْ يَفِيضَ الوُجُودَ عَلى مِثْلِهِ كَما لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مِن غَيْرِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِبَيانِ أنَّهُ لَيْسَ في الوُجُودِ ما يُساوِيهِ في قُوَّةِ الوُجُودِ، فَمِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى ﴿الصَّمَدُ﴾ في بَيانِ ماهِيَّتِهِ تَعالى ولَوازِمِ ماهِيَّتِهِ ووَحْدَةِ حَقِيقَتِهِ، وإنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ أصْلًا، ومِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ إلى: ﴿أحَدٌ﴾ في بَيانِ أنَّهُ لَيْسَ ما يُساوِيهِ مِن نَوْعِهِ ولا مِن جِنْسِهِ لا بِأنْ يَكُونَ سُبْحانَهُ مُتَوَلِّدًا، ولا بِأنْ يَكُونَ مُتَوَلَّدًا عَنْهُ، ولا بِأنْ يَكُونَ مُوازًى في الوُجُودِ، وبِهَذا المَبْلَغِ يَحْصُلُ تَمامُ مَعْرِفَةِ ذاتِهِ عَزَّ وجَلَّ. انْتَهى. وأشارَ فِيهِ إلى أنَّهُ ﴿ولَمْ يُولَدْ﴾ كالتَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ وكَأنْ قَدْ قالَ قَبْلُ: إنَّ كُلَّ ما كانَ مادِّيًّا أوْ كانَ لَهُ عَلاقَةٌ بِالمادَّةِ يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِن غَيْرِهِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الكَلامِ: لَمْ يَلِدْ لِأنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّدْ، والإشارَةُ إلى دَلِيلِهِ بِ «هُوَ» أوَّلَ السُّورَةِ فَإنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ماهِيَّةٌ واعْتِبارٌ سِوى أنَّهُ هو لِذاتِهِ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنْ غَيْرِهِ وإلّا لَكانَتْ هُوِيَّتُهُ مُسْتَفادَةً عَنْ غَيْرِهِ فَلا يَكُونُ هو لِذاتِهِ، وظاهِرُ العَطْفِ يَقْتَضِي عَدَمَ اعْتِبارِ ما أشارَ إلَيْهِ مِنَ العِلِّيَّةِ وقَدْ عَلِمْتَ فِيما سَبَقَ وجْهَ ذِكْرِهِ، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ العَطْفَ فِيهِ قَرِيبًا مِن عَطْفِ: «لا يَسْتَقْدِمُونَ» عَلى:«لا يَسْتَأْخِرُونَ». وأشارَ بَعْضُ السَّلَفِ إلى أنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ لِأنَّهُ جاءَ في سَبَبِ النُّزُولِ أنَّهم سَألُوا النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ سُبْحانَهُ مِن أيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ أمِن كَذا أمْ مِن كَذا. ومِمَّنْ ورِثَ الدُّنْيا ولِمَن يُورِّثُها؟ وقالَ الإمامُ: إنَّ هو اللَّهُ أحَدُ ثَلاثَةِ ألْفاظٍ، وكُلِّ واحِدٍ مِنها إشارَةٌ إلى مَقامٍ مِن مَقاماتِ الطّالِبِينَ، فالمَقامُ الأوَّلُ مَقامُ المُقَرَّبِينَ وهو أعْلى مَقاماتِ السّائِرِينَ إلى اللَّهِ تَعالى، وهَؤُلاءِ نَظَرُوا بِعُيُونِ عُقُولِهِمْ إلى ماهِيّاتِ الأشْياءِ وحَقائِقِها مِن حَيْثُ هي فَما رَأوْا مَوْجُودًا سِوى الحَقِّ لِأنَّهُ الَّذِي يَجِبُ وُجُودُهُ لِذاتِهِ وما عَداهُ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ فَهو مِن حَيْثُ ذاتُهُ لَيْسَ، فَقالُوا: هو إشارَةٌ إلى الحَقِّ؛ إذْ لَيْسَ هُناكَ في نَظَرِهِمْ مَوْجُودٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ سِواهُ عَزَّ وجَلَّ لِيَحْتاجَ إلى التَّمْيِيزِ، والمَقامُ الثّانِي لِأصْحابِ اليَمِينِ هَؤُلاءِ شاهَدُوا الحَقَّ سُبْحانَهُ مَوْجُودًا وكَذا شاهَدُوا الخَلْقَ فَحَصَلَتْ كَثْرَةٌ في المَوْجُوداتِ في نَظَرِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ هو كافِيًا في الإشارَةِ إلى الحَقِّ بَلْ لا بُدَّ مِن مُمَيِّزٍ فاحْتاجُوا إلى أنْ يَقْرِنُوا لَفْظَةَ اللَّهِ بِلَفْظٍ فَقِيلَ لِأجْلِهِمْ: هو اللَّهُ. والمَقامُ الثّالِثُ: مَقامُ أصْحابِ الشِّمالِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أنْ يَكُونَ واجِبُ الوُجُودِ أكْثَرَ مِن واحِدٍ، والإلَهُ كَذَلِكَ فَجِيءَ بِ «أحَدٌ» رَدًّا عَلَيْهِمْ وإبْطالًا لِمَقالَتِهِمُ انْتَهى. وبَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَدَّ لَفْظَةَ «هُوَ» مِن عِدادِ الأسْماءِ الحُسْنى، بَلْ قالَ: إنَّ هاءَ الغَيْبَةِ هي اسْمُهُ تَعالى الحَقِيقِيُّ لِدَلالَتِهِ عَلى الهُوِيَّةِ المُطْلَقَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِن ضَرُورِيّاتِ التَّنَفُّسِ الَّذِي بِهِ بَقاءُ حَياةِ النَّفْسِ وإشْغارُ رَسْمِهِ بِالإحاطَةِ ومَرْتَبَتِهِ مِنَ العَدَدِ إلى دَوامِهِ وعَدَمِ فَنائِهِ. ونَقَلَ الدَّوانِيُّ عَنِ الإمامِ أنَّهُ قالَ: عَلَّمَنِي بَعْضُ المَشايِخِ: يا هُوَ، يا مَن هُوَ، يا مَن لا إلَهَ إلّا هُوَ، وعَلى ذَلِكَ اعْتِقادُ أكْثَرِ المَشايِخِ اليَوْمَ. ولَمْ يَرِدْ ذَلِكَ في الأخْبارِ المَقْبُولَةِ عِنْدَ المُحَدِّثِينَ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب