الباحث القرآني

﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ أيْ تَتَوَلَّوْا فَهو مُضارِعٌ حُذِفَ مِنهُ إحْدى التّاءَيْنِ وحُمِلَ عَلى ذَلِكَ لِاقْتِضاءِ أبْلَغْتُكم لَهُ، وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَوْنَهُ ماضِيًا، وفي الكَلامِ التِفاتٌ ولا يَظْهَرُ حُسْنُهُ ولِذا قَدَّرَ غَيْرَهُ مِمَّنْ جَعَلَهُ كَذَلِكَ فَقُلْ أبْلَغْتُكم لَكِنَّهُ لا حاجَةَ إلَيْهِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ الأعْرَجِ وعِيسى الثَّقَفِيِّ (تُوَلُّوا) بِضَمِّ التّاءِ واللّامِ مُضارِعُ ولّى، والمُرادُ فَإنْ تَسْتَمِرُّوا عَلى ما كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوَلِّي والإعْراضِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنهم فَلا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِ، وجَوَّزَ أنْ يَبْقى عَلى ظاهِرِهِ بِحَمْلِهِ عَلى التَّوَلِّي الواقِعِ بَعْدَما حَجَّهُمْ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ لِقَوْمِ هُودٍ والخِطابُ مَعَهُمْ، وهو مِن تَمامِ الجُمَلِ المَقُولَةِ قَبْلُ، وقالَ التِّبْرِيزِيُّ: إنَّ الضَّمِيرَ لِكَفّارِ قُرَيْشٍ وهو مِن تَلْوِينِ الخِطابِ، وقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ إلى الإخْبارِ عَمَّنْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكَأنَّهُ قِيلَ: أخْبِرْهم عَنْ قِصَّةِ قَوْمِ هُودٍ وادْعُهم إلى الإيمانِ بِاللَّهِ تَعالى لِئَلّا يُصِيبَهم كَما أصابَ قَوْمَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا﴾ فَقُلْ لَهم -قَدْ أبْلَغْتُكُمْ- إلَخْ وهو مِنَ البُعْدِ بِمَكانٍ كَما لا يَخْفى، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَقَدْ أبْلَغْتُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ﴾ دَلِيلُ جَوابِ الشَّرْطِ أيْ إنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ أُعاتِبْ عَلى تَفْرِيطٍ في الإبْلاغِ فَإنَّ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكم قَدْ بَلَغَكم فَأبَيْتُمْ إلّا تَكْذِيبَ الرِّسالَةِ وعَداوَةَ الرَّسُولِ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ إنْ تَتَوَلَّوْا فَما عَلَيَّ كَبِيرُ هَمٍّ مِنكُمْ، فَإنَّهُ قَدْ بَرِئَتْ ساحَتِي بِالتَّبْلِيغِ وأنْتُمْ أصْحابُ الذَّنْبِ في الإعْراضِ عَنِ الإيمانِ، وقِيلَ: إنَّهُ الجَزاءُ بِاعْتِبارٍ لازَمَ مَعْناهُ المُسْتَقْبَلَ بِاعْتِبارِ ظُهُورِهِ أيْ فَلا تَفْرِيطَ مِنِّي ولا عُذْرَ لَكُمْ، وقِيلَ: إنَّهُ جَزاءٌ بِاعْتِبارِ الإخْبارِ لِأنَّهُ كَما يُقْصَدُ تَرَتُّبُ المَعْنى يُقْصَدُ تَرَتُّبُ الإخْبارِ كَما في (وما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عَلى ما مَرَّ وكُلُّ ذَلِكَ لِما أنَّ الإبْلاغَ واقِعٌ قَبْلَ تَوَلِّيهِمْ، والجَزاءُ يَكُونُ مُسْتَقْبَلًا بِالنَّظَرِ إلى زَمانِ الشَّرْطِ. وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّ صِحَّةَ وُقُوعِهِ جَوابًا لِأنَّ في إبْلاغِهِ إلَيْهِمْ رِسالَتَهُ تَضْمَنُ ما يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ المُسْتَأْصِلِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَإنْ تَتَوَلَّوُا اسْتُؤْصِلْتُمْ بِالعَذابِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ الجُمْلَةُ الخَبَرِيَّةُ، وهي قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ وفِيهِ مَنعٌ ظاهِرٌ، وهَذا كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ: اسْتِئْنافٌ بِالوَعِيدِ لَهم بِأنَّ اللَّهَ تَعالى يُهْلِكُهم ويَسْتَخْلِفُ قَوْمًا آخَرِينَ في دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ، وهو اسْتِئْنافٌ نَحْوِيٌّ عِنْدَ بَعْضٍ بِناءً عَلى جَوازِ تَصْدِيرِهِ بِالواوِ. وقالَ الطِّيبِيُّ: المُرادُ بِهِ أنَّ الجُمْلَةَ لَيْسَتْ بِداخِلَةٍ في الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ جَزاءً بَلْ تَكُونُ جُمْلَةً بِرَأْسِها مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ مِنَ العِبارَةِ، وعَلَيْهِ تَكُونُ مُرَتَّبَةً عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ والمَعْنى أنَّهُ عَلى العَدْلِ يَنْتَقِمُ مِنكم ويُهْلِكُكُمْ، وقالَ الجَلْبِيُّ: لا مانِعَ عِنْدِي مِن حَمْلِهِ عَلى الِاسْتِئْنافِ (p-85)البَيانِيِّ جَوابًا عَمّا يَتَرَتَّبُ عَلى التَّوَلِّي وهو الظّاهِرُ كَأنَّهُ قِيلَ: ما يُفْعَلُ بِهِمْ إذا تَوَلَّوْا؟ فَقِيلَ: (يَسْتَخْلِفُ) إلَخْ، وتَعَقَّبَهُ بَعْضُهم بِأنَّ الِاسْتِئْنافَ البَيانِيَّ لا يَقْتَرِنُ بِالواوِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى الجَوابِ لَكِنْ عَلى ما بَعْدَ الفاءِ لِأنَّهُ الجَوابُ في الحَقِيقَةِ، والفاءُ رابِطَةٌ لَهُ ودُخُولُ الفاءِ عَلى المُضارِعِ هُنا لِأنَّهُ تابِعٌ يَتَسامَحُ فِيهِ. وقِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَقُلْ: (يَسْتَخْلِفُ) إلَخْ، وقَرَأ حَفْصٌ بِرِوايَةِ هُبَيْرَةَ و(يَسْتَخْلِفْ) بِالجَزْمِ وهو عَطْفٌ عَلى مَوْضِعِ الجُمْلَةِ الجَزائِيَّةِ مَعَ الفاءِ كَأنَّهُ قِيلَ: ( فَإنْ تَوَلَّوْا ) يَعْذُرُنِي ويُهْلِكُكم (ويَسْتَخْلِفُ) مَكانَكم آخَرِينَ. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَ ذَلِكَ تَسْكِينًا لِتَوالِي الحَرَكاتِ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ كَذَلِكَ، وبِجَزْمِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾، وقِيلَ: إنَّ مَن جَزَمَ الأوَّلَ جَزَمَ هَذا لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ وهو الظّاهِرُ، والمَعْنى لا تَضُرُّونَهُ بِهَلاكِكم شَيْئًا أيْ لا يَنْتَقِصُ مُلْكُهُ ولا يَخْتَلُّ أمْرُهُ، ويُؤَيِّدُ هَذا ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ ولا تَنْقُصُونَهُ شَيْئًا ونَصَبَ (شَيْئًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِتَضُرُّونِ أيْ شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ لِأنَّهُ لا يَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، وجَعَلَهُ بَعْضُهم مَفْعُولًا ثانِيًا مُفَسِّرًا لَهُ بِما يَتَعَدّى لَهُما لِمَكانِ الرِّوايَةِ، وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ المَعْنى إنَّكم لا تَقْدِرُونَ إذا أهْلَكَكم عَلى إضْرارِهِ بِشَيْءٍ ولا عَلى الِانْتِصارِ مِنهُ ولا تُقابِلُونَ فِعْلَهُ بِشَيْءٍ يَضُرُّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، والأوَّلُ أظْهَرُ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمُ التَّوَلِّيَ بَدَلَ الإهْلاكِ أيْ ولا تَضُرُّونَهُ بِتَوَلِّيكم شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ لِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ﴿إنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ أيْ رَقِيبٌ مُحِيطٌ بِالأشْياءِ عِلْمًا فَلا يَخْفى عَلَيْهِ أعْمالُكم ولا يَغْفُلُ عَنْ مُؤاخَذَتِكُمْ، فالحِفْظُ كِنايَةٌ عَنِ المُجازاةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الحَفِيظُ بِمَعْنى الحافِظِ بِمَعْنى الحاكِمِ المُسْتَوْلِي، أيْ أنَّهُ سُبْحانَهُ حافِظٌ مُسْتَوْلٍ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ومِن شَأْنِهِ ذَلِكَ كَيْفَ يَضُرُّهُ شَيْءٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب