الباحث القرآني

﴿قالُوا يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ﴾ بِضَرَرٍ ولا مَكْرُوهٍ فافْتَحِ البابَ ودَعْنا وإيّاهُمْ، فَفَتَحَ البابَ فَدَخَلُوا فاسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَبَّ العِزَّةِ في عُقُوبَتِهِمْ فَأذِنَ لَهُ فَلَمّا دَنَوْا طَمَسَ أعْيُنَهم فانْطَلَقُوا عُمْيًا يَرْكَبُ بَعْضُهم بَعْضًا وهم يَقُولُونَ: النَّجاءُ النَّجاءُ فَإنَّ في بَيْتِ لُوطٍ قَوْمًا سَحَرَةً، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أغْلَقَ البابَ عَلى ضَيْفِهِ فَجاءُوا فَكَسَرُوا البابَ فَطَمَسَ جِبْرِيلُ أعْيُنَهم فَقالُوا: يا لُوطُ جِئْتَنا بِسَحَرَةٍ وتَوَعَّدُوهُ فَأوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً قالَ: يَذْهَبُ هَؤُلاءِ ويَذَرُونِي فَعِنْدَما قالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: لا تَخَفْ إنّا رُسُلُ رَبِّك، ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ﴾ بِالقَطْعِ مِنَ الإسْراءِ، وقَرَأ اِبْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ بِالوَصْلِ حَيْثُ جاءَ في القُرْآنِ مِنَ السَّرى، وقَدْ جاءَ سَرِيَ. (p-109)وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ، والأزْهَرِيِّ، وعَنِ اللَّيْثِ أسْرى سارَ أوَّلَ اللَّيْلِ وسَرى سارَ آخِرَهُ ولا يُقالُ في النَّهارِ: إلّا سارَ ولَيْسَ هو مَقْلُوبَ سَرى، والفاءُ لِتَرْتِيبِ الأمْرِ بِالإسْراءِ عَلى الأخْبارِ بِرِسالَتِهِمُ المُؤْذِنَةِ بِوُرُودِ الأمْرِ والنَّهْيِ مِن جَنابِهِ عَزَّ وجَلَّ إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ أوْ لِلْمُلابَسَةِ أيْ سِرْ مُلابِسًا بِأهْلِكَ ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بِطائِفَةٍ مِنهُ، وقالَ قَتادَةُ: بَعْدَ مُضِيِّ صَدْرٍ مِنهُ، وقِيلَ: نَصِفُهُ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنِ الحَبْرِ آخِرَهُ وأنْشَدَ قَوْلَ مالِكِ بْنِ كِنانَةَ: ؎ونائِحَةٌ تَقُومُ بِقَطْعِ لَيْلٍ عَلى رَحْلٍ أهانَتْهُ شُعُوبٌ ولَيْسَ مِن بابِ الِاسْتِدْلالِ، وإلى هَذا ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿نَجَّيْناهم بِسَحَرٍ﴾ وتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ أسْرى بِأهْلِهِ مِن أوَّلِ اللَّيْلِ حَتّى جاوَزُوا البَلَدَ المُقْتَلَعَ، ووَقَعَتْ نَجاتُهم بِسَحَرٍ، وأصْلُ القَطْعِ القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ لَكِنْ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ فَلا يُقالُ: عِنْدِي قِطْعٌ مِنَ الثَّوْبِ. وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ القِطْعَ مِنَ اللَّيْلِ بِطائِفَةٍ مِن ظُلْمَتِهِ، وعَنِ الحَبْرِ أيْضًا تَفْسِيرُهُ بِنَفْسِ السَّوادِ، ولَعَلَّهُ مِن بابِ المُساهَلَةِ ﴿ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ﴾ أيْ لا يَتَخَلَّفْ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ لا يَنْظُرُ إلى ورائِهِ كَما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، قِيلَ: وهَذا هو المَعْنى المَشْهُورُ الحَقِيقٌ لِلِالتِفاتِ، وأمّا الأوَّلُ فَلِأنَّهُ يُقالُ: لَفَتُّهُ عَنِ الأمْرِ إذا صَرَفْتَهُ عَنْهُ فالتَفَتَ أيِ انْصَرَفَ، والتَّخَلُّفُ انْصِرافٌ عَنِ المَسِيرِ، قالَ تَعالى: ﴿أجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمّا وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ أيْ تَصْرِفُنا كَذا قالَ الرّاغِبُ. وفِي الأساسِ أنَّهُ مَعْنًى مَجازِيٌّ، والنَّهْيُ في اللَّفْظِ لِأحَدٍ، وفي المَعْنى لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما نُقِلَ عَنِ المُبَرَّدِ، وهَذا كَما تَقُولُ لِخادِمِكَ: لا يَقُمْ أحَدٌ في أنَّ النَّهْيَ في الظّاهِرِ لِأحَدٍ، وهو في الحَقِيقَةِ لِلْخادِمِ أنْ لا يَدَعَ أحَدًا يَقُومُ، فالمَعْنى هُنا فَأسْرِ بِأهْلِكَ ولا تَدَعْ أحَدًا مِنهم يَلْتَفِتُ؛ ولا يَخْفى أنَّهُ عَلى هَذا تَتِمُّ المُناسَبَةُ بَيْنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ والمَعْطُوفِ لِأنَّ الأوَّلَ لِأمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، والثّانِي لِنَهْيِهِ، ويُعْلَمُ مِن هَذا أنَّ ضَمِيرَ (مِنكُمْ) لِلْأهْلِ. وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ شِهابٌ فَلَكُ الفَضْلِ الخَفاجِيُّ، فَقالَ: وهَهُنا لَطِيفَةٌ وهو أنَّ المُتَأخِّرِينَ مِن أهْلِ البَدِيعِ اخْتَرَعُوا نَوْعًا مِنَ البَدِيعِ سَمَّوْهُ تَسْمِيَةَ النَّوْعِ، وهو أنْ يُؤْتى بِشَيْءٍ مِنَ البَدِيعِ ويُذْكَرُ اسْمُهُ عَلى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ كَقَوْلِهِ في البَدِيعِيَّةِ في الِاسْتِخْدامِ: ؎واسْتَخْدَمُوا العَيْنَ مِنِّي فَهي جارِيَةٌ ∗∗∗ وكَمْ سَمَحْتُ بِها في يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وتَبَجَّحُوا بِاخْتِراعِهِ، وأنا بِمَنِّ اللَّهِ تَعالى أقُولُ: إنَّهُ وقَعَ في القُرْآنِ في هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ﴾ إلَخْ.. وقَعَ فِيهِ ضَمِيرُ ( مِنكم ) لِلْأهْلِ فَقَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: (لا يَلْتَفِتْ) مِن تَسْمِيَةِ النَّوْعِ وهَذا مِن بَدِيعِ النِّكاتِ، انْتَهى، وسِرُّ النَّهْيِ عَنْ الِالتِفاتِ بِمَعْنى التَّخَلُّفِ ظاهِرٌ، وأمّا سِرُّهُ إذا كانَ بِمَعْنى النَّظَرِ إلى وراءِ فَهو أنْ يَجِدُوا في السَّيْرِ فَإنَّ مَن يَلْتَفِتُ إلى ورائِهِ لا يَخْلُو عَنْ أدْنى وقْفَةٍ أوْ أنْ لا يَرَوْا ما يَنْزِلُ بِقَوْمِهِمْ مِنَ العَذابِ فَيَرْقُوا لَهم. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ النَّهْيَ وكَذا الضَّمِيرُ لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ولِأهْلِهِ أيْ لا يَلْتَفِتُ أحَدٌ مِنكَ ومِن أهْلِكَ. ( إلّا اِمْرَأتك ) بِالنَّصْبِ وهو قِراءَةُ أكْثَرِ السَّبْعَةِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ، وقَدْ كَثُرَ الكَلامُ في ذَلِكَ فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّهُ سُبْحانَهُ اسْتَثْناها مِن قَوْلِهِ: ( فَأسْرِ بِأهْلِكَ ) ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ – ( فَأسْرِ بِأهْلِكَ ) بِقَطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ إلّا امْرَأتُكَ- ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ (p-110)مِن -لا يَلْتَفِتْ- عَلى أصْلِ الِاسْتِثْناءِ، وإنْ كانَ الفَصِيحُ هو البَدَلُ أعْنِي قِراءَةَ مَن قَرَأ بِالرَّفْعِ فَأبْدَلَها مِن أحَدٍ، وفي إخْراجِها مَعَ أهْلِهِ رِوايَتانِ: رُوِيَ أنَّهُ أخْرَجَها مَعَهم وأمَرَ أنْ لا يَلْتَفِتَ مِنهم أحَدٌ إلّا هي فَلَمّا سَمِعَتْ هَدَّةَ العَذابِ التَفَتَتْ وقالَتْ: يا قَوْماهُ فَأدْرَكَها حَجَرٌ فَقَتَلَها. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا أُمِرَ أنْ يَخْلُفَها مَعَ قَوْمِها فَإنَّ هَواها إلَيْهِمْ فَلَمْ يَسِرْ بِها، واخْتِلافُ القِراءَتَيْنِ لِاخْتِلافِ الرِّوايَتَيْنِ انْتَهى، وأوْرَدَ عَلَيْهِ ابْنُ الحاجِبِ ما خُلاصَتُهُ أنَّهُ إمّا أنْ يَسْرِيَ بِها فالِاسْتِثْناءُ مِن أحَدٍ مُتَعَيِّنٌ، أوْ لا فَيَتَعَيَّنُ مِن ( فَأسْرِ بِأهْلِكَ ) والقِصَّةُ واحِدَةٌ، فَأحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ باطِلٌ قَطْعًا، والقِراءَتانِ الثّابِتَتانِ قَطْعًا لا يَجُوزُ حَمْلُهُما عَلى ما يُوجِبُ بُطْلانَ أحَدِهِما، فالأوْلى أنْ يَكُونَ ( إلّا امْرَأتُكَ ) رَفْعًا ونَصْبًا مِثْلَ ﴿ما فَعَلُوهُ إلا قَلِيلٌ مِنهُمْ﴾ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ القُرّاءِ عَلى الوَجْهِ الأقْوى، وأكْثَرُهم عَلى ما دُونِهِ بَلْ جَوَّزَ بَعْضُهم أنْ تَتَّفِقَ القُرّاءُ عَلى القِراءَةِ بِغَيْرِ الأقْوى. وأجابَ عَنْهُ بَعْضُ المَغارِبَةِ بِما أشارَ إلَيْهِ في الكَشْفِ مِن مَنعِ التَّنافِي لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ الأهْلِ يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ مَأْمُورًا بِالإسْراءِ بِها، ولا يَمْنَعُ أنَّها سَرَتْ بِنَفْسِها، ويَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِثْناءَيْنِ هَذا المِقْدارُ كَيْفَ ولَمْ يَنْهَ عَنْ إخْراجِها ولَكِنَّهُ أمَرَ بِإخْراجِ غَيْرِها، نَعَمْ يُرَدُّ عَلى قَوْلِهِ: واخْتِلافُ القِراءَتَيْنِ لِاخْتِلافِ الرِّوايَتَيْنِ أنَّهُ يَلْزَمُ الشَّكُّ في كَلامٍ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ، ويُجابُ بِأنَّ مَعْناهُ اخْتِلافُ القِراءَتَيْنِ جالِبٌ وسَبَبٌ لِاخْتِلافِ الرِّوايَتَيْنِ كَما تَقُولُ: السِّلاحُ لِلْغَزْوِ أيْ أداةٌ وصالِحٌ مَثَلًا لَهُ، ولَمْ يَرِدْ أنَّ اخْتِلافَ القِراءَتَيْنِ لِأجْلِ اخْتِلافِ الرِّوايَتَيْنِ قَدْ حَصَلَ، ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ رِوايَةٍ تُناسِبُ قِراءَةً وإنْ أمْكَنَ الجَمْعُ، وأمّا قَوْلُهُ: وأُمِرَ أنْ لا يَلْتَفِتَ مِنهم أحَدٌ إلّا هي فَنُقِلَ لِلرِّوايَةِ لا تَفْسِيرٍ لِلَفْظِ القُرْآنِ، وإنَّما الكائِنُ فِيهِ اسْتِثْناؤُها عَنِ الحُكْمِ الَّذِي لِلِاسْتِصْلاحِ إذْ لَمْ يُعْنَ بِها، وإلى مَعْنى ما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ الكَشْفِ في مَنعِ التَّنافِي أشارَ أبُو شامَةَ فَقالَ: وقَعَ في تَصْحِيحِ ما أعْرَبَهُ النُّحاةُ مَعْنًى حَسَنٌ، وذَلِكَ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ اخْتِصارٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ اخْتِلافُ القِراءَتَيْنِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَأسْرِ بِأهْلِكَ إلّا امْرَأتَكَ كَما قَرَأ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ، ورَواهُ أبُو عُبَيْدَةَ عَنْ مُصْحَفِهِ، فَهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ اسْتِثْناءَها مِنَ السَّرْيِ بِهِمْ، ثُمَّ كَأنَّهُ قالَ سُبْحانَهُ: فَإنْ خَرَجَتْ مَعَكم وتَبِعَتْكم مِن غَيْرِ أنْ تَكُونَ أنْتَ سَرَيْتَ بِها فَإنَّهُ أهْلَكُ عَنْ الِالتِفاتِ غَيْرَها فَإنَّها سَتَهْلَكُ ويُصِيبُها ما يُصِيبُ قَوْمَها، فَكانَتْ قِراءَةُ النَّصْبِ دالَّةً عَلى المَعْنى المُتَقَدِّمِ، وقِراءَةُ الرَّفْعِ دالَّةٌ عَلى هَذا المَعْنى المُتَأخِّرِ ومَجْمُوعُهُما دالٌّ عَلى جُمْلَةِ المَعْنى المَشْرُوحِ، ولا يَخْفى ما في ذَلِكَ مِنَ التَّكَلُّفِ كَما قالَ ابْنُ مالِكٍ، ولِذا اخْتارَ أنَّ الرَّفْعَ عَلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ، و( امْرَأتُكَ ) مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ بَعْدَها خَبَرُهُ وإلّا بِمَعْنى لَكِنْ. وقالَ ابْنُ هِشامٍ في المُغْنِي في الجِهَةِ الثّامِنَةِ مِنَ البابِ الخامِسِ: إنَّ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وقَدْ سَبَقَهُ إلَيْهِ غَيْرُهُ في الآيَةِ خِلافُ الظّاهِرِ، والَّذِي حَمَلَ القائِلِينَ عَلَيْهِ أنَّ النَّصْبَ قِراءَةُ الأكْثَرِينَ، فَإذا قُدِّرَ الِاسْتِثْناءُ مِن أحَدٍ كانَتْ قِراءَتُهم عَلى الوَجْهِ المَرْجُوحِ، وقَدِ التَزَمَ بَعْضُهم جَوازَ مَجِيءِ الأمْرَيْنِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ فَإنَّ النَّصْبَ في ذَلِكَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، ولَمْ يَرَ خَوْفَ إلْباسِ المُفَسِّرِ بِالصِّفَةِ مُرَجَّحًا كَما رَآهُ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ، ثُمَّ قالَ: والَّذِي أجْزِمُ بِهِ أنَّ قِراءَةَ الأكْثَرِينَ لا تَكُونُ مُرَجَّحَةً، وأنَّ الِاسْتِثْناءَ عَلى القِراءَتَيْنِ مِن جُمْلَةِ الأمْرِ بِدَلِيلِ سُقُوطِ ( ولا يَلْتَفِتُ ) إلَخْ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ بِدَلِيلِ سُقُوطِهِ في آيَةِ الحِجْرِ، ولِأنَّ المُرادَ بِالأهْلِ المُؤْمِنُونَ وإنْ لَمْ يَكُونُوا مِن أهْلِ بَيْتِهِ لا أهْلَ بَيْتِهِ وإنْ لَمْ يَكُونُوا (p-111)مُؤْمِنِينَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ ووَجْهُ الرَّفْعِ أنَّهُ عَلى الِابْتِداءِ، وما بَعْدُ، الخَبَرُ والمُسْتَثْنى الجُمْلَةُ، ونَظِيرُهُ: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ ﴿إلا مَن تَوَلّى وكَفَرَ﴾ ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ﴾ . واخْتارَ أبُو شامَةَ ما اخْتَرْتُهُ مِن أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ لَكِنَّهُ قالَ: وجاءَ النَّصْبُ عَلى اللُّغَةِ الحِجازِيَّةِ والرَّفْعُ عَلى التَّمِيمِيَّةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جَعَلَ الِاسْتِثْناءَ مِن جُمْلَةِ النَّهْيِ، وما قَدَّمْتُهُ أوْلى لِضَعْفِ اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ، ولِما قَدَّمُتُ مِن سُقُوطِ جُمْلَةِ النَّهْيِ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ انْتَهى. واسْتَظْهَرَ ذَلِكَ الحِمَّصِيُّ في حَواشِيهِ عَلى التَّصْرِيحِ واسْتَحْسَنَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وقَدْ نَقَلَ أبُو حَيّانَ القَوْلَ بِالِانْقِطاعِ عَلى القِراءَتَيْنِ وتَخْرِيجَ النَّصْبِ عَلى اللُّغَةِ الحِجازِيَّةِ والرَّفْعَ عَنِ الأُخْرى، ثُمَّ قالَ إنَّهُ كَلامٌ لا تَحْقِيقَ فِيهِ فَإنَّهُ إذا لَمْ يَقْصِدْ إخْراجَها مِنَ المَأْمُورِ بِالإسْراءِ بِهِمْ ولا مِنَ المَنهِيِّينَ عَنْ الِالتِفاتِ وكانَ المَعْنى لَكِنَّ امْرَأتَكَ يَجْرِي عَلَيْها كَذا وكَذا كانَ مِن الِاسْتِثْناءِ الَّذِي لا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ العامِلُ، وهَذا النَّوْعُ مِن الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ يَجِبُ فِيهِ النَّصْبُ بِإجْماعِ العَرَبِ، وإنَّما الخِلافُ في المُنْقَطِعِ الَّذِي يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العامِلِ إلَيْهِ وفِيهِ نَظَرٌ، فَفي التَّوْضِيحِ لِابْنِ مالِكٍ حَقُّ المُسْتَثْنى بِإلّا مِن كَلامٍ تامٍّ مُوجِبٍ مُفْرِدًا كانَ أوْ مُكَمِّلًا مَعْنًى بِما بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا لَمُنَجُّوهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلا امْرَأتَهُ قَدَّرْنا إنَّها لَمِنَ الغابِرِينَ﴾ النَّصْبُ، ولا يَعْرِفُ أكْثَرُ المُتَأخِّرِينَ مِنَ البَصْرِيِّينَ إلّا النَّصْبَ، وقَدْ غَفَلُوا عَنْ وُرُودِهِ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ ثابِتُ الخَبَرِ كَقَوْلِ أبِي قَتادَةَ: أحْرَمُوا كُلُّهم إلّا أبُو قَتادَةَ لَمْ يُحْرِمْ، ومَحْذُوفُهُ نَحْوَ ﴿وما تَدْرِي نَفْسٌ بِأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ﴾ إلّا اللَّهُ، (وإلّا) في ذَلِكَ بِمَعْنى لَكِنْ أيْ لَكِنْ أبُو قَتادَةَ لَمْ يُحْرِمْ ولَكِنِ اللَّهُ يَعْلَمُ، انْتَهى، وما نَحْنُ فِيهِ مِن قَبِيلِ هَذا، وفي حاشِيَتَيِ البَدْرِ الدَّمامِينِيِّ وتَقِيِّ الدِّينِ الشَّمْنِيِّ أنَّ الرَّضِيَّ قَدْ أجابَ بِما يَقْتَضِي أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ ولا تَناقُضَ، وذَلِكَ أنَّهُ قالَ: ولَمّا تَقَرَّرَ أنَّ الإتْباعَ هو الوَجْهُ مَعَ الشَّرائِطِ المَذْكُورَةِ وكانَ أكْثَرُ القُرّاءِ عَلى النَّصْبِ في ( ولا يَلْتَفِتْ ) إلَخْ تَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ لِئَلّا تَكُونَ قِراءَةُ الأكْثَرِ مَحْمُولَةً عَلى وجْهٍ غَيْرِ مُخْتارٍ بِما تَكَلَّفَ، واعْتَرَضَهُ ابْنُ الحاجِبِ بِلُزُومِ التَّناقُضِ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ مِن -أسْرِ بِأهْلِكَ- يَقْتَضِي كَوْنَها غَيْرَ مَسْرِيٍّ بِها، ومِن -لا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ- يَقْتَضِي كَوْنَها مَسْرِيًّا بِها لِأنَّ الِالتِفاتِ بِالإسْراءِ، والجَوابُ أنَّ الإسْراءَ وإنْ كانَ مُطْلَقًا في الظّاهِرِ إلّا أنَّهُ في المَعْنى مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الِالتِفاتِ فَمَآلُهُ أسْرِ بِأهْلِكَ إسْراءً لا التِفاتَ فِيهِ إلّا امْرَأتُكَ فَإنَّكَ تَسْرِي بِها إسْراءً مَعَ الِالتِفاتِ فاسْتَثْنِ عَلى هَذا إنْ شِئْتَ مِن –أسْرِ- أوْ -لا يَلْتَفِتْ- ولا تَناقُضَ، وهَذا كَما تَقُولُ: امْشِ ولا تَتَبَخْتَرْ أيِ امْشِ مَشْيًا لا تَتَبَخْتَرُ فِيهِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ولا يَلْتَفِتُ مِنكم أحَدٌ في الإسْراءِ، وكَذا امْشِ ولا تَتَبَخْتَرُ في المَشْيِ فَحَذَفَ الجارَّ والمَجْرُورَ لِلْعِلْمِ بِهِ، انْتَهى. وأوْرَدَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ السِّنْدُ في حَواشِيهِ أنَّ الِاسْتِثْناءَ إذا رَجَعَ إلى القَيْدِ كانَ المَعْنى فَأسْرِ بِجَمِيعِ أهْلِكَ إسْراءً لا التِفاتَ فِيهِ إلّا مِنِ امْرَأتِكَ فَيَكُونُ الإسْراءُ بِها داخِلًا في المَأْمُورِ بِهِ، وإذا رَجَعَ إلى المُقَيَّدِ لَمْ يَكُنِ الإسْراءُ بِها داخِلًا في المَأْمُورِ بِهِ فَيَكُونُ المَحْذُورُ باقِيًا بِحالِهِ ولا مَخْلَصَ عَنْهُ إلّا بِأنْ يُقالَ: إنَّ تَناوُلَ العامِّ إيّاها لَيْسَ قَطْعِيًّا لِجَوازِ أنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فَلا يَلْزَمُ مِن رُجُوعِ الِاسْتِثْناءِ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ( ولا يَلْتَفِتْ ) كَوْنُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَأْمُورًا بِالإسْراءِ بِها، وحِينَئِذٍ يُوَجَّهُ الِاسْتِثْناءُ بِما ذُكِرَ مِن أنَّها تَبِعَتْهم أوْ أسْرى بِها مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِذَلِكَ إذْ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ الأمْرِ بِهِ النَّهْيُ عَنْهُ فَتَأمَّلِ، انْتَهى. وبَحَثَ فِيهِ الشِّهابُ ولَمْ يَرْتَضِ احْتِمالَ التَّخْصِيصِ لِما أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ ويُفْهِمُ صَنِيعُهُ ارْتِضاءَ كَلامِ الرَّضِيِّ، ثُمَّ قالَ: ومُرادُهُ بِالتَّقْيِيدِ أنَّهُ ذَكَرَ شَيْئانِ مُتَعاطِفانِ، فالظّاهِرُ أنَّ المُرادَ الجَمْعُ بَيْنَهُما لا أنَّ الجُمْلَةَ حالِيَّةٌ فَلا يُرَدُّ (p-112)عَلَيْهِ أنَّ الحَمْلَ عَلى التَّقْيِيدِ مَعَ كَوْنِ الواوِ لِلنَّسَقِ مَمْنُوعٌ، وكَذا جَعْلُها لِلْحالِ مَعَ لا النّاهِيَةِ، وأيْضًا القِراءَةُ بِإسْقاطِها تَدُلُّ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ ولا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، هَذا وقَدْ أُلِّفَتَ في تَحْقِيقِ هَذا الِاسْتِثْناءِ عِدَّةُ رَسائِلَ: مِنها رِسالَةٌ لِلْحِمَّصِيِّ، وأُخْرى لِلْعَلّامَةِ الكافِيجِيِّ ألَّفَها لِبَعْضِ سَلاطِينِ آلِ عُثْمانَ غَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِصُنُوفِ الفَضْلِ والإحْسانِ حِينَ طُلِبَ مِنهُ لِبَحْثٍ وقَعَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وبِالجُمْلَةِ القَوْلُ بِالِانْقِطاعِ أقَلُّ تَكَلُّفًا فِيما يَظْهَرُ، والقَوْلُ بِأنَّهُ حِينَئِذٍ لا يَبْقى ارْتِباطٌ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّهُ مُصِيبُها ما أصابَهُمْ﴾ ناشِئٌ عَنْ عَدَمِ الِالتِفاتِ فَلا يَنْبَغِي أنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن أحاطَ خَبَرًا بِما تَقَدَّمَ نَقْلُهُ فَتَأمَّلْ، وضَمِيرُ (إنَّهُ) لِلشَّأْنِ، و( ما أصابَهم ) مُبْتَدَأٌ، و(مُصِيبُها) خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرٌ –إنَّ- الَّذِي اسْمُهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وفي البَحْرِ إنَّ ﴿مُصِيبُها﴾ مُبْتَدَأٌ، و( ما أصابَهم ) خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ، ويَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ أنْ يَكُونَ ﴿مُصِيبُها﴾ خَبَرَ –إنَّ- و(ما) فاعِلٌ بِهِ لِأنَّهم يُجَوِّزُونَ أنَّهُ قائِمٌ أخَواكَ، ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ أنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لا يَكُونُ خَبَرُهُ إلّا جُمْلَةً مُصَرَّحًا بِجُزْأيْها فَلا يَجُوزُ هَذا الإعْرابُ عِنْدَهُمْ، والأوْلى ما ذُكِرَ أوَّلًا، والجُمْلَةُ إمّا تَعْلِيلٌ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِئْنافِ أوْ خَبَرٌ –لِامْرَأتِكَ- عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ، والمُرادُ مِن (ما) العَذابُ، ومِن ( أصابَهم ) يُصِيبُهم والتَّعْبِيرُ بِهِ دُونَهُ لِلْإيذانِ بِتَحَقُّقِ الوُقُوعِ، وفي الإبْهامِ، واسْمِيَّةِ الجُمْلَةِ، والتَّأْكِيدِ، ما لا يَخْفى. ﴿إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ أيْ مَوْعِدُ عَذابِهِمْ وهَلاكِهِمْ ذَلِكَ، وكَأنَّ هَذا عَلى ما قِيلَ: تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالإسْراءِ والنَّهْيِ عَنْ الِالتِفاتِ المُشْعِرِ بِالحَثِّ عَلى الإسْراعِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ تَأْكِيدٌ لِلتَّعْلِيلِ، فَإنَّ قُرْبَ الصُّبْحِ داعٍ إلى الإسْراعِ لِلتَّباعُدِ عَنْ مَواقِعِ العَذابِ، ورُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَنْ وقْتِ هَلاكِهِمْ فَقالُوا: مَوْعِدُهُمُ الصُّبْحُ، فَقالَ: أُرِيدَ أسْرَعُ مِن ذَلِكَ، فَقالُوا لَهُ: ﴿ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).﴾ ولَعَلَّهُ إنَّما جَعَلَ مِيقاتَ هَلاكِهِمُ الصُّبْحَ لِأنَّهُ وقْتُ الدَّعَةِ والرّاحَةِ فَيَكُونُ حُلُولُ العَذابِ حِينَئِذٍ أفْظَعَ ولِأنَّهُ أنْسَبُ بِكَوْنِ ذَلِكَ عِبْرَةً لِلنّاظِرِينَ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (الصُّبُحَ) بِضَمِّ الباءِ قِيلَ: وهي لُغَةٌ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ اتِّباعًا
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب