الباحث القرآني

﴿ويا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ أيْ غايَةَ تَمَكُّنِكم مِن أمْرِكم وأقْصى اسْتِطاعَتِكم وإمْكانِكم وهو مَصْدَرُ مَكَّنَ يُقالُ: مَكَّنَ مَكانَةً إذا تَمَكَّنَ أبْلَغُ والمِيمُ عَلى هَذا أصْلِيَّةٌ، وفي البَحْرِ يُقالُ: المَكانُ والمَكانَةُ مَفْعَلٌ ومَفْعَلَةٌ (p-127)مِنَ الكَوْنِ والمِيمُ حِينَئِذٍ زائِدَةٌ، وفَسَّرَ ابْنُ زَيْدٍ المَكانَةَ بِالحالِ يُقالُ: عَلى مَكانَتِكَ يا فُلانُ إذا أمَرْتَهُ أنْ يَثْبُتَ عَلى حالِهِ كَأنَّكَ قُلْتَ: اثْبُتْ عَلى حالِكَ الَّتِي أنْتَ عَلَيْها لا تَنْحَرِفُ، وهو مِنِ اسْتِعارَةِ العَيْنِ لِلْمَعْنى كَما نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وحاصِلُ المَعْنى هَهُنا اثْبُتُوا عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والمَشاقَّةِ لِي وسائِرِ ما لا خَيْرَ فِيهِ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ -مَكاناتِكُمْ- عَلى الجَمْعِ وهو بِاعْتِبارِ جَمْعِ المُخاطَبِينَ كَما أنَّ الإفْرادَ بِاعْتِبارِ الجِنْسِ، والجارُّ والمَجْرُورُ كَما قالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِما عِنْدَهُ عَلى تَضْمِينِ الفِعْلِ عَلى مَعْنى البِناءِ ونَحْوِهِ كَما تَقُولُ: عَمِلَ عَلى الجِدِّ وعَلى القُوَّةِ ونَحْوَهُما، وأنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، أيِ اعْمَلُوا قارِّينَ وثابِتِينَ عَلى مَكانَتِكم. ﴿إنِّي عامِلٌ﴾ عَلى مَكانَتِي حَسْبَما يُؤَيِّدُنِي اللَّهُ تَعالى ويُوَفِّقُنِي بِأنْواعِ التَّأْيِيدِ والتَّوْفِيقِ وكَأنَّهُ حُذِفَ عَلى مَكانَتِي لِلِاخْتِصارِ ولِما فِيهِ مِن زِيادَةِ الوَعِيدِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابَ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ ناشِئٍ مِن تَهْدِيدِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإيّاهم بِقَوْلِهِ ( اعْمَلُوا ) إلَخْ كَأنَّ سائِلًا مِنهم سَألَ فَماذا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقِيلَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ولِذا سَقَطَتِ الفاءُ وذُكِرَتْ في آيَةِ الأنْعامِ لِلتَّصْرِيحِ بِأنَّ الوَعِيدَ ناشِئٌ ومُتَفَرِّعٌ عَنْ إصْرارِهِمْ عَلى ما هم عَلَيْهِ والتَّمَكُّنِ فِيهِ، وما هُنا أبْلُغُ في التَّهْوِيلِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يُسْألُ عَنْهُ ويُعْتَنى بِهِ، والسُّؤالُ المُقَدَّرُ يَدُلُّ عَلى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الفاءُ مَعَ ما في ذَلِكَ مِن تَكْثِيرِ المَعْنى بِتَقْلِيلِ اللَّفْظِ، وكَأنَّ الدّاعِيَ إلى الإتْيانِ بِالأبْلَغِ هُنا دُونَ ما تَقَدَّمَ أنَّ القَوْمَ قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى بالَغُوا في الِاسْتِهانَةِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وبَلَغُوا الغايَةَ في ذَلِكَ فَناسَبَ أنْ يُبالِغَ لَهم في التَّهْدِيدِ ويَبْلُغَ فِيهِ الغايَةَ وإنْ كانُوا في عَدَمِ الِانْتِفاعِ كالأنْعامِ وما فِيها نَحْوَ ذَلِكَ. وقالَ بَعْضُ أجِلَّةِ الفُضَلاءِ: إنَّ اخْتِيارَ إحْدى الطَّرِيقَيْنِ ثَمَّةَ والأُخْرى هُنا وإنْ كانَ مِثْلُهُ لا يُسْألُ عَنْهُ لِأنَّهُ دَوْرِيٌّ، لِأنَّ أوَّلَ الذِّكْرَيْنِ يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ فَيُناسِبُ في الثّانِي خِلافَهُ، انْتَهى، وهو دُونَ ما قُلْناهُ و(مَن) في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ﴾ قِيلَ: مَوْصُولَةٌ مَفْعُولُ العِلْمِ وهو بِمَعْنى العِرْفانِ وجُمْلَةُ (يَأْتِيهِ العَذابُ) صِلَةُ المَوْصُولِ وجُمْلَةُ ( يُخْزِيهِ ) صِفَةُ ( عَذابٌ ) ووَصَفَهُ بِالإخْزاءِ تَعْرِيضًا بِما أوْعَدُوهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الرَّجْمِ فَإنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ عَذابًا فِيهِ خِزْيٌ ظاهِرٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن هو كاذِبٌ﴾ عَطْفٌ عَلى ( مَن يَأْتِيهِ ) و(مَن) أيْضًا مَوْصُولَةٌ وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ (مَن) في المَوْضِعَيْنِ اسْتِفْهامِيَّةً والعِلْمُ عَلى بابِهِ وهي مُعَلِّقَةٌ لَهُ عَنِ العَمَلِ. واسْتَظْهَرَ أبُو حَيّانَ المَوْصُولِيَّةَ ولَيْسَ هَذا العَطْفُ مِن عَطْفِ القَسِيمِ عَلى قَسِيمِهِ كَما في سَيَعْلَمُ الصّادِقُ والكاذِبُ، إذْ لَيْسَ القَصْدُ إلى ذِكْرِ الفَرِيقَيْنِ، وإنَّما القَصْدُ إلى الرَّدِّ عَلى القَوْمِ في العَزْمِ عَلى تَعْذِيبِهِ بِقَوْلِهِمْ: لَرَجَمْناكَ، والتَّصْمِيمُ عَلى تَكْذِيبِهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ..﴾ إلَخْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: سَيَظْهَرُ لَكم مَنِ المُعَذَّبُ أنْتُمْ أمْ نَحْنُ، ومَنِ الكاذِبُ في دَعْواهُ أنا أمْ أنْتُمْ، وفِيهِ إدْراجُ حالِ الفَرِيقَيْنِ أيْضًا. وفِي الإرْشادِ أنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِكَذِبِهِمْ في ادِّعائِهِمُ القُوَّةَ والقُدْرَةَ عَلى رَجْمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وفي نِسْبَتِهِ إلى الضَّعْفِ والهَوانِ، وفي ادِّعائِهِمُ الإبْقاءَ عَلَيْهِ لِرِعايَةِ جانِبِ الرَّهْطِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهُ كانَ القِياسُ -ومَن هو صادِقٌ- بَدَلَ هَذا المَعْطُوفِ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ عَمَلَهم عَلى مَكانَتِهِمْ وعَمَلَهُ عَلى مَكانَتِهِ، ثُمَّ أتْبَعَهُ ذِكْرَ عاقِبَةِ العامِلِينَ مِنهُ ومِنهم فَحِينَئِذٍ يَنْصَرِفُ ( مَن يَأْتِيهِ ) إلَخْ إلى الجاحِدِينَ ومَن هو صادِقٌ إلى النَّبِيِّ المَبْعُوثِ، ولَكِنَّهم لَمّا كانُوا يَدْعُونَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كاذِبًا قالَ: ومَن هو كاذِبٌ بِمَعْنى في زَعْمِكم ودَعْواكم تَجْهِيلًا لَهم يَعْنِي أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ جَرى في الذِّكْرِ (p-128)عَلى ما اعْتادُوهُ في تَسْمِيَتِهِ كاذِبًا تَجْهِيلًا لَهُمْ، والمَعْنى سَتَعْلَمُونَ حالَكم وحالَ الصّادِقِ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ كاذِبًا لِجَهْلِكُمْ، ولَيْسَ المُرادُ سَتَعْلَمُونَ أنَّهُ كاذِبٌ في زَعْمِكم فَلا يَرِدُ ما تَوَهَّمَ مِن أنَّ كَذِبَهُ في زَعْمِهِمْ واقِعٌ مَعْلُومٌ لَهُمُ الآنَ، فَلا مَعْنًى لِتَعْلِيقِ عِلْمِهِ عَلى المُسْتَقْبَلِ، وقالَ ابْنُ المُنِيرِ: الظّاهِرُ أنَّ الكَلامَيْنِ جَمِيعًا لَهم -فَمَن يَأْتِيهِ- إلَخْ مُتَضَمِّنٌ ذِكْرَ جَزائِهِمْ -ومَن هو كاذِبٌ- مُتَضَمِّنٌ ذِكْرَ جُرْمِهِمُ الَّذِي يُجازَوْنَ بِهِ وهو الكَذِبُ، وهو مِن عَطْفِ الصِّفَةِ عَلى الصِّفَةِ، والمَوْصُوفُ واحِدٌ كَما تَقُولُ لِمَن تُهَدِّدُهُ: سَتَعْلَمُ مَن يُهانُ ومَن يُعاقَبُ، وأنْتَ تَعْنِي المُخاطَبَ في الكَلامَيْنِ فَيَكُونُ في ذِكْرِ كَذِبِهِمْ تَعْرِيضٌ لِصِدْقِهِ وهو أبْلَغُ وأوْقَعُ مِنَ التَّصْرِيحِ؛ ولِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ عاقِبَةَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتِغْناءً بِذِكْرِ عاقِبَتِهِمْ، وقَدْ مَرَّ مِثْلُ ذَلِكَ أوَّلَ السُّورَةِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ حَيْثُ اكْتَفى بِذَلِكَ عَنْ أنْ يَقُولَ: ومَن هو عَلى خِلافِ ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ﴾ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ إحْدى العاقِبَتَيْنِ لِأنَّ المُرادَ بِهَذِهِ العاقِبَةِ عاقِبَةُ الخَبَرِ لِأنَّها مَتى أُطْلِقَتْ لا يَعْنِي إلّا ذَلِكَ نَحْوُ ﴿والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ولِأنَّ اللّامَ في (لَهُ) يَدُلُّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ عَلَيْهِ واسْتَغْنى عَنْ ذِكْرِ مُقابِلِها انْتَهى، وتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِما رَدَّهُ عَلَيْهِ الفاضِلُ الجَلْبِيُّ ﴿وارْتَقِبُوا﴾ أيِ انْتَظِرُوا ما أقُولُ لَكم مِن حُلُولِ ما أعِدُكم بِهِ وظُهُورِ صِدْقِهِ ﴿إنِّي مَعَكم رَقِيبٌ﴾ أيْ مُنْتَظِرٌ ذَلِكَ، وقِيلَ: المَعْنى انْتَظِرُوا العَذابَ إنِّي مُنْتَظِرٌ النُّصْرَةَ والرَّحْمَةَ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ و( رَقِيبٌ ) إمّا بِمَعْنى مُرْتَقِبٍ كالرَّفِيعِ المُرْتَفِعِ أوْ راقِبٍ كالصَّرِيمِ بِمَعْنى الصّارِمِ أوْ مُراقِبٍ كَعَشِيرٍ بِمَعْنى مُعاشِرٍ، والأنْسَبُ عَلى ما قِيلَ بِقَوْلِهِ (ارْتَقِبُوا) الأوَّلُ وإنْ كانَ مَجِيءُ فَعِيلٍ بِمَعْنى اسْمِ الفاعِلِ المَزِيدِ غَيْرَ كَثِيرٍ، وفي زِيادَةِ ( مَعَكم ) إظْهارٌ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِكَمالِ الوُثُوقِ بِأمْرِهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب