الباحث القرآني
ثُمَّ أتى سُبْحانَهُ بِما يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ مِن قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ تَقْرِيرًا لِلتَّوْحِيدِ لِأنَّ مَن شَمِلَ عِلْمُهُ وقُدْرَتُهُ هو الَّذِي (p-4)يَكُونُ إلَهًا لا غَيْرُهُ مِمّا لا يَعْلَمُ ولا يَقْدِرُ عَلى ضَرٍّ ونَفْعٍ وتَأْكِيدًا لِما سَبَقَ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ لِأنَّ العالِمَ القادِرَ يُرْجى ويُخْشى، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( ﴿يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ﴾ ) وما بَعْدَها تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وفِيهِ بُعْدٌ، وكَأنَّ المُرادَ بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ إلَخْ.. خَلْقُهُما وما فِيهِما، أوْ تُجْعَلُ السَّماواتُ مَجازًا عَنِ العُلْوِيّاتِ فَتَشْمَلُها وما فِيها، وتَجْعَلُ الأرْضَ مَجازًا بِمَعْنى السُّفْلِيّاتِ فَتَشْمَلُها وما فِيها مِن غَيْرِ تَقْدِيرٍ، واحْتِيجَ لِذَلِكَ لِاقْتِضاءِ المَقامِ إيّاهُ وإلّا فَخَلْقُهُما في تِلْكَ المُدَّةِ لا يُنافِي خَلْقَ غَيْرِهِما فِيها، والمُرادُ بِاليَوْمِ الوَقْتُ مُطْلَقًا لا المُتَعارَفُ إذْ لا يَتَصَوَّرُ ذَلِكَ حِينَ لا شَمْسَ ولا أرْضَ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ مُدَّةُ زَمانِ دَوْرِ المُحَدَّدِ المُسَمّى بِالعَرْشِ دَوْرَةً تامَّةً، وإلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قَدَّسَ سِرَّهُ، وقَدْ عُلِمَتْ حالُهُ فِيما تَقَدَّمَ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ.
وفِي عَدَمِ خَلْقِهِما دُفْعَةً كَما عَلِمْتَ دَلِيلٌ -كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ- عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ قادِرًا مُخْتارًا مَعَ ما فِيهِ مِن الِاعْتِبارِ لِلنُّظّارِ والحَثِّ عَلى التَّأنِّي في الأُمُورِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما قِيلَ في وجْهِ تَخْصِيصِ هَذا العَدَدِ دُونَ الزّائِدِ عَلَيْهِ كالسَّبْعَةِ أوِ النّاقِصِ عَنْهُ كالخَمْسَةِ لِلْخَلْقِ، ولَعَلَّنا نُحَقِّقُ ذَلِكَ في مَوْضِعٍ آخَرَ، وإيثارُ صِيغَةِ الجَمْعِ في السَّماواتِ لِاخْتِلافِها بِالأصْلِ والذّاتِ دُونَ الأرْضِ، وإنْ قِيلَ: إنَّها مِثْلُ السَّماءِ في كَوْنِها سَبْعًا طِباقًا بَيْنَ كُلِّ أرْضٍ وأرْضٍ مَسافَةٌ وفِيها مَخْلُوقاتٌ، وبِذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ والكَثِيرُ عَلى أنَّ الأرْضَ كُرَةٌ واحِدَةٌ مُنْقَسِمَةٌ إلى سَبْعَةِ أقالِيمَ وحَمَلُوا الآيَةَ عَلى ذَلِكَ.
﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (خَلَقَ) مَعَ ضَمِيرِهِ المُسْتَتِرِ أوْ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ بِتَقْدِيرِ قَدْ عَلى ما هو المَشْهُورُ في الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ الماضَوِيَّةِ مِنِ اشْتِراطِ قَدْ ظاهِرَةً أوْ مُقَدَّرَةً، والمُضِيُّ المُسْتَفادُ -مِن كانَ- بِالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ لا لِلتَّكَلُّمِ أيْ كانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ قَبْلَ خَلْقِهِما وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ مُجاهِدٍ، وبِهِ صَرَّحَ القاضِي البَيْضاوِيُّ، ثُمَّ قالَ: لَمْ يَكُنْ حائِلٌ بَيْنَهُما أيِ العَرْشِ والماءِ لا أنَّهُ كانَ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ الماءِ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلى إمْكانِ الخَلاءِ وأنَّ الماءَ أوَّلُ حادِثٍ بَعْدَ العَرْشِ مِن أجْرامِ هَذا العالَمِ، انْتَهى، وكَذا صَرَّحَ بِهِ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ لَكِنَّهُ قالَ: لَيْسَ تَحْتَهُ -يَعْنِي العَرْشَ- شَيْءٌ غَيْرُهُ أيِ الماءُ سَواءً كانَ بَيْنَهُما فُرْجَةً، أوْ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِهِ كَما ورَدَ في الأثَرِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى إمْكانِ الخَلاءِ كَيْفَ لا ولَوْ دَلَّ لَدَلَّ عَلى وُجُودِهِ لا عَلى إمْكانِهِ فَقَطْ ولا عَلى كَوْنِ الماءِ أوَّلَ ما حَدَثَ في العالَمِ بَعْدَ العَرْشِ وإنَّما يَدُلُّ عَلى أنَّ خَلْقَهُما أقْدَمُ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلنِّسْبَةِ بَيْنَهُما، انْتَهى، ولا يَخْفى ما بَيْنَ القاضِي والمُفْتِي مِنَ المُخالَفَةِ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ الحَقَّ مَعَ المُفْتِي كَما سَتَعْلَمُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وانْتَصَرَ بَعْضُهم لِلْقاضِي بِأنَّهُ لَوْ كانَ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ الماءِ لَلَزِمَ قَبْلَ خَلْقِ تَمامِ العالَمِ أحَدُ الأُمُورِ السِّتَّةِ: إمّا خُرُوجُ الماءِ عَنْ حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ. أوْ خُرُوجُ العَرْشِ عَنْ حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ. أوْ تَخَلْخُلُ الماءِ أوْ نُمُوُّهُ أوْ تَخَلْخُلُ العَرْشِ أوْ نُمُوُّهُ، وحِينَ خَلْقِ العالَمِ أحَدُ الأُمُورِ الخَمْسَةِ: إمّا حَرَكَةُ العَرْشِ بِالِاسْتِقامَةِ إلى حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ. أوْ تَكاثُفُ الماءِ أوْ ذُبُولُهُ أوْ تَكاثُفُ العَرْشِ أوْ ذُبُولُهُ، وهَذِهِ الأُمُورُ باطِلَةٌ كَما لا يَخْفى عَلى مَن تَدَرَّبَ في الحِكْمَةِ، ويَحْمِلُ الإمْكانَ في كَلامِهِ عَلى الإمْكانِ الوُقُوعِيِّ، أوْ يُرادُ بِهِ الإمْكانُ الذّاتِيُّ وبِالخَلاءِ الخَلاءُ في عالَمِنا هَذا فَإنَّهُ المُتَنازَعُ فِيهِ فَكَأنَّهُ قِيلَ واسْتُدِلَّ بِهِ عَلى أنَّ الخَلاءَ في عالَمِنا مُمْكِنٌ بِالإمْكانِ الذّاتِيِّ وتَوْجِيهِ الِاسْتِدْلالِ بِهِ حِينَئِذٍ عَلى ذَلِكَ هو أنَّ الخَلاءَ قَبْلَ عالَمِنا هَذا كانَ واقِعًا، ووُقُوعُ شَيْءٍ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ دَلِيلٌ عَلى إمْكانِهِ الذّاتِيِّ في جَمِيعِ الأوْقاتِ، فَإنَّ ثُبُوتَ الإمْكانِ لِلْمُمْكِنِ واجِبٌ، فالمُمْكِنُ في وقْتٍ مُمْكِنٌ في وقْتٍ آخَرَ كَما حَقَّقَهُ شارِحُ حِكْمَةِ العَيْنِ، ووَجْهُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ الماءَ أوَّلُ (p-5)حادِثٍ بَعْدَ العَرْشِ أنَّ كُلَّ جِسْمٍ بَسِيطٍ فَلَهُ مَكانٌ طَبِيعِيٌّ، وأنَّ المَكانَ مِن لَوازِمِ وُجُودِ الجِسْمِ، فَإنَّ الفاعِلَ إذا أوْجَدَ الجِسْمَ أوْجَدَهُ لا مَحالَةَ في مَكانٍ كَما صَرَّحُوا بِهِ، والمَكانُ لِلْخَفِيفِ مِنَ الأجْسامِ هو الفَوْقُ، ولِلثَّقِيلِ التَّحْتُ عَلى حَسَبِ الثِّقَلِ والخِفَّةِ وتَحَدُّدُهُما إنَّما هو بِالفَلَكِ الأعْظَمِ فَوُجُودُ الماءِ في جَوْفِ العَرْشِ يَتَوَقَّفُ عَلى وُجُودِ مَكانِهِ المُتَوَقِّفِ عَلى وُجُودِ العَرْشِ فَيَتَأخَّرُ عَنْهُ حُدُوثًا ولا يَخْفى ما في هَذا الوَجْهِ مِنَ النَّظَرِ، ولا أقَلَّ مِن أنْ يُقالَ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى العَرْشَ والماءَ مَعًا؟ عَلى أنَّهُ قَدْ جاءَ في بَعْضِ الآثارِ ما هو ظاهِرٌ في أنَّ الماءَ كانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ العَرْشِ فَقَدْ أخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ وأحْمَدُ. والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ. وابْنُ ماجَهْ. وابْنُ جَرِيرٍ. وابْنُ المُنْذِرِ. والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ وغَيْرُهم «عَنْ أبِي رَزِينٍ العَقِيلِيِّ قالَ: ”قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أيْنَ كانَ رَبُّنا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ؟ قالَ: كانَ في عَماءٍ ما تَحْتَهُ هَواءٌ وما فَوْقَهُ هَواءٌ وخَلَقَ عَرْشَهُ عَلى الماءِ“» وقالَ بَعْضٌ في بَيانِ وجْهِ ذَلِكَ: أنَّهُ لَمّا كانَ مَعْنى كَوْنِ العَرْشِ عَلى الماءِ أنَّهُ مَوْضُوعٌ فَوْقَهُ لا مُماسُّهُ وأنَّ خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ إنَّما كانَ بَعْدَهُما اقْتَضى ذَلِكَ أنَّ العَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلُ وأنَّ الماءَ أوَّلُ حادِثٍ بَعْدَهُ وهو مِن فَحْوى الخِطابِ، وقَوْلُهُ: لا أنَّهُ كانَ مَوْضُوعًا إلَخْ لِأنَّ سِياقَهُ لِبَيانِ قُدْرَتِهِ تَعالى يَقْتَضِيهِ وفِيهِ ما فِيهِ كَما لا يَخْفى، وتَعَقَّبَ بَعْضُ فُضَلاءِ الرُّومِ ما ذُكِرَ أوَّلًا بِأنَّ حاصِلَهُ أنَّ الشِّقَّ الثّانِيَ مِنَ الشِّقَّيْنِ المَذْكُورَيْنِ في كَلامِ العَلّامَةِ الثّانِي مُسْتَلْزِمٍ لِأحَدِ أُمُورٍ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الحِكْمَةِ بُطْلانُها فَيَتَعَيَّنُ الأوَّلُ مِنهُما، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ العَلّامَةُ الأوَّلُ، وهو إنَّما يَتِمُّ أنْ لَوْ كانَتِ المُقَدِّماتُ المَذْكُورَةُ في إبْطالِ تِلْكَ الأُمُورِ يَقِينِيَّةً وهو مَمْنُوعٌ فَإنَّ أكْثَرَها مَبْنِيٌّ عَلى أُصُولِ الفَلاسِفَةِ، وقَدْ بَيَّنَ القاضِي نَفْسَهُ بُطْلانَ أكْثَرِها في الطَّوالِعِ وهو إنَّما يُراعِي القَواعِدَ الحِكْمِيَّةَ إذا لَمْ تَكُنْ مُخالِفَةً لِلْقَواعِدِ الإسْلامِيَّةِ عَلى أنَّ في كَلامِ ذَلِكَ المُنْتَصِرِ خَلَلًا مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ أنَّ قَوْلَهُ: يَلْزَمُ إمّا خُرُوجُ الماءِ عَلى حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ إلَخْ.. يُقالُ في جَوابِهِ: أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَخْرُجَ الماءُ عَنْ حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ وذَلِكَ غَيْرُ مُحالٍ وإنْ كانَ خُرُوجُهُ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ السَّيَلانِ عَنْ حَيِّزِهِ الطَّبِيعِيِّ مُحالًا، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ أنَّهم ذَكَرُوا أنَّ الماءَ لِثِقَلِهِ الإضافِيِّ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فَوْقَ الأرْضِ والأرْضُ لِثِقَلِها الحَقِيقِيِّ تَقْتَضِي أنْ تَكُونَ مَغْمُورَةً بِأسْرِها فِيهِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أنْ يَفْرِضَ في جَوْفِها نُقْطَةً تَكُونُ الخُطُوطُ الخارِجَةُ مِنها إلى سَطْحِ الماءِ مُتَساوِيَةً مِن جَمِيعِ الجِهاتِ مَعَ أنَّ الأمْرَ اليَوْمَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِانْكِشافِ رُبُعٍ شَمالِيٍّ مِنَ الأرْضِ، وانْحِسارُ الماءِ عَنْهُ إمّا بِسَبَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنَ الجَنُوبِ إلى الأرْضِ عِنْدَ كَوْنِها في الحَضِيضِ بِقَدْرِ ثِخَنِ المُتَمِّمِ المَحْوِيِّ كَما قِيلَ أوْ لِأمْرٍ آخَرَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعالى، الثّانِي أنَّ ما ذَكَرَهُ مِنِ اسْتِحالَةِ تَخَلْخُلِ الماءِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهم أيْضًا، وما يُقالُ: إنَّ القَوْلَ بِالتَّخَلْخُلِ لا يُتَصَوَّرُ في البَسائِطِ الحَقِيقِيَّةِ لِلُزُومِ تَرْكِيبِ ما فِيهِ مَدْفُوعٌ. فَقَدْ صَرَّحَ في حِكْمَةِ العَيْنِ وشَرْحُها بِأنَّ التَّخَلْخُلَ الحَقِيقِيَّ وهو أنْ يَزْدادَ مِقْدارَ الجِسْمِ مِن غَيْرِ أنْ يُزادَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن خارِجٍ مُمْكِنٌ، وحَقَّقَهُ سَيِّدُ المُحَقِّقِينَ في حَواشِيهِ بِأنَّ الجِسْمَ سَواءٌ كانَ مُرَكَّبًا مِنَ الهَيُولِيِّ والصُّورَةِ أوْ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ التَّخَلْخُلُ والتَّكاثُفُ فِيهِ لِأنَّ مِقْدارَ الجِسْمِ زائِدٌ عَلَيْهِ والجِسْمُ مِن حَيْثُ هو لا مِقْدارَ لَهُ في ذاتِهِ فَنِسْبَتُهُ إلى جَمِيعِ المَقادِيرِ عَلى السَّواءِ فَأمْكَنَ أنْ يَتَّصِفَ بِأكْبَرِ مِمّا هو مُتَّصِفٌ بِهِ أوْ أصَغَرَ، وأيْضًا الجِسْمُ مُتَّصِلٌ واحِدٌ والمِقْدارُ زائِدٌ عَلَيْهِ والجِسْمُ البَسِيطُ جُزْؤُهُ يُساوِي كُلَّهُ فَإذا اتَّصَفَ الكُلُّ بِمِقْدارٍ خاصٍّ فَجُزْؤُهُ إذا انْفَرَدَ وجَبَ أنْ يَكُونَ قابِلًا لِلِاتِّصافِ بِذَلِكَ المِقْدارِ، والكُلُّ بِالعَكْسِ ضَرُورَةٌ تَساوِي المُتَماثِلاتِ في الأحْكامِ، وحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ إمْكانُ ذَلِكَ، والثّالِثُ أنَّ التَّوْجِيهَ بِحَمْلِ الإمْكانِ عَلى الإمْكانِ الذّاتِيِّ إلَخْ مَنظُورٌ فِيهِ إذْ لا يَلْزَمُ مِن وُقُوعِ شَيْءٍ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا إمْكانُ وُجُودِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ وإنْ كانَ ذَلِكَ الإمْكانُ مُسْتَمِرًّا واجِبًا في جَمِيعِ الأوْقاتِ، فَقَوْلُهُ: إنَّ ثُبُوتَ الإمْكانِ لِلْمُمْكِنِ واجِبٌ فالمُمْكِنُ في وقْتٍ مُمْكِنٍ في كُلِّ وقْتٍ (p-6)إنْ أرادَ بِهِ أنَّ إمْكانَهُ أمْرٌ ثابِتٌ لَهُ في كُلِّ وقْتٍ عَلى أنَّ قَوْلَهُ في كُلِّ وقْتٍ ظَرْفٌ لِلْإمْكانِ فَهو مُسَلَّمٌ لَكِنَّ اللّازِمَ مِنهُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُتَّصِفًا بِالإمْكانِ إمْكانًا مُسْتَمِرًّا دائِمًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَدَمِ الِاتِّصافِ ولا سابِقَ عَلَيْهِ ولا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ وُجُودُهُ في كُلِّ وقْتٍ مُمْكِنًا لِجَوازِ أنْ يَكُونَ وُجُودُ الشَّيْءِ في الجُمْلَةِ مُمْكِنًا إمْكانًا مُسْتَمِرًّا ولا يَكُونُ وُجُودُهُ في كُلِّ وقْتٍ مُمْكِنًا بَلْ مُمْتَنِعًا؛ ولا يَلْزَمُ مِن هَذا أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مِن قَبِيلِ المُمْتَنِعاتِ دُونَ المُمْكِناتِ فَإنَّ إمْكانَ الشَّيْءِ لَيْسَ مَعْناهُ جَوازَ اتِّصافِهِ بِجَمِيعِ أنْحاءِ الوُجُودِ بَلْ مَعْناهُ جَوازُ اتِّصافِهِ بِوُجُودِ ما في الجُمْلَةِ فَيَكْفِي في إمْكانِ الشَّيْءِ جَوازِ اتِّصافِهِ بِالوُجُودِ الواقِعِ في وقْتٍ، والمُمْتَنِعُ هو الَّذِي لا يَقْبَلُ الوُجُودَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وإنْ أرادَ أنَّهُ مُمْكِنُ الوُجُودِ في كُلِّ وقْتٍ عَلى أنْ يَكُونَ في كُلِّ وقْتٍ ظَرْفًا لِلْوُجُودِ فَهو مَمْنُوعٌ ولا يَتَفَرَّعُ عَلى كَوْنِ ثُبُوتِ الإمْكانِ لِلْمُمْكِنِ واجِبًا، فَإنَّهُ قَدْ حَقَّقَ المُحَقِّقُ الدَّوانِيَ في بَعْضِ تَصانِيفِهِ أنَّ إمْكانَ المُمْكِنِ وإنْ كانَ مُسْتَمِرًّا في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ لا يَسْتَلْزِمُ إمْكانَ وُجُودِ ذَلِكَ المُمْكِنِ في تِلْكَ الأزْمِنَةِ، وعَلى هَذا اعْتَمَدَ المُتَكَلِّمُونَ في الجَوابِ عَنِ اسْتِدْلالِ الفَلاسِفَةِ عَلى قِدَمِ العالَمِ بِأنَّهُ مُمْكِنُ الوُجُودِ في الأزَلِ وإلّا لَزِمَ الِانْقِلابُ وهو مُحالٌ بِالضَّرُورَةِ، وقُدْرَةُ البارِي تَعالى أزَلِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ فَلَوْ كانَ العالَمُ حادِثًا لَزِمَ تَرْكَ الجُودِ وهو إفاضَةُ الوُجُودِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الكَمالاتِ عَلى المُمْكِناتِ مُدَّةٌ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ وهو مُحالٌ عَلى الجَوادِ الحَقِّ الكَرِيمِ.
(وحاصِلُ الجَوابِ) أنَّ قَوْلَكُمُ العالَمُ مُمْكِنُ الوُجُودِ في الأزَلِ إنْ أرَدْتُمْ بِهِ أنَّهُ يُمْكِنُ لَهُ الوُجُودُ الأزَلِيُّ عَلى أنْ يَكُونَ في الأزَلِ مُتَعَلِّقًا بِالوُجُودِ فَهو مَمْنُوعٌ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ وُجُودُهُ في الأزَلِ مُمْتَنِعًا، وإنْ أرَدْتُمْ بِهِ أنَّ إمْكانَ وُجُودِهِ في الجُمْلَةِ مُسْتَمِرٌّ في الأزَلِ عَلى أنْ يَكُونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِالإمْكانِ فَمُسَلَّمٌ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ وُجُودُ العالَمِ في الأزَلِ مُمْكِنًا لِجَوازِ أنْ يَكُونَ وُجُودُهُ في الأزَلِ مُسْتَحِيلًا مَعَ أنَّهُ في الأزَلِ مُتَّصِفٌ بِإمْكانِ وُجُودِهِ فِيما لا يَزالُ، وهَذا ما يُقالُ إنَّ أزَلِيَّةَ الإمْكانِ لا تَسْتَلْزِمُ إمْكانَ الأزَلِيَّةِ، وما قِيلَ في إثْباتِ الِاسْتِلْزامِ إنَّ إمْكانَهُ إذا كانَ مُسْتَمِرًّا في الأزَلِ لَمْ يَكُنْ هو في ذاتِهِ مانِعًا مِن قَبُولِ الوُجُودِ في شَيْءٍ مِن أجْزاءِ الأزَلِ فَيَكُونُ عَدَمُ مَنعِهِ مِنهُ أمْرًا مُسْتَمِرًّا في جَمِيعِ تِلْكَ الأجْزاءِ، فَإذا نَظَرَ إلى ذاتِهِ مِن حَيْثُ هو لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اتِّصافِهِ بِالوُجُودِ في شَيْءٍ مِنها بَلْ جازَ اتِّصافُهُ بِهِ في كُلٍّ مِنها بَدَلًا فَقَطْ بَلْ مَعًا أيْضًا، وجَوازُ اتِّصافِهِ في كُلٍّ مِنها هو إمْكانُ اتِّصافِهِ بِالوُجُودِ المُسْتَمِرِّ في جَمِيعِ أجْزاءِ الأزَلِ بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ فَأزَلِيَّةُ الإمْكانِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِإمْكانِ الأزَلِيَّةِ صَحِيحٌ إلى قَوْلِهِ: لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اتِّصافِهِ بِالوُجُودِ في شَيْءٍ مِنها فَإنَّهُ إنْ أرادَ أنَّ ذاتَهُ لا تَمْنَعُ في شَيْءٍ مِن أجْزاءِ الأزَلِ مِن الِاتِّصافِ بِالوُجُودِ في الجُمْلَةِ بِأنْ يَكُونَ قَوْلُهُ في شَيْءٍ مِنها مُتَعَلِّقًا بِعَدَمِ المَنعِ فَيَكُونُ مَعْناهُ أنَّهُ لا يَمْنَعُ في شَيْءٍ مِن أجْزاءِ الأزَلِ مِنَ الوُجُودِ بَعْدَهُ فَهو بِعَيْنِهِ أزَلِيَّةُ الإمْكانِ ولا يَلْزَمُ مِنهُ عَدَمُ مَنعِهِ مِنَ الوُجُودِ الأزَلِيِّ الَّذِي هو إمْكانُ الأزَلِيَّةِ، وإنْ أرادَ بِهِ أنَّ ذاتَهُ لا تَمْنَعُ مِنَ الوُجُودِ في شَيْءٍ مِن أجْزاءِ الأزَلِ بِأنْ يَكُونَ الجارُّ مُتَعَلِّقًا بِالوُجُودِ فَهو بِعَيْنِهِ إمْكانُ الأزَلِيَّةِ، والنِّزاعُ إنَّما وقَعَ فِيهِ فَهو مُصادَرَةٌ عَلى المَطْلُوبِ، ولَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ صَدَرَ هَذا الكَلامُ مِن قائِلِهِ مَعَ أنَّ مِنَ المَوْجُوداتِ ما هو إلى الوُجُودِ كَبَعْضِ الحُرُوفِ ومَعَ التَّصْرِيحِ بِأنَّ ماهِيَّةُ الزَّمانِ تَقْتَضِي لِذاتِها عَدَمَ اجْتِماعِ أجْزائِها وتَقَدُّمِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ إذْ يَلْزَمُ مِنهُ إمْكانُ وُجُودِ كُلٍّ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ في الأزَلِ نَظَرًا إلى ذاتِهِ، وتَمامُ الكَلامِ في ذَلِكَ يُطْلَبُ مِن شَرْحِ المَواقِفِ وحَواشِيهِ.
وأوْرَدَ عَلى كَوْنِ المُرادِ بِالخَلاءِ الخَلاءَ في عالَمِنا لِأنَّهُ المُتَنازَعُ فِيهِ أنَّهُ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ بِأنَّ المُتَنازَعَ فِيهِ إنَّما هو الخَلاءُ داخِلَ العالَمِ وحَقِيقَتُهُ أنْ يَكُونَ الجِسْمانِ بِحَيْثُ لا يَتَماسّانِ ولَيْسَ بَيْنَهُما ما يَماسُّهُما بِناءً عَلى كَوْنِهِ مُتَقَدِّرًا (p-7)قَطْعًا، وأمّا الخَلاءُ خارِجَ العالَمِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذْ لا تُقَدَّرُ هُناكَ بِحَسَبِ نَفْسِ الأمْرِ، فالنِّزاعُ إنَّما هو في التَّسْمِيَةِ بِالبُعْدِ، فالفَلاسِفَةُ يَقُولُونَ حَقَّهُ أنْ لا يُسَمّى بُعْدًا ولا خَلاءً، والمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَهُ بُعْدًا مَوْهُومًا ولا شَكَّ أنَّ عالَمَ كَوْنِ العَرْشِ عَلى الماءِ مِن داخِلِ العالَمِ فالخَلاءُ فِيهِ داخِلٌ في المُتَنازَعِ فِيهِ، وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أيْضًا بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ.
ومِنَ النّاسِ مَنِ اعْتَرَضَ عَلى قَوْلِهِ: إنَّهُ لَوْ كانَ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ الماءِ لَلَزِمَ إلَخْ.. بِأنَّ الأُمُورَ الَّتِي يَلْزَمُ أحَدَها ذَلِكَ التَّقْدِيرُ -وهِيَ فاسِدَةٌ- أكْثَرُها مِمّا ذُكِرَ وسَوَّدَ وجْهَ القِرْطاسِ بِبَيانِ ذَلِكَ وهو مِمّا لا يُحْتاجُ إلَيْهِ بَلْ ولا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وزَعَمَ البَعْضُ أنَّ ما راعاهُ القاضِي في هَذا الفَصْلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ مُخالِفًا لِلْقَواعِدِ الإسْلامِيَّةِ، ووَسْوَسَتْ لَهُ نَفْسُهُ أنَّ خُرُوجَ الماءِ عَنْ حَيِّزِهِ مِمّا لا يَجُوزُ لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنْ كانَ مُوجِبًا بِالذّاتِ فَلا يُتَصَوَّرُ الإخْراجُ مِنهُ سُبْحانَهُ لِأنَّ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ عَلى السَّوِيَّةِ بِحَسَبِ الأوْقاتِ فَلا يُمْكِنُ كَوْنُهُ قاصِرًا في بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وإنْ كانَ مُخْتارًا يُقالُ: إنَّ ذَلِكَ الخُرُوجَ مُمْتَنِعٌ في نَفْسِهِ وهو سُبْحانُهُ لا يَفْعَلُ المُمْتَنِعَ ولا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بِهِ، وكَذا يُقالُ في التَّخَلْخُلِ والتَّكاثُفِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِالطَّبْعِ وإلّا لَكانا دائِمَيْنِ لِأنَّ مُقْتَضى الذّاتِ لا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى امْتِناعِهِما الأصْفَهانِيُّ في شَرْحِ حِكْمَةِ المَطالِعِ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُنْتَصِرًا لِنَفْسِهِ. ولِلْقاضِي بِما لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي، وقالَ ابْنُ صَدْرِ الدِّينِ بَعْدَ نَقْلِ كَلامِ العَلّامَتَيْنِ: قَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأبْعادِ والأجْرامِ أنْ لَيْسَ لِمَجْمُوعِ كُراتِ العَناصِرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الفَلَكِ الأعْظَمِ الَّذِي هو المُرادُ بِالعَرْشِ قَدْرٌ مَحْسُوسٌ فَلا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ كُرَةِ الماءِ فَإنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ إذا كانَ عِظَمُ كُرَةِ الماءِ بِحَيْثُ يَمْلَأُ جَوْفَ العَرْشِ مَماسًّا مُحَدَّبَهُ مُقَعَّرَهُ وإلّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِهِ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ السَّطْحِ المُحَدَّبِ بَلْ إمّا أنْ لا يَتَماسّا أصْلًا أوْ يَتَماسّا بِنُقْطَةٍ عَلى ما يَشْهَدُ بِهِ التَّخَيُّلُ الصَّحِيحُ، وكَيْفَ يَتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مالِئًا لَهُ وهو الآنَ لَمْ يَمْتَلِئْ إلّا بِالسَّماواتِ والأرْضِ والكُرْسِيِّ والعَناصِرِ بِجُمْلَتِها، ولَيْسَ لَكَ أنْ تَقُولَ: لَعَلَّ الماءَ في ابْتِداءِ الخِلْقَةِ قَدْ كانَ عَلى هَذا المِقْدارِ الصَّغِيرِ الَّذِي الآنَ عَلَيْهِ فَتَخَلْخَلَ إلى حَيْثُ مَلَأ جَوْفَهُ لِامْتِناعِ الخَلاءِ، فَلَمّا خَلَقَ سائِرَ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ عادَ بِطَبْعِهِ إلى ما تَراهُ لِأنّا نَقُولُ: التَّخَلْخُلُ عِبارَةٌ عَنِ ازْدِيادِ مِقْدارِ الجِسْمِ مِن غَيْرِ أنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ فَيَسْتَدْعِي حَرَكَةً أيِّنِيَّةً وهي تَسْتَدْعِي وُجُودَ فَضاءٍ خالٍ عَنِ الشّاغُلِ وهو المُرادُ بِالخَلاءِ، وكَذا لَيْسَ لَكَ أنْ تَقُولَ: فَلْيَكُنْ في ابْتِداءِ الخِلْقَةِ عَظِيمَ المِقْدارِ بِحَيْثُ يَمْلَأُ جَوْفَ العَرْشِ وتَكاثَفَ بَعْدَ خَلْقِ سائِرِ الأجْرامِ إلى هَذا المِقْدارِ الصَّغِيرِ لِأنّا نَقُولُ أيْضًا: التَّكاثُفُ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ انْتِقاصِ مِقْدارِ الجِسْمِ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنهُ شَيْءٌ سَبَبُهُ عَلى ما تَقَرَّرَ عِنْدَهم أمْرانِ: أحَدُهُما التَّخَلْخُلُ السّابِقُ العارِضُ لَهُ بِما يُوجِبُهُ فَإذا زالَ ذَلِكَ العارِضُ عادَ بِطَبْعِهِ إلى مِقْدارِهِ الأوَّلِ كَما في المَدِّ والجَزْرِ، وفي الصُّورَةِ المَذْكُورَةِ لا يُتَصَوَّرُ هَذا لِأنَّ المَفْرُوضَ أنَّهُ خُلِقَ ابْتِداءً عَظِيمَ المِقْدارِ بِحَيْثُ يَمْلَأُ جَوْفَ العَرْشِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أنْ يَتَخَلْخَلَ بِعارِضٍ حَتّى يَعُودَ عِنْدَ زَوالِهِ إلى مِقْدارِهِ الطَّبِيعِيِّ الصَّغِيرِ وهو ظاهِرٌ؛ وثانِيهُما الِانْجِمادُ بِاسْتِيلاءِ البُرُودَةِ الشَّدِيدَةِ، وهَذا أيْضًا لا يُتَصَوَّرُ هَهُنا أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ الماءَ المُنْعَقِدَ جَمْدًا وإنْ كانَ أصْغَرَ مِقْدارًا مِنهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لَكِنَّهُ لا إلى مَرْتَبَةٍ لا يَكُونُ لَهُ قَدْرٌ مَحْسُوسٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مِقْدارِهِ الأوَّلِ بَلْ يَقْرُبُ مِنهُ في الحِسِّ كَما يُشاهَدُ في المِياهِ المُنْعَقِدَةِ ولا قَدْرَ لِكُرَةِ الماءِ المَوْجُودِ الآنَ بِالنِّسْبَةِ إلى المالِئِ جَوْفَ العَرْشِ وهَذا مِثْلُ أنْ يَنْعَقِدَ البَحْرُ فَيَصِيرُ كالعَدَسَةِ ولا يَلْتَزِمُهُ عاقِلٌ.
وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّ كُرَةَ الماءِ عَلى ما يُشاهَدُ غَيْرُ مُتَجَمِّدَةٍ بَلْ باقِيَةٌ عَلى طَبْعِها مِنَ الذَّوَبانِ، فَإنْ قُلْتَ: بَقِيَ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الماءِ في ابْتِداءِ الخِلْقَةِ عَظِيمَ المِقْدارِ مالِئًا لِجَوْفِ العَرْشِ احْتِمالٌ آخَرُ وهو أنْ يُفْرَزَ بَعْضُ أجْزاءِ هَذِهِ الكُرَةِ العَظِيمَةِ ويُجْعَلُ مادَّةً لِسائِرِ الأجْرامِ السَّماوِيَّةِ والأرْضِيَّةِ كَما في سُورَةِ انْقِلابِ بَعْضِ العَناصِرِ إلى بَعْضٍ.
(p-8)ويُؤَيِّدُهُ ما ورَدَ في الأثَرِ مِن أنَّ العَرْشَ كانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ عَلى الماءِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أحْدَثَ في الماءِ اضْطِرابًا فَأزْبَدَ فارْتَفَعَ مِنهُ دُخانٌ، وبَقِيَ الزَّبَدُ عَلى وجْهِ الماءِ فَخَلَقَ فِيهِ اليُبُوسَةَ فَصارَ أرْضًا، وخَلَقَ مِنَ الدُّخانِ السَّماواتِ، وإلى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ قُلْنا: إنَّ هَذا الِاحْتِمالَ غَيْرُ واقِعٍ، أمّا عَلى تَقْدِيرِ تَرَكُّبِ الجِسْمِ مِنَ الهَيُولِي والصُّورَةِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ المَشّاءُونَ مِنَ الفَلاسِفَةِ؛ فَلِأنَّ هَيُولِيَّ العَناصِرِ وإنْ كانَتْ واحِدَةً بِالشَّخْصِ قابِلَةً لِأنْ يَتَوارَدَ عَلَيْها صُوَرُ العَناصِرِ بِواسِطَةِ اسْتِعْداداتٍ مُتَعاقِبَةٍ تَعْرِضُ إلّا أنَّ هَيُولِيَّ كُلِّ فَلَكٍ مُخالِفَةٌ لِهَيُولِيَّ فَلَكٍ آخَرَ لا تَقْبَلُ إلّا الصُّورَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِيها، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ تَرَكُّبِهِ مِنَ الجَواهِرِ الفَرْدَةِ عَلى ما هو مَذْهَبُ أهْلِ الحَقِّ، فَلِأنَّها مُتَخالِفَةُ الحَقائِقِ عِنْدَ مُحَقِّقِي المُتَأخِّرِينَ عَلى ما صَرَّحُوا بِهِ، فَما يَتَرَكَّبُ مِنهُ الماءُ لا يَجُوزُ أنْ يَتَرَكَّبَ مِنهُ سائِرُ الأجْسامِ، وأمّا ما ورَدَ في الأثَرِ وأشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ مِن جَعْلِ الدُّخانِ المُرْتَفِعِ مِنَ الماءِ مادَّةً لِلسَّماواتِ فَمَصْرُوفٌ عَنْ ظاهِرِهِ إذِ الدُّخانُ أجْزاءٌ نارِيَّةٌ خالَطَتْها أجْزاءٌ صِغارٌ أرْضِيَّةٌ تَلَطَّفَتْ بِالحَرارَةِ ولا تَمايُزَ بَيْنَهُما في الحِسِّ لِغايَةِ الصِّغَرِ، فَقَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ بِما فِيهِما لَمْ تَكُنْ نارٌ وأرْضٌ، فَمِن أيْنَ يَتَوَلَّدُ الدُّخانُ؟ وكَذا إنْ أُرِيدَ بِالدُّخانِ البُخارُ؛ لِأنَّهُ أجْزاءٌ هَوائِيَّةٌ مازَجَتْها أجْزاءٌ صِغارٌ مائِيَّةٌ تَلَطَّفَتْ بِالحَرارَةِ بِحَيْثُ لا تَمايُزَ بَيْنَهُما في الحِسِّ أيْضًا، فَحَيْثُ لا هَواءَ لا بُخارَ؛ ولِهَذا قالَ القاضِي في تَفْسِيرِ ﴿وهِيَ دُخانٌ):﴾ أمْرٌ ظَلَمانِيٌّ، ولَعَلَّهُ أرادَ بِهِ مادَّتَها أوِ الأجْزاءِ المُتَصَغِّرَةِ الَّتِي رُكِّبَتْ مِنها، ومِن هُنا ظَهَرَ أنَّ ما في الأثَرِ لا يُؤَيِّدُ كَوْنَ العَرْشِ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ الماءِ مُلْتَصِقًا بِهِ، بَلْ يُؤَيِّدُ أنْ لا يَكُونَ بَيْنَهُما حائِلٌ إذِ ارْتِفاعُ الدُّخانِ والبُخارِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ فَضاءٍ تَتَحَرَّكُ فِيهِ تِلْكَ الأجْزاءُ، وفي صُورَةِ الِالتِصاقُ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ تَخَيُّلٌ سَلِيمٌ.
ويَعْلَمُ مِمّا ذُكِرَ أنَّهُ يَجِبُ تَفْسِيرُ الآيَةِ بِما فَسَّرَها بِهِ القاضِي، ولا مَجالَ لِلْقَوْلِ بِالوَضْعِ عَلى المَتْنِ فَيَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ، وأمّا قَوْلُ أبِي السُّعُودِ: إنَّهُ لَوْ دَلَّ إلَخْ.. فَفِيهِ أنَّ الوُقُوعَ أدَلُّ دَلِيلٍ عَلى إمْكانِ الشَّيْءِ، ومِثْلُ هَذا الِاسْتِدْلالِ شائِعٌ ذائِعٌ في كَلامِهِمْ، وأمّا أنَّ المُرادَ بِالإمْكانِ الإمْكانُ الوُقُوعِي فَكُلًّا إذِ النِّزاعُ في الإمْكانِ لا الوُقُوعِ، وما يُنْقَلُ عَنِ الأصْمَعِيِّ مِن أنَّ هَذا كَقَوْلِهِمُ: السَّماءُ عَلى الأرْضِ مَعَ أنَّ أحَدَهُما لَيْسَ مُلْتَصِقًا بِالآخَرِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنى قَوْلِ القاضِي: لَمْ يَكُنْ حائِلٌ بَيْنَهُما أنَّهُ لَمْ يَكُنْ حائِلٌ مَحْسُوسٌ بَيْنَهُما، وكانَ حائِلٌ غَيْرُ مَحْسُوسٍ وهو الهَواءُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ولا يَصْلُحُ ما ذُكِرَ مَعْنًى لِذَلِكَ؛ إذِ الفَوْقِيَّةُ كانَتْ قَبْلَ خَلْقِ جَمِيعِ أجْرامِ هَذا العالَمِ، فَعَلى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِالتِصاقِ لا يُتَصَوَّرُ حائِلٌ أصْلًا ثُمَّ بَيَّنَ وجْهَ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى أنَّ الماءَ أوَّلُ حادِثٍ بَعْدَ العَرْشِ بِنَحْوِ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، انْتَهى المُرادُ مِنهُ.
(وأقُولُ): إنَّ هَذا الِاحْتِمالَ الَّذِي أجابَ عَنْهُ بِزَعْمِهِ قَوِيٌّ جِدًّا، وما ذَكَرَهُ عَنْ مُحَقِّقِي المُتَأخِّرِينَ صَرَّحَ الجُمْهُورُ بِخِلافِهِ، وقَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ فَلا مانِعَ مِن أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الماءِ الأجْرامَ السَّماوِيَّةَ والأرْضِيَّةَ، بَلْ وكُلَّ شَيْءٍ، وما ذَكَرَهُ في حَيِّزِ تَعْلِيلِ صَرْفِ الأثَرِ عَنْ ظاهِرِهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ أصْلًا إذْ يَجُوزُ أنْ يَحِيلَ سُبْحانَهُ بَعْضَ ذَلِكَ الماءِ المالِئِ أجْزاءً نارِيَّةً وبَعْضَهُ أجْزاءً أرْضِيَّةً، ويَجْعَلُ المَجْمُوعَ دُخانًا، وكَذا يَجُوزُ أنْ يَحِيلَ البَعْضَ أجْزاءً هَوائِيَّةً فَتَمازَجَ أجْزاءً صِغارًا مائِيَّةً مُتَلَطِّفَةً بِحَرارَةٍ يَخْلُقُها حَيْثُ شاءَ، فَيَتَكَوَّنُ البُخارُ، وفي الأثَرِ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الماءِ ثُمَّ فَتَحَ القَبْضَةَ فارْتَفَعَ الدُّخانُ ثُمَّ قَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ، ويُؤَوِّلُ حَدِيثَ الِارْتِفاعِ بِما لا يَسْتَدْعِي الفَضاءَ نَحْوَ أنْ يَكُونَ المَعْنى فَوَجَدَ بَعْضَهُ دُخانًا مُرْتَفِعًا، وقَدْ يُقالُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الماءُ في ابْتِداءِ الخِلْقَةِ مالِئًا لِلْعَرْشِ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا أرادَ أنْ يَخْلُقَ ما يَخْلُقُ أفْنى مِنهُ ما أرادَ وخَلَقَ بِلا فاصِلٍ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الخَلاءُ بَدَ لَهُ ما خَلَقَ لا مِن شَيْءٍ. والقَوْلُ بِاسْتِحالَةِ هَذا الخَلْقِ مُفْضٍ إلى فَسادٍ عَظِيمٍ وخَطْبٍ جَسِيمٍ لا يَكادُ يَسْتَسْهِلُهُ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وهو ظاهِرٌ، (p-9)وما ذَكَرَهُ في دَفْعِ قَوْلِ شَيْخِ الإسْلامِ: أنَّهُ لَوْ دَلَّ لَدَلَّ إلَخْ... غَيْرُ ظاهِرٍ فِيهِ، قِيلَ: إذْ الِاعْتِراضُ بِطَرِيقِ أنَّهُ لَوْ دَلَّ لَدَلَّ عَلى وُجُودِ الخَلاءِ لا عَلى إمْكانِهِ الصَّرْفُ، لِأنَّ الشَّيْءَ إذا كانَ مَوْجُودًا كانَ وُجُودَهُ ضَرُورِيًّا لا مُمْكِنًا صَرْفًا عَلى ما بَيَّنَ في مَحَلِّهِ، ويُنادِي عَلى أنَّ الِاعْتِراضَ كَذَلِكَ تَقْيِيدُ الإمْكانِ في عِبارَتِهِ بِقَيْدٍ فَقَطْ مَعَ القَوْلِ بِالدَّلالَةِ عَلى الوُجُودِ.
وأوْرَدَ بَعْضُهم عَلى قَوْلِهِ: قَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ الأبْعادِ والأجْرامِ إلَخْ... أنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلى ظَنِّ أنَّ الماءَ في الآيَةِ هو الماءُ العُنْصُرِيُّ، وأنَّهُ مِن بَعْضِ الظَّنِّ إذْ ذاكَ إنَّما خُلِقَ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ العَرْشُ الَّذِي خُلِقَ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِهِ أوْ غَيْرَ مَوْضُوعٍ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ حائِلٍ بَيْنَهُما، وإنَّما هو الماءُ الطَّبِيعِيُّ النُّورِيُّ العَمّائِيُّ الَّذِي تَكَوَّنَ العَرْشُ مِنهُ، وفِيهِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ ما قالَهُ الكامِلُ بْنُ الكَمالِ: لَيْسَ المُرادُ مِنَ العَرْشِ تاسِعُ الأفْلاكِ، ولا مِنَ الماءِ أحَدُ العَناصِرِ لِما شَهِدَ بِذَلِكَ شَهادَةً صَحِيحَةً لا مَرَدَّ لَها ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «كانَ اللَّهُ تَعالى ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ» فَلا وجْهَ لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى إمْكانِ الخَلاءِ، وأنَّ الماءَ أوَّلُ حادِثٍ بَلْ عَرْشُهُ سُبْحانَهُ عِبارَةٌ عَنْ قَيُّومِيَّتِهِ بِناءً عَلى أنَّهُ في الأصْلِ سَرِيرُ المُلْكِ وهو مَظْهَرُ سُلْطانِهِ، والماءُ إشارَةٌ إلى صِفَةِ الحَياةِ بِاعْتِبارِ أنَّ مِنهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، فَمَعْنى ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ وكانَ حَيًّا قَيُّومًا، وفي لَفْظَةِ (عَلى) تَنْبِيهٌ عَلى تَرَتُّبِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ فَتَدَبَّرْ، انْتَهى.
ولَعَلَّ وجْهَ شَهادَةِ الخَبَرِ بِذَلِكَ النَّفْيِ تَضَمَّنَهُ عَلى تَقْدِيرِ الإثْباتِ ما يُنافِي ما تَضَمَّنَهُ النَّفْيُ فِيهِ إذْ يَكُونُ حِينَئِذٍ شَيْئانِ مَعَهُ سُبْحانَهُ فَضْلًا عَنْ شَيْءٍ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا إنَّما يَتِمُّ لَوْ كانَتِ الجُمْلَةُ الماضَوِيَّةُ في مَوْضِعِ الحالِ، والظّاهِرُ أنَّها كَغَيْرِها مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ المُسْتَأْنِفَةِ، ولَيْسَ في الكَلامِ ما يَقْتَضِي أنَّ المَعْنى ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ مَعَ وُجُودِهِ تَعالى بِدُونِ مَعِيَّةِ شَيْءٍ لَهُ لِيَضْطَرَّ إلى حَمْلِ الماءِ والعَرْشِ عَلى ما عَلِمْتُ مِن صِفَتَيْهِ تَعالى، ولا أرى في الحَدِيثِ أكْثَرَ مِن إفادَةِ ثُبُوتِ ما تَضَمَّنَتْهُ المُتَعاطِفاتُ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وأمّا أنَّ كَوْنَهُ تَعالى ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وكَوْنَ عَرْشِهِ سُبْحانَهُ عَلى الماءِ، وكِتابَتَهُ في الذِّكْرِ ما كَتَبَ كُلُّها في وقْتٍ واحِدٍ هو وقْتُ وُجُودِهِ تَعالى الواقِعُ بَعْدَهُ خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ بِمُهْلَةٍ وتَراخٍ- فَلا أراهُ، وقَدْ جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ عَطْفُ الخَلْقِ عَلى ما قَبْلَهُ بِالواوِ كَسائِرِ المَعْطُوفاتِ.
أخْرَجَ أحْمَدُ. والبُخارِيُّ والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ قالَ: «قالَ أهْلُ اليَمَنِ: يا رَسُولَ اللَّهِ أخْبِرْنا عَنْ أوَّلِ هَذا الأمْرِ كَيْفَ كانَ؟ قالَ: كانَ اللَّهُ تَعالى قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ وكَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ وخَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ» الخَبَرُ، ثُمَّ إنَّهُ لا يَتِمُّ أمْرُ الشَّهادَةِ بِمُجَرَّدِ ما تَقَدَّمَ بَلْ لا بُدَّ أيْضًا مِن حَمْلِ الكِتابَةِ في الذِّكْرِ عَلى التَّقْدِيرِ، ونَفى أنْ يَكُونَ هُناكَ كِتابَةٌ ومَكْتُوبٌ فِيهِ حَسْبَما يَتَبادَرُ مِنهُما، ويَلْتَزِمُ هَذا في الخَبَرِ الثّانِي أيْضًا، ومَعَ ذَلِكَ يُعَكِّرُ عَلى القَوْلِ بِكَوْنِ زَمَنِ التَّقْدِيرِ مُتَّحِدًا كَزَمَنِ قَيُّومِيَّتِهِ وحَياتِهِ تَبارَكَ وتَعالى مَعَ زَمَنِ وُجُودِهِ سُبْحانَهُ ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدَّرَ مَقادِيرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ وعَرْشُهُ عَلى الماءِ» لِأنَّ أجْزاءَ الزَّمانِ المَوْهُومِ الفاصِلِ بَيْنَ زَمانِ وُجُودِهِ تَعالى ووُجُودِ صِفاتِهِ وزَمانِ وُجُودِ الخَلْقِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، فَكَيْفَ تُقَدَّرُ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ وضَرْبُها في نَفْسِها وضَرْبُ الحاصِلِ مِن ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ألْفَ ألْفَ مَرَّةٍ أقَلُّ قَلِيلٍ بَلْ لا شَيْءَ يُذْكَرُ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِ المُتَناهِي؛ ويُعارِضُ هَذِهِ (p-10)الشَّهادَةَ أيْضًا ما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ أبِي رَزِينٍ العَقِيلِيِّ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وخَلَقَ عَرْشَهُ عَلى الماءِ» فَإنَّهُ نَصَّ في أنَّ العَرْشَ مَخْلُوقٌ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ القَيُّومِيَّةُ مَخْلُوقَةً، وكَذا ما رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ ياقُوتَةً خَضْراءَ فَنَظَرَ إلَيْها بِالهَيْبَةِ فَصارَتْ ماءً، ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ فَجَعَلَ الماءَ عَلى مَتْنِها، ثُمَّ وضَعَ العَرْشَ عَلى الماءِ، وجاءَ حَدِيثُ كَوْنِ الماءِ عَلى مَتْنِ الرِّيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ أخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ. والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُمْ، وإباءُ ما ذُكِرَ عَنْ كَوْنِ الماءِ بِمَعْنى صِفَةِ الحَياةِ لَهُ تَعالى ظاهِرٌ، ومِثْلُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ أنَّهُ قالَ: كانَ عَرْشُهُ سُبْحانَهُ عَلى الماءِ فَلَمّا خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ قَسَّمَ ذَلِكَ الماءَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفًا تَحْتَ العَرْشِ -وهُوَ البَحْرُ المَسْجُورُ- فَلا تَقْطُرُ مِنهُ قَطْرَةٌ حَتّى يُنْفَخَ في الصُّورِ فَيَنْزِلَ مِنهُ مِثْلُ الطَّلِّ فَتَنْبُتُ مِنهُ الأجْسامُ، وجَعَلَ النِّصْفَ الآخَرَ تَحْتَ الأرْضِ السُّفْلى، ولَعَلَّ وجْهَ الأمْرِ بِالتَّدَبُّرِ في كَلامِ هَذا الفاضِلِ الإشارَةُ إلى ما ذَكَرْنا.
وبِالجُمْلَةِ لا شَكَّ أنَّ المُتَبادَرَ مِنَ الماءِ ما هو أحَدُ العَناصِرٍ، ومِنَ العَرْشِ الجِسْمُ الَّذِي جاءَ في الأخْبارِ مِن وصْفِهِ ما يَبْهَرُ العُقُولَ، وشَهادَةُ الخَبَرِ السّابِقِ مَعَ كَوْنِها شَهادَةَ نَفْيٍ عارَضَتْها شَهاداتُ إثْباتٍ غَيْرَ نَصٍّ في المَطْلُوبِ كَما عَلِمْتُ، ومِن كَوْنِ العَرْشِ عَلى الماءِ ما يَعُمُّ الشِّقَّيْنِ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِهِ مُماسًّا لَهُ وكَوْنُهُ فَوْقَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُما ما يَماسُّهُما، وتَخْصِيصُهُ بِالشَّقِّ الثّانِي مِمّا لا يَتِمُّ لَهُ دَلِيلٌ ولا يَصْفُو عَنِ القالِ والقِيلِ، وأنَّ الآيَةَ لا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلى كَوْنِ الماءِ أوَّلَ حادِثٍ بَعْدَ العَرْشِ، ومَن رَجَعَ إلى الأخْبارِ المُعَوَّلِ عَلَيْها رَأى بَعْضَها كَخَبَرِ أبِي رَزِينٍ الَّذِي حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ظاهِرًا في أنَّ الماءَ قَبْلَ العَرْشِ، وقُصارى ما يُقالُ في هَذا المَقامِ: إنَّ الحَقَّ مَعَ شَيْخِ الإسْلامِ وأنَّ نُصْرَةَ القاضِي ٍوَإنْ كانَ ناصِرَ الدِّينِ- نُصْرَةٌ خارِجَةٌ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَبِينِ، فَلا تَلْتَفِتُ هَداكَ اللَّهُ سُبْحانَهُ إلى مَن أطالَ في ذَلِكَ بِلا طائِلٍ، وأتى بِكَلامٍ لا يُشْبِهُ كَلامَ عاقِلٍ، وزَعَمَ أنَّ ذاكَ مِنَ الحِكْمَةِ وهو عَنْها -عِلْمُ اللَّهِ- بِمَراحِلَ، ولَوْلا الوُقُوعُ في العَبَثِ لَنَقَلْناهُ ونَبَّهْنا عَلى ما فِيهِ، وإنْ كانَ حالُ ظاهِرِهِ مُؤْذِنًا بِحالٍ خافِيهِ، نَعَمْ قَدْ يُقالُ: إنَّ البَيْضاوِيَّ إنَّما ذَكَرَ أنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى كَذا وكَذا ولَمْ يَدْعُ أنَّ فِيها دَلِيلًا عَلى ذَلِكَ، فَما يَتَوَجَّهُ مِن الِاعْتِراضاتِ إنَّما يَتَوَجَّهُ عَلى المُسْتَدِلِّ دُونَهُ وكَأنَّ مَن وُجِّهَ إلَيْهِ ذَلِكَ ادَّعى ارْتِضاءَهُ لِلِاسْتِدْلالِ بِدَلِيلِ ما وطَّأهُ لَهُ مِنَ المَقالِ، وزَعَمَ الجُبّائِيُّ أنَّ في الآيَةِ دَلالَةً عَلى أنَّهُ كانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ حَيًّا مُكَلَّفًا؛ لِأنَّ خَلْقَ العَرْشِ عَلى الماءِ لا وجْهَ لِحُسْنِهِ إلّا أنْ يَكُونَ فِيهِ لُطْفٌ بِمُكَلَّفٍ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ، ورَدَّهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسى بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ ذَلِكَ ويَكْتَفِي بِكَوْنِ الإخْبارِ بِهِ نافِعًا لِلْمُكَلَّفِينَ واخْتارَهُ المُرْتَضِي، ومَنشَأُ ذَلِكَ الِاعْتِزالِ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ مَجازًا مُتَعَلِّقَةٌ بِ (خَلَقَ) أيْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما فِيهِما مِنَ المَخْلُوقاتِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أنْتُمْ، ورَتَّبَ فِيهِما جَمِيعَ ما تَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِن مَبادِي وُجُودِكم وأسْبابِ مَعاشِكم وأوْدَعَ في تَضاعِيفِهِما ما تَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِن تَعاجِيبِ الصَّنائِعِ والعِبَرِ عَلى مَطالِبِكُمُ الدِّينِيَّةِ لِيُعامِلَكم مُعامَلَةَ مَن يَخْتَبِرُكم.
﴿أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ فَيُجازِيكم حَسَبَ أعْمالِكُمْ، وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أيْ أعْلَمُ بِذَلِكَ (لِيَبْلُوَكُمْ) وقِيلَ: التَّقْدِيرُ وخَلَقَكم (لِيَبْلُوَكُمْ) وقِيلَ: في الكَلامِ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ، أيْ: وكانَ خَلْقُهُ لَهُما لِمَنافِعَ يَعُودُ عَلَيْكم نَفْعُها في الدُّنْيا دُونَ الآخِرَةِ، وفَعَلَ ذَلِكَ (لِيَبْلُوَكُمْ) والكُلُّ كَما تَرى، والِابْتِلاءُ في الأصْلِ الِاخْتِبارُ والكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ التَّمْثِيلِ (p-11)والِاسْتِعارَةِ، ولا يَصِحُّ إرادَةُ المَعْنى الحَقِيقِيِّ لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ لِمَن لا يَعْرِفُ عَواقِبَ الأُمُورِ.
وقِيلَ: إنَّهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَنِ العِلْمِ لِلتَّلازُمِ بَيْنَ العِلْمِ والِاخْتِبارِ، وهو مَحُوجٌ إلى تَكَلُّفِ أنْ يُرادَ لِيَظْهَرَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ الأزَلِيِّ، وإلّا فالعِلْمُ القَدِيمُ الذّاتِيُّ لَيْسَ مُتَفَرِّعًا عَلى غَيْرِهِ، وما تَقَدَّمَ لا تَكَلُّفَ فِيهِ، وهو مَعَ بَلاغَتِهِ مُصادِفٌ مَحَزَّهُ، والمُرادُ بِالعَمَلِ ما يَشْمَلُ عَمَلَ القَلْبِ وعَمَلَ القالَبِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ في التّارِيخِ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: «تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ (لِيَبْلُوَكُمْ) إلَخْ.. فَقُلْتُ: ما مَعْنى ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَقْلًا، ثُمَّ قالَ: وأحْسَنُكم عَقْلًا أوْرَعَكم عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ تَعالى وأعْمَلُكم بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى”». لَكِنْ ذَكَرَ الحافِظُ السُّيُوطِيُّ أنَّ سَنَدَهُ واهٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ أنَّ مَعْنى ( أحْسَنُ عَمَلًا ) أزْهَدُ في الدُّنْيا، وعَنْ مُقاتِلٍ أتْقى لِلَّهِ تَعالى، وعَنِ الضَّحّاكِ أكْثَرُهم شُكْرًا، ولَعَلَّ أخْذَ العَمَلِ شامِلًا لِلْأمْرَيْنِ أوْلى، وأفْضَلُها ما كانَ عَمَلُ القَلْبِ كَيْفَ لا ومَدارُ العِبادَةِ القالَبِيَّةِ الواجِبَةِ عَلى العِبادِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى الَّتِي تَحِلُّ القَلْبَ، وقَدْ يُرْفَعُ بِهِ لِلْعَبْدِ في يَوْمٍ مِثْلُ عَمَلِ أهْلِ الأرْضِ.
وفِي بَعْضِ الآثارِ «“تَفَكُّرُ ساعَةٍ يَعْدِلُ عِبادَةَ سَبْعِينَ سَنَةً» واعْتِبارُ خَلْقِ السَّماواتِ في ضِمْنِ المُفَرَّعِ عَلَيْهِ لِما أنَّ في السَّماواتِ مِمّا هو مِن مَبادِي النَّظَرِ وتَهْيِئَةِ أسْبابِ المَعاشِ الأرْضِيَّةِ الَّتِي بِها قَوامُ القالَبِ ما لا يَخْفى، وقَرِيبٌ مِن هَذا أنَّ ذِكْرَ السَّماواتِ وخَلْقَها لِتَكُونَ أمْكِنَةُ الكَواكِبِ والمَلائِكَةِ العامِلِينَ فِيها لِأجْلِ الإنْسانِ.
وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ كَوْنَ خَلْقِ الأرْضِ وما فِيها لِلِابْتِلاءِ ظاهِرٌ، وأمّا خَلْقُ السَّماواتِ فَذَكَرَ تَتْمِيمًا واسْتِطْرادًا مَعَ أنَّ السَّماواتِ مَقَرُّ المَلائِكَةِ الحَفَظَةِ وقِبْلَةُ الدُّعاءِ ومَهْبِطُ الوَحْيِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لَهُ دَخْلٌ في الِابْتِلاءِ في الجُمْلَةِ، ولَعَلَّ ما أُشِيرَ إلَيْهِ أوَّلًا أوْلى، وجُمْلَةُ الِاسْتِفْهامِ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِفِعْلِ البَلْوى عَلى المَشْهُورِ، وجَعَلَ في الكَشّافِ الفِعْلَ هُنا مُعَلَّقًا لِما فِيهِ مِن مَعْنى العِلْمِ، ومَنَعَ في سُورَةِ المُلْكِ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا مُدَّعِيًا أنَّهُ إنَّما يَكُونُ إذا وقَعَ بَعْدَ الفِعْلِ ما يَسُدُّ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ جَمِيعًا- كَعَلِمْتُ أيَّهُما فَعَلَ كَذا. وعَلِمْتُ أزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ -وبَيْنَ كَلامَيْهِ في السُّورَتَيْنِ اضْطِرابٌ بِحَسَبِ الظّاهِرِ، وأجابَ عَنْهُ في الكَشْفِ بِما حاصِلُهُ أنَّ لِلتَّعْلِيقِ مَعْنَيَيْنِ: مُصْطَلَحٌ ويُعَدّى بِعَنْ وهو المَنفِيُّ في تِلْكَ السُّورَةِ، ولُغَوِيٌّ ويُعَدّى بِالباءِ وعَلى، وهو خاصٌّ بِفِعْلِ القَلْبِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِالسَّبْعَةِ المُتَعَدِّيَةِ إلى مَفْعُولَيْنِ ولا يَكُونُ إلّا في الِاسْتِفْهامِ خاصَّةً دُونَ ما فِيهِ لامُ الِابْتِداءِ ونَحْوِهِ، ومَعْنى تَعْلِيقِ الفِعْلِ عَلى ما فِيهِ ذَلِكَ أنْ يَرْتَبِطَ بِهِ مَعْنى وإعْرابًا سَواءٌ كانَ لَفْظًا أوْ مَحَلًّا وهو المُثْبَتُ هَهُنا. وقالَ الطِّيبِيُّ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ما هُنا عَلى إضْمارِ العِلْمِ كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ فَيَعْلَمُ ﴿أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ والتَّعْلِيقُ فِيهِ ظاهِرٌ، وما هُناكَ عَلى تَضْمِينِ الفِعْلِ مَعْنى العِلْمِ كَأنَّهُ قِيلَ: لِيُعَلِّمَكم أيُّكم إلَخْ.. فَيَصِحُّ النَّفْيُ، ولا يَخْفى عَلى مَن راجَعَ كَلامَهُ أنَّ فِيهِ ما يَأْبى ذَلِكَ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ التَّعْلِيقَ لا يَخْتَصُّ بِما كانَ مِنَ الأفْعالِ بِمَعْنى العِلْمِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ ثَعْلَبٌ، والمُبَرِّدُ وابْنُ كِيسانَ، وإنْ وجَّهَهُ أُوَيْسٌ بِما في هَمْعِ الهَوامِعِ، ورَجَّحَهُ الشُّلُوبِينَ، ولا بِالفِعْلِ القَلْبِيِّ مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ فِيهِ وفي غَيْرِهِ مِمّا أُلْحِقَ بِهِ لَكِنْ مَعَ الِاسْتِفْهامِ خاصَّةً، واقْتَصَرَ بَعْضُهم في المُلْحَقِ عَلى بَصَرٍ. وتَفَكَّرَ. وسَألَ -وزادَ ابْنُ خَرُوفٍ نَظَرَ- ووافَقَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ. وابْنُ مالِكٍ وزادَ الأخِيرُ نَسِيَ كَما في قَوْلِهِ.
؎ومَن أنْتُمْ إنّا نَسِينا مَن أنْتُمْ.
ونازَعَهُ أبُو حَيّانِ بِأنَّ –مَن- تَحْتَمِلُ المَوْصُولِيَّةَ والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ مَن هم أنْتُمْ، وكَذا زادَ أيْضًا ما قارَبَ المَذْكُوراتِ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي لَها تَعَلُّقٌ بِفِعْلِ القَلْبِ -كَتَرى البَصَرِيَّةِ- في قَوْلِهِ: أما تَرى أيَّ بَرْقٍ هُنالِكَ، وكَيَسْتَنْبِئُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: (p-12)﴿ويَسْتَنْبِئُونَكَ أحَقٌّ هُوَ﴾ وكَنَبْلُو فِيما نَحْنُ فِيهِ، ونازَعَهُ أبُو حَيّانَ بِأنْ تَرى في الأوَّلِ عِلْمِيَّةٌ، وأيُّكم في الأخِيرِ مَوْصُولَةٌ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها فَبُنِيَتْ وهي بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ بَدَلُ بَعْضٍ، ونَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ ولَمْ أجِدْهُ في بَحْرِهِ، وفي الرَّضِيِّ أنَّ جَمِيعَ أفْعالِ الحَواسِّ تُعَلَّقُ عَنِ العَمَلِ، وفي التَّسْهِيلِ ما يُؤَيِّدُهُ، وأجازَ يُونُسُ تَعْلِيقَ كُلِّ فِعْلٍ غَيْرَ ما ذُكِرَ، وخَرَجَ عَلَيْهِ ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهم أشَدُّ﴾ والجُمْهُورُ لَمْ يُوافِقُوهُ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الفُضَلاءِ أنَّ الفِعْلَ القَلْبِيَّ وما جَرى مَجْراهُ إمّا مُتَعَدٍّ إلى واحِدٍ أوِ اثْنَيْنِ، فالأوَّلُ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ سَواءٌ تَعَدّى بِنَفْسِهِ كَعَرَفَ، أوْ بِحَرْفٍ كَتَفَكَّرَ لِأنَّ مَعْمُولَهُ لا يَكُونُ إلّا مُفْرَدًا، وبِالتَّعْلِيقِ بَطَلَ عَمَلُهُ في المُفْرَدِ الَّذِي هو مُقْتَضاهُ وتَعَلَّقَ بِالجُمْلَةِ، ولا مَعْنى لِلتَّعْلِيقِ إلّا إبْطالُ العَمَلِ لَفْظًا لا مَحَلًّا وإنْ تَعَدّى لِاثْنَيْنِ، فَإمّا أنْ يَجُوزَ وُقُوعُ الثّانِي جُمْلَةً كَما في بابِ عَلِمَ أوَّلًا، فَإنْ جازَ عُلِّقَ عَنِ المَفْعُولَيْنِ نَحْوَ عَلِمْتُ لَزَيْدٌ قائِمٌ لا عَنِ الثّانِي، لِأنَّهُ يَكُونُ جُمْلَةً بِدُونِ تَعْلِيقٍ فَلا وجْهَ لِعَدِّهِ مِنهُ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ أداةِ التَّعْلِيقِ وعَدَمِها، فالتَّعْلِيقُ لا يُبْطِلُ عَمَلَ الفِعْلِ أصْلًا، كَما في عَلِمْتُ زَيْدًا أبُوهُ قائِمٌ، وعَلِمْتُ زَيْدًا لا أبُوهُ قائِمٌ، فَإنَّ عَمَلَهُ في مَحَلِّ الجُمْلَةِ لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ وُجُودِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وعَدَمِهِ وإنْ لَمْ يَجُزْ، ووَرَدَ فِيهِ كَلِمَةُ تَعْلِيقٍ كانَ مِنهُ نَحْوَ ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ فَإنَّ المَسْؤُولَ عَنْهُ لا يَكُونُ إلّا مُفْرَدًا.
والفِعْلُ فِيما نَحْنُ فِيهِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عامِلًا فِيما بَعْدَهُ وهو المُخْتَبَرُ بِهِ غَيْرُ مُتَضَمِّنٍ عِلْمًا، وفِعْلُ البَلْوى إذا كانَ كَذَلِكَ يَتَعَدّى بِالباءِ إلى المُخْتَبَرِ بِهِ ولا يَكُونُ إلّا مُفْرَدًا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ﴾ والِاسْتِفْهامُ قَدْ أبْطَلَ مُقْتَضاهُ لَفْظًا وهو التَّعْلِيقُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مُتَضَمِّنًا مَعْنى العِلْمِ ويَكُونُ العِلْمُ عامِلًا فِيهِ وهو مَفْعُولُهُ الثّانِي، وحِينَئِذٍ لا تَعْلِيقَ، ومِن هُنا يَظْهَرُ أنَّ تَعْلِيقَ الفِعْلِ في الآيَةِ إنَّما هو عَلى تَقْدِيرِ إعْمالِ فِعْلِ البَلْوى، وعَدَمُ تَعْلِيقِهِ عَلى تَقْدِيرِ إعْمالِ العِلْمِ فَلا مُنافاةَ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، انْتَهى، وهو تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وفي الهَمْعِ أنَّ الجُمْلَةَ بَعْدَ المُعَلِّقِ في بابِ عَلِمَ وأخَواتِها في مَوْضِعِ المَفْعُولَيْنِ فَإنْ كانَ التَّعْلِيقُ بَعْدَ اسْتِيفاءِ المَفْعُولِ الأوَّلِ فَهي في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، وأمّا في غَيْرِ هَذا البابِ فَإنْ كانَ الفِعْلُ مِمّا يَتَعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ فالجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإسْقاطِهِ نَحْوَ فَكَّرْتُ أهَذا صَحِيحٌ أمْ لا، وجَعْلَ ابْنُ مالِكٍ مِنهُ ﴿فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا﴾ وإنْ كانَ مِمّا يَتَعَدّى لِواحِدٍ فَهي في مَوْضِعِهِ نَحْوَ عَرَفْتُ أيُّهم زَيْدٌ، فَإنْ كانَ مَفْعُولُهُ مَذْكُورًا نَحْوَ عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَن هُوَ، فالجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنهُ عَلى ما اخْتارَهُ السَّيْرافِيُّ. وابْنُ مالِكٍ، وهو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ قِصَّةُ زَيْدٍ أوْ أمْرُهُ عِنْدَ ابْنِ عُصْفُورٍ، والتَزَمَ ذَلِكَ لِيَكُونَ المُبْدَلُ مِنهُ جُمْلَةً في المَعْنى، وبَدَلُ اشْتِمالٍ ولا حاجَةَ إلى التَّقْدِيرِ عِنْدَ ابْنِ الصّائِغِ، وذَهَبَ المُبَرَّدُ، والأعْلَمُ، وابْنُ خَرُوفٍ. وغَيْرُهم إلى أنَّ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وذَهَبَ الفارِسِيُّ إلى أنَّها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِعَرَفْتُ عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى عَلِمْتُ، واخْتارَهُ أبُو حَيّانَ، وفِيهِ نَوْعُ مُخالَفَةٍ في الظّاهِرِ لِما تَقَدَّمَ تَظْهَرُ بِالتَّأمُّلِ إلّا أنَّهُ اعْتَرَضَ القَوْلَ بِأنَّ ما بَعْدَ فِعْلِ البَلْوى مُخْتَبَرٌ بِهِ بِأنَّ المُخْتَبَرَ بِهِ إنَّما هو خَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ، وأُجِيبَ بِأنَّ ذَلِكَ وإنْ كانَ في نَفْسِ الأمْنِ مُخْتَبَرًا عَنْهُ، والمُخْتَبَرُ بِهِ ما ذُكِرَ إلّا أنَّهُ جُعِلَ مُخْتَبَرًا بِهِ بِاعْتِبارِ تَرَتُّبِهِ عَلى ذَلِكَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ؛ وقالَ بَعْضُ أرْبابِ التَّحْقِيقِ في دَفْعِ المُخالَفَةِ: إنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ جَعَلَ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ هُنا: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ بِجُمْلَتِهِ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً فَتَكُونُ مُفْرَداتُهُ مُسْتَعْمَلَةً في مَعْناها الحَقِيقِيِّ مُعْطاةً ما تَسْتَحِقُّهُ، وفِعْلُ البَلْوى يُعَلَّقُ عَنِ المَفْعُولِ الثّانِي لِأنَّهُ لا يَكُونُ جُمْلَةً إذْ هو يَتَعَدّى لَهُ بِالباءِ، وحَرْفُ الجَرِّ لا يَدْخُلُ عَلى الجُمَلِ، وجَرى التَّعْلِيقُ فِيهِ بِناءً عَلى أنَّهُ مُناسِبٌ لِفِعْلِ القُلُوبِ مَعْنًى، وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ بِجَرَيانِهِ في ذَلِكَ وجَعْلِهِ ثَمَّةَ مُسْتَعارًا لِمَعْنى العِلْمِ، والفِعْلُ إذْ تَجَوَّزَ بِهِ عَنْ مَعْنى فِعْلٍ آخَرَ عَمِلَ عَمَلَهُ وجَرى عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وعَلِمَ لا يُعَلَّقُ عَنِ المَفْعُولِ الثّانِي، فَكَذا (p-13)ما هو بِمَعْناهُ فَيَكُونُ قَدْ سَلَكَ في كُلٍّ مِنَ المَوْضِعَيْنِ مَسْلَكًا تَفَنُّنًا، وكَثِيرًا ما يَفْعَلُ ذَلِكَ في كِتابِهِ، ولَعَلَّهُ لَمْ يَعْكِسِ الأمْرَ لِأنَّ ما فَعَلَهُ في كُلِّ أنْسَبُ بِما قَبْلَهُ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيها مِنَ النِّعَمِ والمَنافِعِ وخَلْقِ المَوْتِ والحَياةِ، ولا يُخْفى أنَّ هَذا قَرِيبٌ مِمّا تَقَدَّمَ وفِيهِ ما فِيهِ.
والإتْيانُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الدّالَّةِ عَلى الِاخْتِصاصِ بِالمُخْتَبَرَيْنِ الأحْسَنَيْنِ أعْمالًا مَعَ شُمُولِ الِاخْتِبارِ لِفِرَقِ المُكَلَّفِينَ، وتَتَفاوَتُ أعْمالُ الكُفّارِ مِنهم إلى حَسَنٍ شَرْعِيٍّ وقَبِيحٍ لا إلى حَسَنٍ وأحْسَنَ كَما في أعْمالِ المُؤْمِنِينَ لِلتَّحْرِيضِ عَلى أحاسِنِ المَحاسِنِ، والتَّحْضِيضِ عَلى التَّرَقِّي دائِمًا لِدَلالَتِهِ عَلى أنَّ الأصْلَ المَقْصُودَ بِالِاخْتِبارِ ذَلِكَ الفَرِيقُ لِيُجازِيَهم أكْمَلَ الجَزاءِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: المَقْصُودُ أنْ يُظْهِرَ أفْضَلِيَّتَكم لِأفْضَلِكم فَإنَّ ذَلِكَ مَفْرُوغٌ عَنْهُ لا يَحِيدُ عَنْهُ ذُو لُبٍّ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الزِّيادَةِ المُطْلَقَةِ وأنْ يَكُونَ مِن بابِ أيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا، وأيّامّا كانَ فالخِطابُ لَيْسَ خاصًّا بِالمُؤْمِنِينَ لِأنَّ إظْهارَ حالِ غَيْرِهِمْ مَقْصُودٌ أيْضًا لَكِنَّهُ لا بِالذّاتِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ.
﴿ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ .
أيْ مِثْلُهُ في الخَدِيعَةِ والبُطْلانِ، فالتَّرْكِيبُ مِنَ التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، والإشارَةُ إلى القَوْلِ المَذْكُورِ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ لِلْقُرْآنِ كَأنَّهُ قِيلَ: لَوْ تَلَوْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ القُرْآنِ ما فِيهِ إثْباتُ البَعْثِ لَقالُوا هَذا المَتْلُوُّ سِحْرٌ، والمُرادُ إنْكارُ البَعْثِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ لِأنَّ إنْكارَ البَعْثِ إنْكارٌ لِلْقُرْآنِ، وقِيلَ: إنَّ الإخْبارَ عَنْ كَوْنِهِمْ مَبْعُوثِينَ وإنْ لَمْ يُجِبْ عَنْ كَوْنِهِ بِطْرِيقِ الوَحْيِ المَتْلُوِّ إلّا أنَّهم عِنْدَ سَماعِهِمْ ذَلِكَ تَخَلَّصُوا إلى القُرْآنِ لِأنْبائِهِ عَنْهُ في كُلِّ مَوْضِعٍ وكَوْنِهِ عِلْمًا عِنْدَهم في ذَلِكَ فَعَمَدُوا إلى تَكْذِيبِهِ، وتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا تَمادِيًا مِنهم في العِنادِ وتَفادِيًا عَنْ سَنَنِ الرَّشادِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وقِيلَ: الإشارَةُ إلى نَفْسِ البَعْثِ، وتُعَقِّبَ بِأنَّهُ لا يُلائِمُهُ التَّسْمِيَةُ بِالسِّحْرِ، فَإنَّهُ إنَّما يُطْلَقُ عَلى شَيْءٍ مَوْجُودٍ ظاهِرًا لا أصْلَ لَهُ في الحَقِيقَةِ، ونَفْسُ البَعْثِ عِنْدَهم مَعْدُومٌ بَحْتٌ، وفِيهِ بَحْثٌ لِجَوازِ أنَّهم أرادُوا مِنَ السِّحْرِ الأمْرَ الباطِلَ والشَّيْءَ الَّذِي لا أصْلَ لَهُ ولا حَقِيقَةَ لِشُيُوعِهِ فِيما بَيْنَهم بِذَلِكَ حَتّى كَأنَّهُ عَلَمٌ لَهُ.
وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى القائِلِ، والإخْبارُ عَنْهُ بِالسِّحْرِ لِلْمُبالِغَةِ، والخِطابُ في (إنَّكُمْ) إنْ كانَ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ فالمَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ لِلتَّخْصِيصِ، أيْ لَيَقُولُنَّ الكافِرُونَ مِنهُمْ، وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ فَذِكْرُ المَوْصُولِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلى ذَمِّهِمْ بِعُنْوانِ الصِّلَةِ، وتَعَلُّقُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِما قَبْلَها إمّا مِن حَيْثُ أنَّ البَعْثَ مِن تَتِمّاتِ الِابْتِلاءِ المَذْكُورِ فِيهِ كَأنَّهُ قِيلَ: الأمْرُ كَما ذُكِرَ، ومَعَ ذَلِكَ إنْ أخْبَرْتَهم بِمُقَدِّمَةٍ فَذَّةٍ مِن مُقَدِّماتِهِ وقَضِيَّةٍ فَرْدَةٍ مِن تَتِمّاتِهِ يَقُولُونَ ما يَقُولُونَ فَضْلًا عَنْ أنَّهم يُصَدِّقُونَ بِما وقَعَ هَذا تَتِمَّةٌ لَهُ، وإمّا مِن حَيْثُ إنَّ البَعْثَ خَلْقٌ جَدِيدٌ فَكَأنَّهُ قِيلَ: وهو الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْها ما يَتَرَتَّبُ، ومَعَ ذَلِكَ إنْ أخْبَرْتَهم بِأنَّهُ سُبْحانَهُ يُعِيدُهم تارَةً أُخْرى وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ يَعُدُّونَ ذَلِكَ ما يَعُدُّونَ، فَسُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ.
وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ (ولَئِنْ قُلْتُ) بِضَمِّ التّاءِ عَلى أنَّ الفِعْلَ مُسْنَدٌ إلَيْهِ تَعالى أيْ (ولَئِنْ قُلْتُ) ذَلِكَ في كِتابِي المُنَزَّلِ عَلَيْكَ ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلَخْ، وفي البَحْرِ أنَّ المَعْنى عَلى ذَلِكَ ﴿ولَئِنْ قُلْتَ﴾ مُسْتَدِلًّا عَلى البَعْثِ مِن بَعْدِ المَوْتِ إذْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ إلَخْ.. دَلالَةٌ عَلى القُدْرَةِ العَظِيمَةِ، فَمَتى أخْبَرَ بِوُقُوعٍ مُمْكِنٍ وقَعَ لا مَحالَةَ، وقَدْ أخْبَرَ بِالبَعْثِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وتَيَقَّنَ وُقُوعُهُ، انْتَهى، وهو لَدى الذَّوْقِ السَّلِيمِ كَماءِ البَحْرِ.
وقَرَأ الأعْمَشُ (أنَّكُمْ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى تَضْمِينِ (قُلْتَ) مَعْنى ذَكَرْتَ ﴿ولَئِنْ قُلْتَ﴾ ذاكِرًا ﴿إنَّكم مَبْعُوثُونَ﴾ فَإنَّ وما بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرِ مَفْعُولٍ لِلذِّكْرِ، واسْتَظْهَرَ بَعْضُهم كَوْنَ القَوْلِ بِمَعْنى الذِّكْرِ مَجازًا، وتَعَقَّبَ بِأنَّ (p-14)الذِّكْرَ والقَوْلَ مُتَرادِفانِ فَلا مَعْنى لِلتَّجَوُّزِ حِينَئِذٍ، ولَمّا كانَ القَوْلُ باقِيًا في التَّضْمِينِ جاءَ الخِطابُ عَلى مُقْتَضاهُ.
وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ أنَّ بِمَعْنى عَلَّ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وجاءَ ائْتِ السُّوقَ عَلَّكَ تَشْتَرِي لَحْمًا وأنَّكَ تَشْتَرِي لَحْمًا، وهي لِتَوَقُّعِ المُخاطَبِ لَكِنْ لا عَلى سَبِيلِ الإخْبارِ فَإنَّهم لا يَتَوَقَّعُونَ البَعْثَ بَلْ عَلى سَبِيلِ الأمْرِ كَأنَّهُ قِيلَ: تَوَقَّعُوا بَعْثَكم ولا تَبُتُّوا القَوْلَ بِإنْكارِهِ، وبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ ما يُقالُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قاطِعٌ بِالبَعْثِ فَكَيْفَ يَقُولُ لَعَلَّكم مَبْعُوثُونَ، وأيْضًا القِراءَةُ المَشْهُورَةُ صَرِيحَةٌ في القَطْعِ والبَتِّ، وهَذِهِ صَرِيحَةٌ في خِلافِهِ فَيَتَنافَيانِ، ومِنهم مَن قالَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا مِنَ الكَلامِ المُنْصِفِ والِاسْتِدْراجِ فَرُبَّما يَنْتَبِهُونَ إذا تَفَكَّرُوا ويَقْطَعُونَ بِالبَعْثِ إذا نَظَرُوا.
وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ -إلّا ساحِرٌ- والإشارَةُ إلى القائِلِ، ولا مُبالَغَةَ في الإخْبارِ كَما كانَتْ عَلى هَذا الِاحْتِمالِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلْقَوْلِ أوْ لِلْقُرْآنِ، وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما في قَوْلِهِمْ: شِعْرُ شاعِرٍ
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ وَلَىِٕن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق