الباحث القرآني

﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ﴾ وفِيهِ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ ضُرِّهِمْ بِطْرِيقٍ بُرْهانِيٍّ يَعْنِي أنَّكم وإنْ لَمْ تُبْقُوا في القَوْسِ مَنزِعًا وبَذَلْتُمْ مُضادَّتَيْ مَجْهُودِكم لا تَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا تُرِيدُونَ بِي، فَإنِّي مُتَوَكِّلٌ عَلى اللَّهِ تَعالى واثِقٌ بِكَلاءَتِهِ وهو مالِكِي ومالِكُكم لا يَصْدُرُ عَنْكم شَيْءٌ ولا يُصِيبُنِي أمْرٌ إلّا بِإرادَتِهِ، وجِيءَ بِلَفْظِ الماضِي لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى الإنْشاءِ المُناسِبِ لِلْمَقامِ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَرْهَنَ عَلى عَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلى ضُرِّهِ مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما مِن دابَّةٍ إلا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها﴾ أيْ إلّا هو مالِكٌ لَها قادِرٌ عَلَيْها يَصْرِفُها كَيْفَ يَشاءُ غَيْرَ مُسْتَعْصِيَةٍ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ، والنّاصِيَةُ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ وتُطْلَقُ عَلى الشَّعَرِ النّابِتِ عَلَيْها، واسْتِعْمالُ الأخْذِ بِالنّاصِيَةِ في القُدْرَةِ والتَّسَلُّطِ مَجازٌ أوْ كِنايَةٌ، وفي البَحْرِ أنَّهُ صارَ عُرْفًا في القُدْرَةِ عَلى الحَيَوانِ، وكانَتِ العَرَبُ تَجُزُّ الأسِيرَ المَمْنُونَ عَلَيْهِ عَلامَةً عَلى أنَّهُ قَدْ قُدِرَ عَلَيْهِ وقُبِضَ عَلى ناصِيَتِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ مُنْدَرِجٌ في البُرْهانِ وهو تَمْثِيلٌ واسْتِعارَةٌ لِأنَّهُ تَعالى مُطَّلِعٌ عَلى أُمُورِ العِبادِ مُجازٍ لَهم بِالثَّوابِ والعِقابِ كافٍ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ كَمَن وقَفَ عَلى الجادَّةِ فَحَفِظَها ودَفَعَ ضَرَرَ السّابِلَةِ بِها، وهو كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ وقِيلَ: مَعْناهُ إنَّ مَصِيرَكم (p-84)إلَيْهِ تَعالى لِلْجَزاءِ وفَصْلِ القَضاءِ، ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى، وفي الكَشْفِ إنَّ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ﴾ الآيَةَ مِنَ اللَّطائِفِ ما يَبْهَرُكَ تَأمُّلُهُ مِن حُسْنِ التَّعْلِيلِ، وما يُعْطِيهِ أنَّ مَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لَمْ يُبالِ بِهَوْلِ ما نالَهُ ثُمَّ التَّدَرُّجُ إلى تَعْكِيسِ التَّخْوِيفِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّي ورَبِّكُمْ﴾ فَكَيْفَ يُصابُ مَن لَزِمَ سُدَّةَ العُبُودِيَّةِ ويَنْجُو مَن تَوَلّى ما يُعْطِيهِ مِن وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ إذا كانَ كَذَلِكَ وتَرْشِيحُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما مِن دابَّةٍ﴾ إلى تَمامِ التَّمْثِيلِ، فَإنَّهُ في الِاقْتِدارِ عَلى المُعْرِضِ أظْهَرُ مِنهُ في الرَّأْفَةِ عَلى المُقْبِلِ خِلافَ الصِّفَةِ الأُولى، وما فِيهِ مِن تَصْوِيرِ رُبُوبِيَّتِهِ واقْتِدارِهِ تَعالى وتَصْوِيرِ ذُلِّ المَعْبُودِينَ بَيْنَ يَدَيْ قَهْرِهِ أيّامّا كانَ، والخَتْمُ بِما يُفِيدُ الغَرَضَيْنِ عَلى القَطْعِ كِفايَةُ مَن إيّاهُ تَوَلّى وخِزايَةُ مَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ وتَوَلّى بِناءً عَلى أنَّ مَعْناهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ عَلى الحَقِّ والعَدْلِ لا يَضِيعُ عِنْدَهُ مُعْتَصِمٌ ولا يَفُوتُهُ ظالِمٌ، وفي قَوْلِهِ: (رَبِّي) مِن غَيْرِ إعادَةِ (ورَبُّكُمْ) كَما في الأوَّلِ نُكْتَةٌ سِرِّيَّةٌ بَعْدَ اخْتِصارِ المَعْنى عَنِ الحَشْوِ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى زِيادَةِ اخْتِصاصِهِ بِهِ، وأنَّهُ رَبُّ الكُلِّ اسْتِحْقاقًا ورَبُّهُ دُونَهم تَشْرِيفًا وإرْفاقًا
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب