الباحث القرآني
قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قالَ يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ حُجَّةٍ ظاهِرَةٍ مِن رَبِّي ومالِكٌ أُمُورِي ورَزَقَنِي مِنهُ مِن لَدُنْهِ سُبْحانَهُ رِزْقًا حَسَنًا هو النُّبُوَّةُ والحِكْمَةُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، والجَوابُ عَلَيْهِ مِن بابِ إرْخاءِ العِنانِ، والكَلامُ المُصَنَّفُ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: صَدَقْتُمْ فِيما قُلْتُمْ إنِّي لَمْ أزَلْ مُرْشِدًا لَكم حَلِيمًا فِيما بَيْنَكم لَكِنْ ما جِئْتُ بِهِ لَيْسَ غَيْرَ الإرْشادِ والنَّصِيحَةِ لَكُمُ، انْظُرُوا بِعَيْنِ الإنْصافِ وأنْتُمْ ألِبّاءٌ إنْ كُنْتُ عَلى حُجَّةٍ واضِحَةٍ ويَقِينٍ مِن رَبِّي وكُنْتُ نَبِيًّا عَلى الحَقِيقَةِ، أيَصِحُّ لِي وأنا مُرْشِدُكم والنّاصِحُ لَكم أنْ لا آمُرَكم بِتَرْكِ الأوْثانِ والكَفِّ عَنِ المَعاصِي، والأنْبِياءُ لا يُبْعَثُونَ إلّا لِذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أكَّدَ مَعْنى الإرْشادِ وأدْرَجَ مَعِيَّ الحِلْمِ فِيما سَيَأْتِي مِن كَلامِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَذا قَرَّرَهُ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ.
واخْتارَ شَيْخُ الإسْلامِ عَدَمَ كَوْنِهِ باقِيًا عَلى الظّاهِرِ لِما أنَّ مَقامَ الِاسْتِهْزاءِ آبٍ عَنْهُ، وذَكَرَ قَدَّسَ سِرَّهُ أنَّ المُرادَ بِالبَيِّنَةِ والرِّزْقِ الحَسَنِ النُّبُوَّةُ والحِكْمَةُ، وأنَّ التَّعْبِيرَ عَنْهُما بِذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُما مَعَ كَوْنِهِما بَيِّنَةَ رِزْقٍ حَسَنٍ كَيْفَ لا وذَلِكَ مَناطُ الحَياةِ الأبَدِيَّةِ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولِأُمَّتِهِ، وأنَّ هَذا الكَلامَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَدٌّ عَلى (p-119)مَقالَتِهِمُ الشَّنْعاءِ المُتَضَمِّنَةِ زَعْمَ عَدَمِ اسْتِنادِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ إلى سَنَدٍ ثُمَّ قالَ: وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَحْوى الكَلامِ، أيْ أتَقُولُونَ والمَعْنى أنَّكم عَدَدْتُمْ ما صَدَرَ عَنِّي مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي مِن قَبِيلِ ما لا يَصِحُّ أنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ عاقِلٌ وجَعَلْتُمُوهُ مِن أحْكامِ الوَسْوَسَةِ والجُنُونِ، واسْتَهْزَأْتُمْ بِي وبِأفْعالِي وقُلْتُمْ ما قُلْتُمْ فَأخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ مِن جِهَةِ رَبِّي ومالِكِ أُمُورِي ثابِتًا عَلى النُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ الَّتِي لَيْسَ وراءَها غايَةٌ لِلْكَمالِ ولا مَطْمَحَ لِطامِحٍ ورَزَقَنِي لِذَلِكَ رِزْقًا حَسَنًا أتَقُولُونَ في شَأْنِي وشَأْنِ أفْعالِي ما تَقُولُونَ مِمّا لا خَيْرَ فِيهِ ولا شَرَّ وراءَهُ ! وادَّعى أنَّ هَذا هو الجَوابُ الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ السِّياقُ ويُساعِدُهُ النَّظْمُ الكَرِيمُ.
وفَسَّرَ القاضِي الرِّزْقَ الحَسَنَ بِما آتاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ المالِ الحَلالِ، ومَعْنى كَوْنِ ذَلِكَ مِنهُ تَعالى أنَّهُ مِن عِنْدِهِ سُبْحانَهُ وبِإعانَتِهِ بِلا كَدٍّ في تَحْصِيلِهِ، وقُدِّرَ جَوابُ الشَّرْطِ فَهَلْ يَسَعُ مَعَ هَذا الإنْعامِ الجامِعِ لِلسَّعادَةِ الرُّوحانِيَّةِ والجُسْمانِيَّةِ أنْ أخُونَ في وحْيِهِ وأُخالِفَهُ في أمْرِهِ ونَهْيِهِ، وذَكَرَ أنَّ هَذا الكَلامَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ اعْتِذارٌ عَمّا أنْكَرُوا عَلَيْهِ مِن تَغْيِيرِ المَأْلُوفِ والنَّهْيِ عَنْ دِينِ الآباءِ، وقَدَّرَ بَعْضُهم ما قَدَّرَهُ العَلّامَةُ الطِّيبِيُّ.
وزَعَمَ شَيْخُ الإسْلامِ أنَّ ذَيْنَكَ التَّقْدِيرَيْنِ بِمَعْزِلٍ عَمّا يَسْتَدْعِيهِ السِّياقُ، وأنَّهُما إنَّما يُناسِبانِ إنْ حُمِلَ كَلامُهم عَلى الحَقِيقَةِ وأُرِيدَ بِالصَّلاةِ الدِّينَ حَسْبَما نُقِلَ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ وعَطاءٍ، ويَكُونُ المُرادُ بِالرِّزْقِ الحَسَنِ عَلى ذَلِكَ ما آتاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الحَلالِ فَقَطْ كَما رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ، ويَكُونُ المَعْنى حِينَئِذٍ أخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ نَبِيًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى ورَزَقَنِي مالًا حَلالًا أسْتَغْنِي بِهِ عَنِ العالَمِينَ أيَصِحُّ أنْ أُخالِفَ أمْرَهُ أوْ أُوافِقَكم فِيما تَأْتُونَ وما تَذَرُونَ، انْتَهى.
وأقُولُ: لا يَخْفى أنَّ المُناسِبَ لِلْمَقامِ حَمْلُ الرِّزْقِ الحَسَنِ عَلى ما آتاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الحَلالِ الخالِي عَنِ التَّطْفِيفِ والبَخْسِ، وتَقْدِيرُ جَوابِ الشَّرْطِ نَحْوَ ما قَدَّرَهُ القاضِي لَيْسَ في الكَلامِ ما يَأْبى عَنْهُ ولا يَتَوَقَّفُ عَلى حَمْلِ الكَلامِ عَلى الحَقِيقَةِ والصَّلاةِ عَلى الدِّينِ، بَلْ يَتَأتّى تَقْدِيرُ ذَلِكَ ولَوْ كانَ الكَلامُ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ والصَّلاةُ بِالمَعْنى المُتَبادِرِ بِأنْ يُقالَ: إنَّهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى لَمّا قالُوا في ظِلالِ الضَّلالِ وقالُوا ما قالُوا في حَقِّ نَبِيِّهِمْ وما صَدَرَ مِنهُ مِنَ الأفْعالِ لَمْ يَكُنْ لَهم مَقْصُودٌ إلّا تَرْكَ الدَّعْوَةِ وتَرْكَهم وما يَفْعَلُونَ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ عَلَيْهِ السَّلامُ صَرِيحًا لِرَدِّ قَوْلِهِمُ المُتَضَمِّنِ لِرَمْيِهِ وحاشاهُ بِالوَسْوَسَةِ والجُنُونِ والسَّفَهِ والغِوايَةِ إيذانًا بِأنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يَسْتَحِقُّ جَوابًا لِظُهُورِ بُطْلانِهِ وتَعَرَّضَ لِجَوابِهِمْ عَمّا قَصَدُوهُ بِكَلامِهِمْ ذَلِكَ مِمّا يَكُونُ فِيهِ قَطْعُ أطْماعِهِمْ مِن أوَّلِ الأمْرِ مَعَ الإشارَةِ إلى رَدِّ ما تَضَمَّنَتْهُ مَقالَتُهُمُ الشَّنْعاءُ، فَكَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لَهُمْ: يا قَوْمِ إنَّكُمُ اجْتَرَأْتُمْ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ الشَّنِيعَةِ وضَمَّنْتُمُوها ما هو ظاهِرُ البُطْلانِ لِقَصْدِ أنْ أتْرُكَكم وشَأْنَكم مِن عِبادَةِ الأوْثانِ ونَقْصِ المِكْيالِ والمِيزانِ، فَأخْبِرُونِي إنْ كُنْتُ نَبِيًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى ومُسْتَثْنِيًّا بِما رَزَقَنِي مِنِ المالِ الحَلالِ عَنْكم وعَنْ غَيْرِكم أيَصِحُّ أنْ أُخالِفَ وحْيَهُ وأُوافِقَ هَواكُمْ؟ لا يَكُونُ ذَلِكَ مِنِّي أصْلًا فَإذَنْ لا فائِدَةَ لَكم في هَذا الكَلامِ الشَّنِيعِ ورُبَّما يُقالُ: إنَّ في هَذا الجَوابِ إشارَةً إلى وصْفِهِمْ بِنَحْوِ ما وصَفُوهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَأنَّهُ قالَ: إنَّ طَلَبَكم مِنِّي تَرْكَ الدَّعْوَةِ ومُوافَقَةَ الهَوى مَعَ أنِّي مَأْمُورٌ بِدَعْوَتِكم وغَنِيٌّ عَنْكم مِمّا لا يَصْدُرُ عَنْ عاقِلٍ ولا يَرْتَكِبُهُ إلّا سَفِيهٌ غاوٍ وكَأنَّ التَّعَرُّضَ لِذِكْرِ الرِّزْقِ مَعَ الكَوْنِ عَلى بَيِّنَةٍ لِلْإشارَةِ إلى وُجُودِ المُقْتَضى وارْتِفاعِ ما يُظَنُّ مانِعًا، ولا يَخْفى ما في إخْراجِ الجَوابِ عَلى هَذا الوَجْهِ مِنَ الحُسْنِ فَتَأمَّلْ.
بَقِيَ أنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ النُّحاةُ عَلى ما قالَ أبُو حَيّانَ في مِثْلِ هَذا الكَلامِ أعْنِي أرَأيْتُمْ إنْ كُنْتُ إلَخْ أنْ تُقَدَّرَ (p-120)الجُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِيَّةُ عَلى أنَّها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي -لِأرَأيْتُمُ- المُتَضَمِّنَةِ مَعْنى أخْبَرُونِي المُتَعَدِّيَةِ إلى مَفْعُولَيْنِ والغالِبُ في الثّانِي أنْ يَكُونَ جُمْلَةً اسْتِفْهامِيَّةً، وجَوابُ الشَّرْطِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ مَعَ مُتَعَلِّقِها والتَّقْدِيرُ إنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي فَأخْبِرُونِي هَلْ يَسَعُ لِي إلَخْ.. فافْهَمْ ولا تَغْفُلْ، وما أُرِيدُ بِنَهْيِي إيّاكم عَمّا أنْهاكم عَنْهُ مِنَ البَخْسِ والتَّطْفِيفِ ﴿أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ أيْ أقْصِدُهُ بَعْدَما تَوَلَّيْتُمْ عَنْهُ فَأسْتَبِدُّ بِهِ دُونَكم كَما هو شَأْنُ بَعْضِ النّاسِ في المَنعِ عَنْ بَعْضِ الأُمُورِ يُقالُ: خالَفَنِي فُلانٌ إلى كَذا إذا قَصَدَهُ وأنْتَ مُوَلٍّ عَنْهُ وخالَفَنِي عَنْهُ إذا ولّى عَنْهُ وأنْتَ قاصِدُهُ.
قالَ في البَحْرِ: والظّاهِرُ ما ذَكَرُوهُ أنَّ ﴿أنْ أُخالِفَكُمْ﴾ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ -لِأُرِيدُ- أيْ وما أُرِيدُ مُخالَفَتَكُمْ، ويَكُونُ خالَفَ بِمَعْنى خَلَفَ نَحْوُ جاوَزَ وجازَ، ويَكُونُ المَعْنى وما أُرِيدُ أنْ أكُونَ خَلَفًا مِنكم و(إلى) مُتَعَلِّقَةٌ بِأُخالِفَ أوْ بِمَحْذُوفٍ أيْ مائِلًا إلى ما أنْهاكم عَنْهُ، وقِيلَ: في الكَلامِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ مَعْطُوفٌ عَلى المَذْكُورِ، أيْ وأمِيلُ إلى إلَخْ... ويَجُوزُ أنْ يَبْقى (أُخالِفُ) عَلى ظاهِرِهِ مِنَ المُخالَفَةِ ويَكُونُ (أنْ) وما بَعْدَها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ –لِأُرِيدَ- ويُقَدَّرُ مائِلًا إلى كَما تَقَدَّمَ أوْ يَكُونُ (أنْ) وما بَعْدَها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لَهُ و(إلى ما) مُتَعَلِّقًا -بِأُرِيدُ- أيْ وما أقْصِدُ لِأجْلِ مُخالَفَتِكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ، وقالَ الزَّجّاجُ في مَعْنى ذَلِكَ: أيْ ما أقْصِدُ بِخِلافِكم إلى ارْتِكابِ ما أنْهاكم عَنْهُ ﴿إنْ أُرِيدُ﴾ أيْ ما أُرِيدُ بِما أقُولُ لَكم ﴿إلا الإصْلاحَ﴾ أيْ إلّا أنْ أُصْلِحَكم بِالنَّصِيحَةِ والمَوْعِظَةِ ما اسْتَطَعْتُ أيْ مُدَّةَ اسْتِطاعَتِي ذَلِكَ وتَمَكُّنِّي مِنهُ لا آلُو فِيهِ جُهْدًا، فَما مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ.
وجَوَّزَ فِيها أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بَدَلًا مِنَ الإصْلاحِ أيِ المِقْدارِ الَّذِي اسْتَطَعْتُهُ أوْ إلّا الإصْلاحَ إصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ، وهي إمّا بَدَلُ بَعْضٍ أوْ كُلٍّ لِأنَّ المُتَبادِرَ مِنَ الإصْلاحِ ما يُقْدَرُ عَلَيْهِ، وقِيلَ: بَدَلُ اشْتِمالٍ، وعَلَيْهِ وعَلى الأوَّلِ يُقَدَّرُ ضَمِيرٌ أيْ مِنهُ لِأنَّهُ في مِثْلِ ذَلِكَ لا بُدَّ مِنهُ وجَوَّزَ أيْضًا أنْ تَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِلْمَصْدَرِ المَذْكُورِ كَقَوْلِهِ:
؎ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْداءَهُ يُخالُ الفِرارَ يُراخِي الأجَلَ
أيْ ما أُرِيدُ إلّا أنْ أُصْلِحَ ما اسْتَطَعْتُ إصْلاحَهُ مِن فاسِدِكُمُ الأبْلَغُ الأظْهَرُ ما قَدَّمْناهُ لِأنَّ في احْتِمالِ البَدَلِيَّةِ إضْمارًا وفَواتَ المُبالَغَةِ، وفي الِاحْتِمالِ الأخِيرِ إعْمالُ المَصْدَرِ المُعَرَّفِ في المَفْعُولِ بِهِ، وفِيهِ مَعَ أنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ ويَقِلُّ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ فَواتُها وزِيادَةُ إضْمارِ مَفْعُولِ اسْتَطَعْتُ ﴿وما تَوْفِيقِي﴾ أيْ ما كَوْنِي مُوَفَّقًا لِتَحْقِيقِ ما أتَوَخّاهُ مِن إصْلاحِكم إلّا بِاللَّهِ أيْ بِتَأْيِيدِهِ سُبْحانَهُ ومَعُونَتِهِ.
واخْتارَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ المُرادُ وما تَوْفِيقِي لِإصابَةِ الحَقِّ والصَّوابِ في كُلِّ ما آتِي وأذَرُ إلّا بِهِدايَتِهِ تَعالى ومَعُونَتِهِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ وما كَلُّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ تَوْفِيقِي لِما صَرَّحُوا بِهِ مِن أنَّ المَصْدَرَ المُضافَ مِن صِيَغِ العُمُومِ ويُؤَوَّلُ إلى هَذا ما قِيلَ: إنَّ المَعْنى ما جِنْسُ تَوْفِيقِي؛ لِأنَّ انْحِصارَ الجِنْسِ يَقْتَضِي انْحِصارَ أفْرادِهِ، لَكِنْ عَلى الأوَّلِ بِطَرِيقِ المَفْهُومِ وعَلى الثّانِي بِطَرِيقِ المَنطُوقِ، وتَقْدِيرُ المُضافِ بَعْدَ الباءِ مِمّا التَزَمَهُ كَثِيرٌ وفِيهِ عَلى ما قِيلَ: دَفْعُ الِاسْتِشْكالِ بِأنَّ فاعِلَ التَّوْفِيقِ هو اللَّهُ تَعالى وأهْلُ العَرَبِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ نِسْبَةَ الفِعْلِ إلى الفاعِلِ بِالباءِ لِأنَّها تَدْخُلُ عَلى الآلَةِ فَلا يَحْسُنُ ضَرْبِي بِزَيْدٍ وإنَّما يُقالُ: مِن زَيْدٍ فالِاسْتِعْمالُ الفَصِيحُ بِناءً عَلى هَذا وما تَوْفِيقِي إلّا مِن عِنْدِ اللَّهِ (p-121)ووَجْهُ الدَّفْعِ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ ظاهِرٌ لِأنَّ الدُّخُولَ لَيْسَ عَلى الفاعِلِ حِينَئِذٍ.
وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِما أنَّ التَّوْفِيقَ وهو كَوْنُ فِعْلِ العَبْدِ مُوافِقًا لِما يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعالى ويَرْضاهُ لا يَكُونُ إلّا بِدَلالَةِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ، ومُجَرَّدُ الدَّلالَةِ لا يُجْدِي بِدُونِ المَعُونَةِ مِنهُ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ذَلِكَ أوْ في جَمِيعِ أُمُورِي لا عَلى غَيْرِهِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ القادِرُ المُتَمَكِّنُ مِن كُلِّ شَيْءٍ وغَيْرُهُ سُبْحانَهُ عاجِزٌ في حَدِّ ذاتِهِ بَلْ مَعْدُومٌ ساقِطٌ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبارِ كَما أشارَ إلَيْهِ الكِتابُ وعايَنَهُ أُولُو البَصائِرِ والألْبابِ وإلَيْهِ المَصِيرُ.
أيْ أرْجِعُ فِيما أنا بِصَدَدِهِ أوْ أقْبَلُ بِشَرٍّ اسْتَشْرى في مَجامِعِ أُمُورِي لا إلى غَيْرِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها وكَأنَّ إيثارَ صِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ فِيها عَلى الماضِي الأنْسَبُ لِلتَّقَرُّرِ والتَّحَقُّقِ كَما في التَّوَكُّلِ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ والدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ، ولا يَخْفى ما في جَوابِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِمّا لا يَكادُ يُوجَدُ في كَلامِ خَطِيبٍ إلّا أنْ يَكُونَ نَبِيًّا.
وفِي أنْوارِ التَّنْزِيلِ لِأجْوِبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ الثَّلاثَةِ يَعْنِي يا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إلَخْ.. وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلَخْ.. وإنْ أُرِيدُ إلَخْ.. عَلى هَذا النَّسَقِ شَأْنٌ وهو التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ العاقِلَ يَجِبُ أنْ يُراعِيَ في كُلِّ ما يَأْتِيهِ ويَذَرُهُ ثَلاثَةَ حُقُوقٍ أهَمُّها وأعْلاها حَقُّ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ الجَوابَ الأوَّلَ مُتَضَمِّنٌ بَيانَ حَقِّ اللَّهِ تَعالى مِن شُكْرِ نِعْمَتِهِ والِاجْتِهادِ في خِدْمَتِهِ، وثانِيها حَقُّ النَّفْسِ فَإنَّ الجَوابَ الثّانِيَ مُتَضَمِّنٌ بَيانَ حَقِّ نَفْسِهِ مِن كَفِّها عَمّا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَهِيَ عَنْهُ غَيْرُهُ، وثالِثُها حَقُّ النّاسِ فَإنَّ الجَوابَ الثّالِثَ مُتَضَمِّنٌ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ حَقَّ الغَيْرِ إصْلاحُهُ وإرْشادُهُ، وإنَّما لَمْ يَعْطِفْ قَوْلَهُ: إنْ أُرِيدُ إلَخْ.. عَلى ما قَبْلَهُ لِكَوْنِهِ مُؤَكِّدًا ومُقَرِّرًا لَهُ لِأنَّهُ لَوْ أرادَ الِاسْتِئْثارَ بِما نُهِيَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْإصْلاحِ ولا يُنافِي هَذا كَوْنَهُ مُتَضَمِّنًا لِجَوابٍ آخَرَ، وكَأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما تَوْفِيقِي﴾ إلَخْ.. إزاحَةٌ لِما عَسى أنْ يُوهِمَهُ إسْنادُ الِاسْتِطاعَةِ إلَيْهِ بِإرادَتِهِ مِنِ اسْتِبْدادِهِ بِذَلِكَ، ونَظِيرُ ذَلِكَ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وفِيهِ مَعَ ما بَعْدَهُ إشارَةٌ إلى مَحْضِ التَّوْحِيدِ وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ كَلامُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى مُراعاةِ لُطْفِ المُراجَعَةِ ورِفْقِ الِاسْتِنْزالِ والمُحافَظَةِ عَلى حُسْنِ المُجاراةِ والمُحاوَرَةِ وتَمْهِيدِ مَعاقِدِ الحَقِّ بِطَلَبِ التَّوْفِيقِ مِن جانِبِهِ تَعالى، والِاسْتِعانَةِ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ في أُمُورِهِمْ وحَسْمِ أطْماعِ الكُفّارِ وإظْهارِ الفَراغِ عَنْهم وعَدَمِ المُبالاةِ بِمُعاداتِهِمْ، قِيلَ: وفِيهِ أيْضًا تَهْدِيدُهم بِالرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَعالى لِلْجَزاءِ وذَلِكَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإلَيْهِ أُنِيبُ﴾ لِأنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ يُكَنّى بِهِ عَنِ الجَزاءِ وهو وإنْ كانَ هُنا مَخْصُوصًا بِهِ لِاقْتِضاءِ المَقامِ لَهُ لَكِنَّهُ لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ، وفِيهِ مَعَ خَفاءِ وجْهِ الإشارَةِ أنَّ الإنابَةَ إنَّما هي الرُّجُوعُ الِاخْتِيارِيُّ بِالفِعْلِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ لا الرُّجُوعُ الِاضْطِرارِيُّ لِلْجَزاءِ وما يَعُمُّهُ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ في قَوْلِهِ: ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) إشارَةً أيْضًا إلى تَهْدِيدِهِمْ لِأنَّهُ عَزَّ وجَلَّ الكافِي المُعِينُ لِمَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لَكِنْ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا بِالجَزاءِ يَوْمَ القِيامَةِ ويَقُولُ
{"ayah":"قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَءَیۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّی وَرَزَقَنِی مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنࣰاۚ وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِیقِیۤ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ أُنِیبُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق