الباحث القرآني

(p-2)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ الدّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوانٍ ذِي رُوحٍ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى عاقِلًا أوْ غَيْرَهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّبِيبِ وهو في الأصْلِ المَشْيُ الخَفِيفُ ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎زَعَمَتْنِي شَيْخًا ولَسْتُ بِشَيْخٍ إنَّما الشَّيْخُ مَن يَدِبُّ دَبِيبًا واخْتُصَّتْ في العُرْفِ بِذَواتِ القَوائِمِ الأرْبَعِ وقَدْ تُخَصُّ بِالفَرَسِ، والمُرادُ بِها هُنا المَعْنى اللُّغَوِيُّ بِاتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ أيْ: وما مِن حَيَوانٍ يَدِبُّ عَلى الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ تَعالى غِذاؤُهُ ومَعاشُهُ، والمُرادُ أنَّ ذَلِكَ كالواجِبِ عَلَيْهِ تَعالى إذْ لا وُجُوبَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ كَما بَيَّنَ في الكَلامِ، فَكَلِمَةُ (عَلى) المُسْتَعْمَلَةُ لِلْوُجُوبِ مُسْتَعارَةٌ اسْتِعارَةَ تَبَعِيَّةٍ لِما يُشْبِهُهُ ويَكُونُ مِنَ المَجازِ بِمَرْتَبَتَيْنِ، وذَكَرَ الإمامُ أنَّ الرِّزْقَ واجِبٌ بِحَسَبِ الوَعْدِ والفَضْلِ والإحْسانِ عَلى مَعْنى أنَّهُ باقٍ عَلى تَفَضُّلِهِ لَكِنْ لَمّا وعَدَهُ سُبْحانَهُ وهو جَلَّ شَأْنُهُ لا يُخِلُّ بِما وعَدَ صَوَّرَهُ بِصُورَةِ الوُجُوبِ لِفائِدَتَيْنِ: التَّحْقِيقُ لِوُصُولِهِ. وحَمْلُ العِبادِ عَلى التَّوَكُّلِ فِيهِ، ولا يَمْنَعُ مِنَ التَّوَكُّلِ مُباشَرَةَ الأسْبابِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ المُسَبِّبُ لَها، فَفي الخَبَرِ «اعْقِلْ وتَوَكَّلْ» وجاءَ «لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها وأجَلَها فاتَّقُوا اللَّهَ تَعالى وأجْمِلُوا في الطَّلَبِ» ولا يَنْبَغِي أنْ يَعْتَقِدَ أنَّهُ لا يَحْصُلُ الرِّزْقُ بِدُونِ مُباشَرَةِ سَبَبٍ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَرْزُقُ الكَثِيرَ مِن دُونِ مُباشَرَةِ سَبَبٍ أصْلًا، وفي بَعْضِ الآثارِ «إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ نُزُولِ الوَحْيِ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِأحْوالِ أهْلِهِ فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَضْرِبَ بِعَصاهُ صَخْرَةً فَضَرَبَ فانْشَقَّتِ الصَّخْرَةُ وخَرَجَتْ صَخْرَةٌ ثانِيَةٌ فَضَرَبَها فَخَرَجَتْ ثالِثَةٌ فَضَرَبَها فانْشَقَّتْ عَنْ دُودَةٍ كالذَّرَّةِ وفي فَمِها شَيْءٌ يَجْرِي مَجْرى الغِذاءِ لَها وسَمِعَها تَقُولُ: سُبْحانَ مَن يَرانِي ويَسْمَعُ كَلامِي ويَعْرِفُ مَكانِي ويَذْكُرُنِي ولا يَنْسانِي» وما أحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ أُذَيْنَةَ: ؎لَقَدْ عَلِمَتْ وما الإشْرافُ مِن خُلُقِي ∗∗∗ إنَّ الَّذِي هو رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي ؎أسْعى إلَيْهِ فَيُعْيِينِي تَطَلُّبُهُ ∗∗∗ ولَوْ أقَمْتُ أتانِي لا يُعْنِينِي وقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ تَعالى في ذَلِكَ يَوْمَ وفَدَ عَلى هِشامٍ فَقَرَعَهُ بِقَوْلِهِ هَذا فَرَجَعَ إلى المَدِينَةِ فَنَدِمَ هِشامٌ عَلى ذَلِكَ وأرْسَلَ بِجائِزَتِهِ إلَيْهِ، ويَقْرُبُ مِن قِصَّتِهِ قِصَّةُ الثَّقَفِيِّ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عامِرٍ خالِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهي مَشْهُورَةٌ حَكاها ابْنُ أبِي الدُّنْيا ونَقَلَها غَيْرُ واحِدٍ، وقَدْ ألْغى أمْرَ الأسْبابِ جِدًّا مَن قالَ: ؎مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ ∗∗∗ مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكَ ؎أنْتَ لا تُدْرِكُهُ مُتْبَعًا ∗∗∗ وإذا ولَيْتَ عَنْهُ تَبِعَكَ (p-3)وبِالجُمَلَةِ يَنْبَغِي الوُثُوقُ بِاللَّهِ تَعالى ورَبَطُ القَلْبِ بِهِ سُبْحانَهُ فَما شاءَ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ (واحْتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ) بِالآيَةِ عَلى أنَّ الحَرامَ رِزْقٌ وإلّا فَمَن لَمْ يَأْكُلْ طُولَ عُمُرِهِ إلّا مِنَ الحَرامِ يَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ مَرْزُوقًا، وأُجِيبَ بِأنَّ هَذا مُجَرَّدٌ فَرْضٍ إذْ لا أقَلَّ مِنَ التَّغَذِّي بِلَبَنِ الأُمِّ مَثَلًا وهو حَلالٌ عَلى أنَّ المُرادَ أنَّ كُلَّ حَيَوانٍ يَحْتاجُ إلى الرِّزْقِ إذا رُزِقَ فَإنَّما رِزْقُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى وهو لا يُنافِي أنْ يَكُونَ هُناكَ مَن لا رِزْقَ لَهُ كالمُتَغَذِّي بِالحَرامِ، وكَذا مَن لَمْ يُرْزَقْ أصْلًا حَتّى ماتَ جُوعًا، ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ. ﴿ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها﴾ مَوْضِعَ قَرارِها في الأصْلابِ ﴿ومُسْتَوْدَعَها﴾ مَوْضِعَها في الأرْحامِ وما يَجْرِي مَجْراها مِنَ البَيْضِ ونَحْوِهِ، فالمُسْتَقَرُّ والمُسْتَوْدَعُ اسْما مَكانٍ، وجَوَّزَ فِيهِما أنْ يَكُونا مَصْدَرَيْنِ وأنْ يَكُونَ المُسْتَوْدَعُ اسْمَ مَفْعُولٍ لِتَعَدِّي فِعْلِهِ، ولا يَجُوزُ في المُسْتَقَرِّ ذَلِكَ لِأنَّ فِعْلَهُ لازِمٌ، والأوَّلُ هو الظّاهِرُ، وإنَّما خُصَّ كُلٌّ مِن الِاسْمَيْنِ بِما خُصَّ بِهِ مِنَ المَحَلِّ -كَما قالَ بَعْضُ الفُضَلاءَ- لِأنَّ النُّطْفَةَ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إلى الأصْلابِ في حَيِّزِها الطَّبِيعِيِّ ومَنشَئِها الخَلْقِيِّ، وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلى الأرْحامِ مَثَلًا فَهي مُودَعَةٌ فِيها إلى وقْتٍ مُعَيَّنٍ، وعَنْ عَطاءٍ تَفْسِيرُ المُسْتَقَرِّ بِالأرْحامِ والمُسْتَوْدَعِ بِالأصْلابِ وكَأنَّهُ أخَذَ تَفْسِيرَ الأوَّلِ بِذَلِكَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ونُقِرُّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ﴾، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالمُسْتَقَرِّ مَساكِنُها مِنَ الأرْضِ حَيْثُ وُجِدَتْ بِالفِعْلِ، وبِالمُسْتَوْدَعِ مَحَلُّها مِنَ المَوادِّ والمَقارِّ حِينَ كانَتْ بَعْدُ بِالقُوَّةِ، وهَذا عامٌّ لِجَمِيعِ الحَيَواناتِ بِخِلافِ الأوَّلِ إذْ مِنَ الحَيَواناتِ ما لَمْ يَسْتَقِرَّ في صُلْبٍ كالمُتَكَوِّنِ مِن عُفُونَةِ الأرْضِ مَثَلًا، ولَعَلَّ تَقْدِيمَ مَحَلِّها بِاعْتِبارِ حالَتِها الأخِيرَةِ لِرِعايَةِ المُناسَبَةِ بَيْنَها وبَيْنَ عُنْوانِ كَوْنِها دابَّةً في الأرْضِ، والمَعْنى عَلى ما قِيلَ: ما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا يَرْزُقُها اللَّهُ تَعالى حَيْثُ كانَتْ مِن أماكِنِها يَسُوقُهُ إلَيْها ويَعْلَمُ مَوادَّها المُخْتَلِفَةَ المُنْدَرِجَةَ في مَراتِبِ الِاسْتِعْداداتِ المُتَفاوِتَةِ المُتَطَوِّرَةِ في الأطْوارِ المُتَبايِنَةِ ومَقارِّها المُتَنَوِّعَةِ يُفِيضُ عَلَيْها في كُلِّ مَرْتَبَةٍ ما يَلِيقُ بِها مِن مَبادِي وُجُودِها وكَمالاتِها المُتَفَرِّعَةِ عَلَيْها، ولا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ إلّا أنَّ فِيهِ بُعْدًا، وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ مُسْتَقَرَّها حَيْثُ تَأْوِي ومُسْتَوْدَعَها حَيْثُ تَمُوتُ، وتَعَقَّبَ بِأنَّ تَفْسِيرَ المُسْتَوْدَعِ بِذَلِكَ لا يُلائِمُ مَقامَ التَّكَفُّلِ بِأرْزاقِها، وقَدْ يُقالُ: لَعَلَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى نِهايَةِ أمَدِ ذَلِكَ التَّكَفُّلِ، وفي خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إشارَةٌ إلى ما هو كالمَبْدَأِ لَهُ أيْضًا، فَقَدْ أخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والحاكِمُ وصَحَّحَهُ أنَّهُ قالَ: مُسْتَقَرُّها الأرْحامُ، ومُسْتَوْدَعُها حَيْثُ تَمُوتُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِ كُلِّ دابَّةٍ ويَعْلَمُ مَكانَها أوَّلَ ما تَحْتاجُ إلى الرِّزْقِ ومَكانَها آخِرَ ما تَحْتاجُ إلَيْهِ فَهو سُبْحانَهُ يَسُوقُهُ إلَيْها ولا بُدَّ إلى أنْ يَنْتَهِيَ أمَدُ احْتِياجِها، وجَوَّزَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ أنْ تَكُونَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا وأنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ داخِلَةً في حَيِّزِ (إلّا) وعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الأجْهُورِيُّ. ﴿كُلٌّ في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الدَّوابِّ ورِزْقُها ومُسْتَقَرُّها ومُسْتَوْدَعُها، أوْ كُلُّ ما ذُكِرَ وغَيْرُهُ مُثْبَتٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ البَيِّنِ لِمَن يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أوِ المُظْهِرُ لِما أُثْبِتَ فِيهِ لِلنّاظِرَيْنِ، والجُمْلَةُ -عَلى ما قالَ الطِّيبِيُّ- كالتَّتْمِيمِ لِمَعْنى وُجُوبِ تَكَفُّلِ الرِّزْقِ كَمَن أقَرَّ بِشَيْءٍ في ذِمَّتِهِ ثُمَّ كَتَبَ عَلَيْهِ صَكًّا، وفي الكَشْفِ إنَّ الأظْهَرَ أنَّها تَحْقِيقٌ لِلْعِلْمِ وكَأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى عُمُومِ عِلْمِهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب