الباحث القرآني

﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي﴾ أيِ انْشَفِي اسْتُعِيرَ مِنِ ازْدِرادِ الحَيَوانِ ما يَأْكُلُهُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كالكَشْفِ المُعْتادِ التَّدْرِيجِيِّ، وتَخْصِيصُ البَلْعِ بِما يُؤْكَلُ هو المَشْهُورُ عَنِ اللُّغَوِيِّينَ، وقالَ اللَّيْثُ: يُقالُ: بَلَعَ الماءَ إذا شَرِبَهُ وهو ظاهِرٌ في أنَّهُ غَيْرُ خاصٍّ بِالمَأْكُولِ، وذَكَرَ السَّيِّدُ أنَّ ذَلِكَ مَجازٌ، وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أنَّ البَلْعَ بِمَعْنى الِازْدِراءِ لُغَةٌ حَبَشِيَّةٌ، وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ أنَّهُ بِمَعْنى الشُّرْبِ لُغَةٌ هِنْدِيَّةٌ ﴿ماءَكِ﴾ أيْ ما عَلى وجْهِكِ مِن ماءِ الطُّوفانِ، وعَبَّرَ عَنْهُ بِالماءِ بَعْدَ ما عَبَّرَ عَنْهُ فِيما سَلَفَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ المَقامَ مَقامُ النَّقْصِ والتَّقْلِيلِ لا مَقامُ التَّفْخِيمِ والتَّهْوِيلِ ﴿ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ أيِ امْسِكِي عَنْ إرْسالِ المَطَرِ؛ يُقالُ: أقْلَعَتِ السَّماءُ إذا انْقَطَعَ مَطَرُها، وأقْلَعَتِ الحُمّى إذا كَفَّتْ، والظّاهِرُ أنَّ المَطَرَ لَمْ يَنْقَطِعْ حَتّى قِيلَ لِلسَّماءِ ما قِيلَ، وهَلْ فَوَرانُ الماءِ كانَ مُسْتَمِرًّا حَتّى قِيلَ لِلْأرْضِ ما قِيلَ، أمْ لا؟ لَمْ أرَ فِيهِ شَيْئًا والآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا في أحَدِ الأمْرَيْنِ ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ أيْ نَقَصَ، يُقالُ: غاضَهُ إذا نَقَصَهُ وجَمِيعُ مَعانِيهِ راجِعَةٌ إلَيْهِ. وقَوْلُ الجَوْهَرِيِّ: غاضَ الماءُ إذا قَلَّ ونَضَبَ وغِيضَ الماءُ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ لا يُخالِفُهُ، فَإنَّ القِلَّةَ عَيْنُ النُّقْصانِ، وتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِالنَّقْصِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ أُنْجِزَ ما وعَدَ اللَّهُ تَعالى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ مِن إهْلاكِ كُفّارِ قَوْمِهِ وإنْجائِهِ بِأهْلِهِ المُؤْمِنِينَ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى أتَمَّ الأمْرَ ﴿واسْتَوَتْ﴾ اسْتَقَرَّتْ، يُقالُ: اسْتَوى عَلى السَّرِيرِ إذا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ ﴿عَلى الجُودِيِّ﴾ بِتَشْدِيدِ الياءِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِتَخْفِيفِها وهُما لُغَتانِ كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو جَبَلٌ بِالمَوْصِلِ أوْ بِالشّامِ أوْ بِآمُلٍ بِالمَدِّ وضَمِّ المِيمِ والمَشْهُورُ (p-62)وجاءَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ الجِبالَ تَشامَخَتْ إذْ ذاكَ وتَواضَعَ هو لِلَّهِ تَعالى شَأْنُهُ فَأكْرَمَهُ سُبْحانَهُ بِاسْتِواءِ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ ومَن تَواضَعَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ رَفَعَهُ، وكانَ اسْتِواؤُها عَلَيْهِ يَوْمَ عاشُوراءَ، فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ وغَيْرُهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأُناسٍ مِنَ اليَهُودِ وقَدْ صامُوا يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: ما هَذا الصَّوْمُ؟ فَقِيلَ: هَذا اليَوْمُ الَّذِي أنْجى اللَّهُ تَعالى فِيهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وبَنِي إسْرائِيلَ مِنَ الغَرَقِ وغَرِقَ فِيهِ فِرْعَوْنُ، وهَذا يَوْمُ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلى الجُودِيِّ، فَصامَهُ نُوحٌ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: أنا أحَقُّ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وأحَقُّ بِصَوْمِ هَذا اليَوْمِ فَصامَهُ وأمَرَ أصْحابَهُ بِالصَّوْمِ». وأخْرَجَ الأصْبَهانِيُّ في التَّرْغِيبِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أيْضًا وأنَّ صِيامَهُ يَعْدِلُ سَنَةً مَبْرُورَةً، وكانَ رُكُوبُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ في عَشْرٍ خَلَوْنَ مِن رَجَبٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الغَفُورِ، عَنْ أبِيهِ مَرْفُوعًا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَكِبَ في أوَّلِ يَوْمٍ مِن رَجَبٍ فَصامَ هو ومَن مَعَهُ وجَرَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ سِتَّةَ أشْهُرٍ فانْتَهى ذَلِكَ إلى المُحَرَّمِ، فَأرْسَتِ السَّفِينَةُ عَلى الجُودِيِّ يَوْمَ عاشُوراءَ فَصامَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ وأمَرَ جَمِيعَ مَن مَعَهُ مِنَ الوَحْشِ والدَّوابِّ فَصامُوا شُكْرًا لِلَّهِ. وفِي بَعْضِ الآثارِ أنَّها طافَتْ بِهِمُ الأرْضَ كُلَّها ولَمْ تَدْخُلِ الحَرَمَ لَكِنَّها طافَتْ بِهِ أُسْبُوعًا، وأنَّ الحَجَرَ الأسْوَدَ خُبِّئَ في جَبَلِ أبِي قُبَيْسٍ وأنَّ البَيْتَ رُفِعَ إلى السَّماءِ. وفي رِوايَةِ ابْنِ عَساكِرَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الحَرَمَ مِنَ الماءِ شَيْءٌ، والظّاهِرُ عَلى هَذا أنَّهُ لا خَبْءَ كَما أنَّهُ لا رَفْعَ وعِنْدِي أنَّ رِوايَةَ ثُبُوتِهِما جَمِيعًا مِمّا لا تَكادُ تَصِحُّ، وبِفَرْضِ صِحَّتِها لا يَظْهَرُ لِي سِرُّ رَفْعٍ بِلا حَجْرٍ وخَبْءِ الحَجَرِ بِلا بَيْتٍ، بَلْ عِنْدِي في رَفْعِ البَيْتِ مُطْلَقًا تَرَدُّدٌ وإنْ كُنْتُ مِمَّنْ لا يَتَرَدَّدُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ أيْ هَلاكًا لَهُمْ، واللّامُ صِلَةُ المَصْدَرِ وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِقِيلَ وإنَّ المَعْنى قِيلَ لِأجْلِهِمْ بُعْدًا، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، والتَّعَرُّضُ لِوَصْفِ الظُّلْمِ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّتِهِ لِلْهَلاكِ ولِتَذْكِيرِ ما سَبَقَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ولا يَخْفى ما في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى عُمُومِ هَلاكِ الكَفَرَةِ، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ آياتٌ أُخَرُ وأخْبارٌ كَثِيرَةٌ، بَلْ فِيها ما هو عَلى عِلّاتِهِ ظاهِرٌ في عُمُومِ هَلاكِ مَن عَلى الأرْضِ ما عَدا أهْلَ السَّفِينَةِ، فَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أنَّ فِيمَن أصابَ الغَرَقُ امْرَأةٌ مَعَها صَبِيٌّ لَها فَوَضَعَتْهُ عَلى صَدْرِها فَلَمّا بَلَغَها الماءُ وضَعَتْهُ عَلى مَنكِبِها، فَلَمّا بَلَغَها الماءُ وضَعَتْهُ عَلى يَدَيْها فَقالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: لَوْ رَحِمْتُ أحَدًا مِن أهْلِ الأرْضِ لَرَحِمْتُها ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ لَمْ يَنْجُ أحَدٌ مِنَ الكُفّارِ سِوى عُوجِ بْنِ عُوقٍ وكانَ الماءُ يَصِلُ إلى حُجْرَتِهِ، وسَبَبُ نَجاتِهِ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ احْتاجَ إلى خَشَبِ ساجٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُ نَقْلُهُ فَحَمَلَهُ عُوجٌ مِنَ الشّامِ إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنَجّاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الغَرَقِ لِذَلِكَ، وظاهِرُ كَلامِ القامُوسِ يَقْتَضِي نَجاتَهُ، فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ عُوجُ بْنُ عُوقٍ -بِضَمِّهِما- رَجُلٌ وُلِدَ في مَنزِلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَعاشَ إلى زَمَنِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والحَقُّ أنَّهُ لَمْ يَنْجُ أحَدٌ مِنَ الكُفّارِ أصْلًا، وخَبَرُ عُوجٍ يَرْوِيهِ هَيّانُ بْنُ بَيّانٍ فَلا تَعُجْ إلى القَوْلِ بِهِ ولا يُشَكِّلُ إغْراقُ الأطْفالِ الَّذِينَ لا ذَنْبَ لَهم لِما أنَّهُ مُجَرَّدُ سَبَبٍ لِلْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ، وأيُّ مَحْذُورٍ في إماتَةِ مَن لا ذَنْبَ لَهُ وفي كُلِّ وقْتٍ يُمِيتُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن ذَلِكَ ما لا يُحْصى وهو جَلَّ شَأْنُهُ المالِكُ الحَقُّ والمُتَصَرِّفُ المُطْلَقُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ؟ ولا يُحْتاجُ في الجَوابِ إلى ما أخْرَجَهُ إسْحاقُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ عَساكِرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيادِ بْنِ سَمْعانَ، عَنْ رِجالٍ سَمّاهُمْ، أنَّ اللَّهَ تَعالى أعْقَمَ رِجالَهم قَبْلَ الطُّوفانِ بِأرْبَعِينَ عامًا وأعْقَمَ نِساءَهم فَلَمْ يَتَوالَدُوا أرْبَعِينَ عامًا مُنْذُ دَعا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتّى أدْرَكَ الصَّغِيرُ فَبَلَغَ الحِنْثَ وصارَتْ لِلَّهِ تَعالى (p-63)عَلَيْهِمُ الحُجَّةُ ثُمَّ أنْزَلَ السَّماءَ عَلَيْهِمْ بِالطُّوفانِ إذْ يُبْقِي عَلَيْهِ مَعَ ضَعْفِهِ والتَّعارُضِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الخَبَرِ السّابِقِ آنِفًا أمْرُ إهْلاكِ ما لَمْ يَكُنْ في السَّفِينَةِ مِنَ الحَيَواناتِ، وقَدْ جاءَ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا حَمَلَ مَن حَمَلَ في السَّفِينَةِ رَأتِ البَهائِمُ والوَحْشُ والسِّباعُ العَذابَ، فَجَعَلَتْ تَلْحَسُ قَدَمَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَقُولُ: احْمِلْنا مَعَكَ فَيَقُولُ: إنَّما أُمِرْتُ أنْ أحْمِلَ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ولَمْ يَحْمِلْها، وكَذا لا يُحْتاجُ إلى الجَوابِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أهْلَكَ أُولَئِكَ الأطْفالَ لِعِلْمِهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِما كانُوا فاعِلِينَ، وذَلِكَ كَما يُقالُ في وجْهِ إدْخالِ أطْفالِ الكُفّارِ النّارَ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى قَوْلِ مَن يَراهُ لِما أنَّ فِيهِ ما فِيهِ، وبِالجُمْلَةِ إماتَةُ الأحْياءِ بِأيِّ سَبَبٍ كانَ دَفْعَةً أوْ تَدْرِيجًا مِمّا لا مَحْذُورَ فِيهِ ولا يُسْئَلُ عَنْهُ. هَذا واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ قَدْ بَلَغَتْ مِن مَراتِبِ الإعْجازِ أقاصِيها واسْتَذَلَّتْ مَصاقِعَ العَرَبِ فَسَفَعَتْ بِنَواصِيها، وجَمَعَتْ مِنَ المَحاسِنِ ما يَضِيقُ عَنْهُ نِطاقُ البَيانِ، وكانَتْ مِن سَمْهَرِيِّ البَلاغَةِ مَكانَ السِّنانِ، ويُرْوى أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ قَصَدُوا أنْ يُعارِضُوا القُرْآنَ فَعَكَفُوا عَلى لُبابِ البُرِّ ولُحُومِ الضَّأْنِ وسُلافِ الخَمْرِ أرْبَعِينَ يَوْمًا لِتَصْفُوَ أذْهانُهُمْ، فَلَمّا أخَذُوا فِيما قَصَدُوهُ وسَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: هَذا الكَلامُ لا يُشْبِهُ كَلامَ المَخْلُوقِينَ فَتَرَكُوا ما أخَذُوا فِيهِ وتَفَرَّقُوا. ويُرْوى أيْضًا أنَّ ابْنَ المُقَفَّعِ وكانَ كَما في القامُوسِ فَصِيحًا بَلِيغًا بَلْ قِيلَ: إنَّهُ أفْصَحُ أهْلِ وقْتِهِ رامَ أنْ يُعارِضَ القُرْآنَ فَنَظَمَ كَلامًا وجَعَلَهُ مُفَصَّلًا وسَمّاهُ سُوَرًا، فاجْتازَ يَوْمًا بِصَبِيٍّ يَقْرَؤُها في مَكْتَبٍ فَرَجَعَ ومَحا ما عَمِلَ وقالَ: أشْهَدُ أنَّ هَذا لا يُعارَضُ أبَدًا وما هو مِن كَلامِ البَشَرِ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا لا يَسْتَدْعِي أنْ لا يَكُونَ سائِرُ آياتِ القُرْآنِ العَظِيمِ مُعْجِزًا لِما أنَّ حَدَّ الإعْجازِ هو المَرْتَبَةُ الَّتِي يَعْجُزُ البَشَرُ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِها ولا تَدْخُلُ عَلى قُدْرَتِهِ قَطْعًا، وهي تَشْتَمِلُ عَلى شَيْئَيْنِ: الأوَّلُ الطَّرَفُ الأعْلى مِنَ البَلاغَةِ، أعْنِي ما تَنْتَهِي إلَيْهِ البَلاغَةُ ولا يُتَصَوَّرُ تَجاوُزُها إيّاهُ، والثّانِي ما يَقْرُبُ مِن ذَلِكَ الطَّرَفِ أعْنِي المَراتِبَ العَلِيَّةَ الَّتِي تَتَقاصَرُ القُوى البَشَرِيَّةُ عَنْها أيْضًا، ومَعْنى إعْجازِ آياتِ الكِتابِ المَجِيدِ بِأسْرِها هو كَوْنُها مِمّا تَتَقاصَرُ القُوى البَشَرِيَّةُ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِها سَواءٌ كانَتْ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ أوِ الثّانِي، فَلا يَضُرُّ تَفاوُتُها في البَلاغَةِ وهو الَّذِي قالَهُ عُلَماءُ هَذا الشَّأْنِ، وأنْشَدَ بَعْضُ الفُرْسِ في ذَلِكَ: ؎دَرْ بَيانْ ودَرْ فَصاحَتْ كَيْ بُودِ يكِسانِ سُخْنِ ورَجِهْ كُوينده بودجون حافِظ وجَوْن أصْمَعِيّ ؎دُرْ كَلام أيزد بِيجُون كَهَّ وحَيَّ منزلست ∗∗∗ كَيْ بِوِدٍّ تيت يَدًا جَوْن قِيلَ: يا أرْضٌ ابلعي وقَدْ فَصَّلَ بَعْضَ مَزايا هَذِهِ الآيَةِ المَهَرَةُ المُتْقِنُونَ وتَرَكُوا مِن ذَلِكَ ما لا يَكادُ يَصِفُهُ الواصِفُونَ، ولا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِمّا ذُكِرَ إفادَةً لِجاهِلٍ وتَذْكِيرًا لِفاضِلٍ غافِلٍ فَنَقُولُ: ذَكَرَ العَلّامَةُ السَّكاكِيُّ أنَّ النَّظَرَ فِيها مِن أرْبَعِ جِهاتٍ: مِن جِهَةِ البَيانِ ومِن جِهَةِ عِلْمِ المَعانِي وهُما مَرْجِعا البَلاغَةِ، ومِن جِهَةِ الفَصاحَةِ المَعْنَوِيَّةِ ومِن جِهَةِ الفَصاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ؛ أمّا النَّظَرُ فِيها مِن جِهَةِ عِلْمِ البَيانِ وهو النَّظَرُ فِيما فِيها مِنَ المَجازِ والِاسْتِعارَةِ والكِنايَةِ وما يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ القَرِينَةِ والتَّرْشِيحِ والتَّعْرِيضِ، فَهو أنَّهُ عَزَّ سُلْطانُهُ لَمّا أرادَ أنْ يُبَيِّنَ مَعْنى أرَدْنا أنْ نَرُدَّ ما انْفَجَرَ مِنَ الأرْضِ إلى بَطْنِها فارْتَدَّ وأنْ نَقْطَعَ طُوفانَ السَّماءِ فانْقَطَعَ وأنْ نَغِيضَ الماءَ النّازِلَ مِنَ السَّماءِ فَغاضَ، وأنْ نَقْضِيَ أمْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو إنْجازُ ما كُنّا وعَدْناهُ مِن إغْراقِ قَوْمِهِ فَقُضِيَ، وأنْ نُسَوِّيَ السَّفِينَةَ عَلى الجُودِيِّ فاسْتَوَتْ، وأبْقَيْنا الظَّلَمَةَ غَرْقى، بَنى سُبْحانَهُ الكَلامَ عَلى تَشْبِيهِ المُرادِ مِنهُ بِالمَأْمُورِ الَّذِي لا يَتَأتّى مِنهُ لِكَمالِ هَيْبَتِهِ مِنَ الآمِرِ العِصْيانُ وتَشْبِيهِ تَكْوِينِ المُرادِ بِالأمْرِ الجَزْمِ النّافِذِ في تَكَوُّنِ المَقْصُودِ تَصْوِيرًا لِاقْتِدارِهِ سُبْحانَهُ العَظِيمِ، وأنَّ هَذِهِ الأجْرامَ العَظِيمَةَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ تابِعَةٌ لِإرادَتِهِ تَعالى إيجادًا وإعْدامًا ولِمَشِيئَتِهِ فِيها تَغْيِيرًا وتَبْدِيلًا (p-64)كَأنَّها عُقَلاءُ مُمَيِّزُونَ قَدْ عَرَفُوهُ جَلَّ شَأْنُهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وأحاطُوا عِلْمًا بِوُجُوبِ الِانْقِيادِ لِأمْرِهِ والإذْعانِ لِحُكْمِهِ، وتَحَتَّمَ بَذْلُ المَجْهُودِ عَلَيْهِمْ في تَحْصِيلِ مُرادِهِ وتَصَوَّرُوا مَزِيدَ اقْتِدارِهِ فَعَظُمَتْ مَهابَتُهُ في نُفُوسِهِمْ وضَرَبَتْ سُرادِقَها في أفْنِيَةِ ضَمائِرِهِمْ، فَكَما يَلُوحُ لَهم إشارَتُهُ سُبْحانَهُ كانَ المُشارُ إلَيْهِ مُقَدَّمًا، وكَما يَرِدُ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ تَعالى شَأْنُهُ كانَ المَأْمُورُ بِهِ مُتَمِّمًا لا تَلَقِّيَ لِإشارَتِهِ بِغَيْرِ الإمْضاءِ والِانْقِيادِ ولا لِأمْرِهِ بِغَيْرِ الإذْعانِ والِامْتِثالِ، ثُمَّ بَنى عَلى مَجْمُوعِ التَّشْبِيهَيْنِ نَظْمَ الكَلامِ فَقالَ جَلَّ وعَلا: (قِيلَ) عَلى سَبِيلِ المَجازِ عَنِ الإرادَةِ مِن بابِ ذِكْرِ المُسَبَّبِ وإرادَةِ السَّبَبِ؛ لِأنَّ الإرادَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ القَوْلِ في الجُمْلَةِ، وجَعَلَ قَرِينَةَ هَذا المَجازِ خِطابَ الجَمادِ وهو يا أرْضُ ويا سَماءُ إذْ يَصِحُّ أنْ يُرادَ حُصُولُ شَيْءٍ مُتَعَلِّقٍ بِالجَمادِ، ولا يَصِحُّ القَوْلُ لَهُ، ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ كَما تَرى: يا أرْضُ ويا سَماءُ مُخاطِبًا لَهُما عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ لِلشَّبَهِ المَذْكُورِ، والظّاهِرُ أنَّهُ أرادَ أنَّ هُناكَ اسْتِعارَةً بِالكِنايَةِ حَيْثُ ذَكَرَ المُشَبَّهَ أعْنِي السَّماءَ والأرْضَ المُرادُ مِنهُما حُصُولُ أمْرٍ، وأُرِيدَ المُشَبَّهُ بِهِ أعْنِي المَأْمُورَ المَوْصُوفَ بِأنَّهُ لا يَتَأتّى مِنهُ العِصْيانُ ادِّعاءً بِقَرِينَةِ نِسْبَةِ الخِطابِ إلَيْهِ ودُخُولِ حَرْفِ النِّداءِ عَلَيْهِ، وهُما مِن خَواصِّ المَأْمُورِ المُطِيعِ ويَكُونُ هَذا تَخْيِيلًا. وقَدْ يُقالُ: أرادَ أنَّ الِاسْتِعارَةَ هَهُنا تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ في حَرْفِ النِّداءِ بِناءً عَلى تَشْبِيهِ تَعَلُّقِ الإرادَةِ بِالمُرادِ مِنهُ بِتَعَلُّقِ النِّداءِ والخِطابِ بِالمُنادى المُخاطَبِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لا يَحْسُنُ هَذا التَّشْبِيهُ ابْتِداءً بَلْ تَبَعًا لِلتَّشْبِيهِ الأوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أصْلًا لِمَتْبُوعِهِ! عَلى أنَّ قَوْلَهُ لِلشَّبَهِ المَذْكُورِ يَدْفَعُ هَذا الحَمْلَ، ثُمَّ اسْتَعارَ لِغَوْرِ الماءِ في الأرْضِ البَلْعَ الَّذِي هو أعْمالُ الجاذِبَةِ في المَطْعُومِ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُما وهو الذَّهابُ إلى مَقَرٍّ خَفِيٍّ. وفِي الكَشّافِ جَعَلَ البَلْعَ مُسْتَعارًا لِنَشْفِ الأرْضِ الماءَ وهو أوْلى، فَإنَّ النَّشَفَ دالٌّ عَلى جَذْبٍ مِن أجْزاءِ الأرْضِ لِما عَلَيْها كالبَلْعِ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَيَوانِ، ولِأنَّ النَّشَفَ فِعْلُ الأرْضِ والغَوْرَ فِعْلُ الماءِ مَعَ الطِّباقِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ تَعَدِّيًا، ثُمَّ اسْتَعارَ الماءَ لِلْغِذاءِ اسْتِعارَةً بِالكِنايَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالغِذاءِ لِتَقَوِّي الأرْضِ بِالماءِ في الإنْباتِ لِلزُّرُوعِ والأشْجارِ تَقَوِّي الآكِلِ بِالطَّعامِ، وجَعْلُ قَرِينَةِ الِاسْتِعارَةِ لَفْظَةُ (ابْلَعِي) لِكَوْنِها مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْمالِ في الغِذاءِ دُونَ الماءِ. ولا يَخْفى عَلَيْكَ إذا اعْتُبِرَ مَذْهَبُ السَّلَفِ في الِاسْتِعارَةِ يَكُونُ (ابْلَعِي) اسْتِعارَةً تَصْرِيحِيَّةً ومَعَ ذَلِكَ يَكُونُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ قَرِينَةً لِلِاسْتِعارَةِ بِالكِنايَةِ في الماءِ عَلى حَدِّ ما قالُوا في ( يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ)، وأمّا إذا اعْتُبِرَ مَذْهَبُهُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ البَلْعُ باقِيًا عَلى حَقِيقَتِهِ كالإنْباتِ في أنْبَتَ الرَّبِيعُ البَقْلَ وهو بَعِيدٌ أوْ يُجْعَلُ مُسْتَعارًا لِأمْرٍ مُتَوَهَّمٍ كَما في نَطَقَتِ الحالُ، فَيَلْزَمُهُ القَوْلُ بِالِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ كَما هو المَشْهُورُ، إنَّهُ تَعالى أمَرَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ لِلتَّشْبِيهِ الثّانِي وخاطَبَ في الأمْرِ تَرْشِيحًا لِاسْتِعارَةِ النِّداءِ. والحاصِلُ أنَّ في لَفْظِ (ابْلَعِي) بِاعْتِبارِ جَوْهَرِهِ اسْتِعارَةً لِغَوْرِ الماءِ وبِاعْتِبارِ صُورَتِهِ أعْنِي كَوْنَهُ صُورَةَ أمْرٍ اسْتِعارَةً أُخْرى لِتَكْوِينِ المُرادِ، وبِاعْتِبارِ كَوْنِهِ أمْرَ خِطابِ تَرْشِيحٍ لِلِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ الَّتِي في المُنادى فَإنَّ قَرِينَتَها النِّداءُ، وما زادَ عَلى قَرِينَةِ المَكْنِيَّةِ يَكُونُ تَرْشِيحًا لَها، وأمّا جَعْلُ النِّداءِ اسْتِعارَةً تَصْرِيحِيَّةً تَبَعِيَّةً حَتّى يَكُونَ خِطابُ الآمِرِ تَرْشِيحًا لَها فَقَدْ عَرَفْتَ ما فِيهِ، ثُمَّ قالَ جَلَّ وعَلا: (ماءَكِ) بِإضافَةِ الماءِ إلى الأرْضِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ تَشْبِيهًا لِاتِّصالِ الماءِ بِالأرْضِ بِاتِّصالِ المُلْكِ بِالمالِكِ، واخْتارَ ضَمِيرَ الخِطابِ لِأجْلِ التَّرْشِيحِ، وحاصِلُهُ أنَّ هُناكَ مَجازًا لُغَوِيًّا في الهَيْئَةِ الإضافِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى الِاخْتِصاصِ المَلَكِيِّ، ولِهَذا جَعَلَ الخِطابَ تَرْشِيحًا لِهَذِهِ الِاسْتِعارَةِ مِن حَيْثُ إنَّ الخِطابَ يَدُلُّ عَلى صُلُوحِ الأرْضِ لِلْمالِكِيَّةِ فَما قِيلَ: إنَّ المَجازَ عَقْلِيٌّ والعِبارَةَ مَصْرُوفَةٌ عَنِ الظّاهِرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ اخْتارَ لِاحْتِباسِ المَطَرِ الإقْلاعَ الَّذِي هو تَرْكُ الفاعِلِ الفِعْلَ لِلشَّبَهِ بَيْنَهُما في عَدَمِ ما كانَ مِنَ المَطَرِ أوِ الفِعْلِ فَفي (أقْلِعِي) (p-65)اسْتِعارَةٌ بِاعْتِبارِ جَوْهَرِهِ، وكَذا بِاعْتِبارِ صِيغَتِهِ أيْضًا، وهي مَبْنِيَّةٌ عَلى تَشْبِيهِ تَكْوِينِ المُرادِ بِالأمْرِ الجَزْمِ النّافِذِ، والخِطابُ فِيهِ أيْضًا تَرْشِيحٌ لِاسْتِعارَةِ النِّداءِ، والحاصِلُ أنَّ الكَلامَ فِيهِ مِثْلُ ما مَرَّ في (ابْلَعِي)، ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمْرُ واسْتَوَتْ عَلى الجُودِيِّ وقِيلَ بُعْدًا﴾ فَلَمْ يُصَرِّحْ جَلَّ وعَلا بِمَن غاضَ الماءَ ولا بِمَن قَضى الأمْرَ وسَوّى السَّفِينَةَ وقالَ بُعْدًا، كَما لَمْ يُصَرِّحْ سُبْحانَهُ بِقائِلِ يا أرْضُ ويا سَماءُ في صَدْرِ الآيَةِ سُلُوكًا في كُلِّ واحِدٍ في ذَلِكَ لِسَبِيلِ الكِنايَةِ؛ لِأنَّ تِلْكَ الأُمُورَ العِظامَ لا تَصْدُرُ إلّا مِن ذِي قُدْرَةٍ لا يَكْتَنِهُ قَهّارٌ لا يُغالَبُ فَلا مَجالَ لِذَهابِ الوَهْمِ إلى أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ قائِلًا: (يا أرْضُ) و(يا سَماءُ) ولا غائِضَ ما غاضَ ولا قاضِيَ مِثْلَ ذَلِكَ الأمْرِ الهائِلِ، أوْ أنْ يَكُونَ تَسْوِيَةُ السَّفِينَةِ وإقْرارُها بِتَسْوِيَةِ غَيْرِهِ. والحاصِلُ أنَّ الفِعْلَ إذا تَعَيَّنَ لِفاعِلٍ بِعَيْنِهِ اسْتُتْبِعَ لِذَلِكَ أنْ يُتْرَكَ ذِكْرُهُ ويُبْنى الفِعْلُ لِمَفْعُولِهِ أوْ يُذْكَرُ ما هو أثَرٌ لِذَلِكَ الفِعْلِ عَلى صِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ ويُسْنَدُ إلى ذَلِكَ المَفْعُولِ فَيَكُونُ كِنايَةً عَنْ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ الَّتِي هي الفِعْلُ بِمَوْصُوفِها، وهَذا أوْلى مِمّا قِيلَ في تَقْرِيرِ الكِنايَةِ هُنا: إنَّ تَرْكَ ذِكْرِ الفاعِلِ وبِناءَ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ مِن لَوازِمِ العِلْمِ بِالفِعْلِ وتَعَيُّنِهِ لِفاعِلِيَّةِ ذَلِكَ الفِعْلِ فَذَكَرَ اللّازِمَ وأُرِيدَ المَلْزُومُ لِما أنَّ اسْتَوَتْ غَيْرُ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ كَقِيلَ وغِيضَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ الكَلامَ بِالتَّعَرُّضِ تَنْبِيهًا لِسالِكِي مَسْلَكِ أُولَئِكَ القَوْمِ في تَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ظُلْمًا لِأنْفُسِهِمْ لا غَيْرَ؛ خَتْمَ إظْهارٍ لِمَكانِ السُّخْطِ ولِجِهَةِ اسْتِحْقاقِهِمْ إيّاهُ وأنَّ قِيامَةَ الطُّوفانِ وتِلْكَ الصُّورَةَ الهائِلَةَ ما كانَتْ إلّا لِظُلْمِهِمْ كَما يُؤْذِنُ بِذَلِكَ الدُّعاءُ بِالهَلاكِ بَعْدَ هَلاكِهِمْ والوَصْفِ بِالظُّلْمِ مَعَ تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِهِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ البُعْدَ في الأصْلِ ضِدُّ القُرْبِ وهو بِاعْتِبارِ المَكانِ، ويَكُونُ في المَحْسُوسِ وقَدْ يُقالُ في المَعْقُولِ نَحْوُ ﴿ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا﴾ واسْتِعْمالُهُ في الهَلاكِ مَجازٌ؛ قالَ ناصِرُ الدِّينِ: يُقالُ بَعُدَ بُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وبَعَدًا بِالتَّحْرِيكِ إذا بَعُدَ بُعْدًا بَعِيدًا بِحَيْثُ لا يُرْجى عَوْدُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْهَلاكِ وخُصَّ بِدُعاءِ السُّوءِ، ولَمْ يُفَرَّقْ في القامُوسِ بَيْنَ صِيغَتَيِ الفِعْلِ في المَعْنَيَيْنِ حَيْثُ قالَ: البُعْدُ مَعْرُوفٌ والمَوْتُ وفِعْلُهُما كَكَرُمَ وفَرِحَ بُعْدًا وبَعَدًا فافْهَمْ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الأرْضَ والسَّماءَ أُعْطِيَتا ما يَعْقِلانِ بِهِ الأمْرَ فَقِيلَ لَهُما حَقِيقَةً ما قِيلَ، وأنَّ القائِلَ بُعْدًا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا خِلافُ الظّاهِرِ ولا أثَرَ فِيهِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، والكَلامُ عَلى الأوَّلِ أبْلَغُ، وأمّا النَّظَرُ فِيها مِن جِهَةِ عِلْمِ المَعانِي وهو النَّظَرُ في فائِدَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ فِيها وِجْهَةُ كُلِّ تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ فِيما بَيْنَ جُمَلِها، فَذَلِكَ أنَّهُ اخْتِيرَ (يا) دُونَ سائِرِ أخَواتِها لِكَوْنِها أكْثَرَ في الِاسْتِعْمالِ وأنَّها دالَّةٌ عَلى بُعْدِ المُنادى الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ مَقامُ إظْهارِ العَظَمَةِ وإبْداءُ شَأْنِ العِزَّةِ والجَبَرُوتِ وهو تَبْعِيدُ المُنادى المُؤْذِنِ بِالتَّهاوُنِ بِهِ، ولَمْ يَقُلْ يا أرْضِ بِالكَسْرِ لِأنَّ الإضافَةَ إلى نَفْسِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَقْتَضِي تَشْرِيفًا لِلْأرْضِ وتَكْرِيمًا لَها، فَتُرِكَ إمْدادًا لِلتَّهاوُنِ لَمْ يَقُلْ يا أيَّتُها الأرْضُ مَعَ كَثْرَتِهِ في نِداءِ الأجْناسِ قَصْدًا إلى الِاخْتِصارِ والِاحْتِرازِ عَلى تَكَلُّفِ التَّنْبِيهِ المُشْعِرِ بِالغَفْلَةِ الَّتِي لا تُناسِبُ ذَلِكَ المَقامَ، واخْتِيرَ لَفْظُ الأرْضِ والسَّماءِ عَلى سائِرِ أسْمائِها كالمُقِلَّةِ والغَبْراءِ وكالمُظِلَّةِ والخَضْراءِ لِكَوْنِهِما أخْصَرَ وأوْرَدَ في الِاسْتِعْمالِ وأوْفى بِالمُطابَقَةِ، فَإنَّ تَقابُلَهُما إنَّما اشْتُهِرَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ واخْتِيرَ لَفْظُ (ابْلَعِي) عَلى ابْتَلِعِي لِكَوْنِهِ أخْصَرَ وأوْفَرَ تَجانُسًا بِأقْلِعِي لِأنَّ هَمْزَةَ الوَصْلِ إنِ اعْتُبِرَتْ تَساوَيا في عَدَدِ الحُرُوفِ وإلّا تَقارَبا فِيهِ بِخِلافِ ابْتَلِعِي، وقِيلَ: (ماءَكِ) بِالإفْرادِ دُونَ الجَمْعِ لِما فِيهِ مِن صُورَةِ الِاسْتِكْثارِ المُتَأبِّي عَنْها مَقامُ إظْهارِ الكِبْرِياءِ وهو الوَجْهُ في إفْرادِ الأرْضِ والسَّماءِ، وإنَّما لَمْ يَقُلِ (ابْلَعِي) بِدُونِ المَفْعُولِ لِئَلّا يَسْتَلْزِمَ تَرْكُهُ ما لَيْسَ بِمُرادٍ مِن تَعْمِيمِ الِابْتِلاعِ لِلْجِبالِ والتِّلالِ والبِحارِ وساكِناتِ الماءِ بِأسْرِهِنَّ نَظَرًا إلى (p-66)مَقامِ عَظَمَةِ الآمِرِ المَهِيبِ وكَمالِ انْقِيادِ المَأْمُورِ؛ ولَمّا عُلِمَ أنَّ المُرادَ بَلْعُ الماءِ وحْدَهُ عُلِمَ أنَّ المَقْصُودَ بِالإقْلاعِ إمْساكُ السَّماءِ عَنْ إرْسالِ الماءِ فَلَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُ (أقْلِعِي) اخْتِصارًا واحْتِرازًا عَنِ الحَشْوِ المُسْتَغْنى عَنْهُ، وهَذا هو السَّبَبُ في تَرْكِ ذِكْرِ حُصُولِ المَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ الأمْرِ فَلَمْ يَقُلْ: (قِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي) فَبَلَعَتْ (ويا سَماءُ اقْلَعِي) فَقَلَعَتْ لِأنَّ مَقامَ الكِبْرِياءِ وكَمالَ الِانْقِيادِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي رُبَّما أوْهَمَ إمْكانَ المُخالَفَةِ واخْتِيرَ غِيضَ عَلى غُيِّضَ المُشَدِّدِ لِكَوْنِهِ أخْصَرَ. وقِيلَ: الماءُ دُونَ ماءِ طُوفانِ السَّماءِ وكَذا الأمْرُ دُونَ أمْرِ نُوحٍ، وهو إنْجازُ ما وُعِدَ لِقَصْدِ الِاخْتِصارِ والِاسْتِغْناءِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ عَنْ ذَلِكَ لِأنَّهُ إمّا بَدَلٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ كَما هو مَذْهَبُ الكُوفِيَّةِ، وإمّا لِأنَّهُ يُغْنِي غِناءَ الإضافَةِ في الإشارَةِ إلى المَعْهُودِ، واخْتِيرَ (اسْتَوَتْ) عَلى سُوِّيَتْ أيْ أقَرَّتْ مَعَ كَوْنِهِ أنْسَبَ بِأخَواتِهِ المَبْنِيَّةِ لِلْمَفْعُولِ؛ اعْتِبارًا لِكَوْنِ الفِعْلِ المُقابِلِ لِلِاسْتِقْرارِ أعْنِي الجَرَيانَ مَنسُوبًا إلى السَّفِينَةِ عَلى صِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ مَعَ أنَّ اسْتَوَتْ أخْصَرُ مِن سُوِّيَتْ، واخْتِيرَ المَصْدَرُ أعْنِي (بُعْدًا) عَلى لِيَبْعُدَ القَوْمُ طَلَبًا لِتَأْكِيدِ مَعْنى الفِعْلِ بِالمَصْدَرِ مَعَ الِاخْتِصارِ في العِبارَةِ وهو نُزُولُ (بُعْدًا) وحْدَهُ مَنزِلَةَ لِيَبْعُدُوا بُعْدًا مَعَ فائِدَةٍ أُخْرى، هي الدَّلالَةُ عَلى اسْتِحْقاقِ الهَلاكِ بِذِكْرِ اللّامِ، وإطْلاقُ الظُّلْمِ عَنْ مُقَيِّداتِهِ في مَقامِ المُبالِغَةِ يُفِيدُ تَناوُلَ كُلِّ نَوْعٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ ظُلْمُهم عَلى أنْفُسِهِمْ لِزِيادَةِ التَّنْبِيهِ عَلى فَظاعَةِ سُوءِ اخْتِيارِهِمْ في التَّكْذِيبِ مِن حَيْثُ إنَّ تَكْذِيبَهم لِلرُّسُلِ ظُلْمٌ عَلى أنْفُسِهِمْ لِأنَّ ضَرَرَهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ، هَذا مِن حَيْثُ النَّظَرُ إلى تَرْكِيبِ الكَلِمِ، وأمّا مِن حَيْثُ النَّظَرُ إلى تَرْتِيبِ الجُمَلِ فَذَلِكَ أنَّهُ قَدَّمَ النِّداءَ عَلى الأمْرِ فَقِيلَ: ﴿يا أرْضُ ابْلَعِي﴾ ﴿ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ دُونَ أنْ يُقالَ: ابْلَعِي يا أرْضُ واقْلَعِي يا سَماءُ جَرْيًا عَلى مُقْتَضى اللّازِمِ فِيمَن كانَ مَأْمُورًا حَقِيقَةً مِن تَقْدِيمِ التَّنْبِيهِ لِيَتَمَكَّنَ الأمْرُ الوارِدُ عَقِيبِهِ في نَفْسِ المُنادى قَصْدًا بِذَلِكَ لِمَعْنى التَّرْشِيحِ لِلِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ في الأرْضِ والسَّماءِ، ثُمَّ قَدَّمَ أمْرَ الأرْضِ عَلى أمْرِ السَّماءِ لِكَوْنِها الأصْلَ نَظَرًا إلى كَوْنِ ابْتِداءِ الطُّوفانِ مِنها؛ حَيْثُ فارَ تَنُّورُها أوَّلًا ثُمَّ جُعِلَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: (وغِيضَ) تابِعًا لِأمْرِ الأرْضِ والسَّماءِ لِاتِّصالِهِ بِقِصَّةِ الماءِ وأخْذِهِ بِحُجْزَتِها، ألا تَرى أصْلَ الكَلامِ (قِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) فَبَلَعَتْ ماءَها (ويا سَماءُ أقْلِعِي) عَنْ إرْسالِ الماءِ فَأقْلَعَتْ عَنْ إرْسالِهِ ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ النّازِلُ مِنَ السَّماءِ فَغاضَ. وقَيَّدَ الماءُ بِالنّازِلِ وإنْ كانَ في الآيَةِ مُطْلَقًا لِأنَّ ابْتِلاعَ الأرْضِ ماءَها فُهِمَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ابْلَعِي ماءَكِ).﴾ واعْتَرَضَ بِأنَّ الماءَ المَخْصُوصَ بِالأرْضِ إنْ أُرِيدَ بِهِ ما عَلى وجْهِها فَهو يَتَناوَلُ القَبِيلَيْنِ الأرْضِيَّ والسَّمائِيَّ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ ما نَبَعَ مِنها فاللَّفْظُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ؛ ولِهَذا حَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الماءَ عَلى مُطْلَقِهِ وأشْعَرَ كَلامُهُ بِأنَّ غِيضَ الماءُ إخْبارٌ عَنِ الحُصُولِ المَأْمُورِ بِهِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يا أرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ فالتَّقْدِيرُ قِيلَ لَهُما ذَلِكَ فامْتَثَلا الأمْرَ ونَقَصَ الماءُ. ورَجَّحَ الطِّيبِيُّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ السَّكاكِيُّ زاعِمًا أنَّ مَعْنى الغَيْضِ حِينَئِذٍ ما قالَهُ الجَوْهَرِيُّ، وهو عِنْدُهُ مُخالِفٌ لِلْمَعْنى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: إنَّ إضافَةَ الماءِ إلى الأرْضِ لَمّا كانَتْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعارَةِ تَشْبِيهًا لِاتِّصالِهِ بِها بِاتِّصالِ المُلْكِ بِالمالِكِ ولِذا جِيءَ بِضَمِيرِ الخِطابِ اقْتَضَتْ إخْراجَ سائِرِ المِياهِ سِوى الَّذِي بِسَبَبِهِ صارَتِ الأرْضُ مُهَيَّأةً لِلْخِطابِ بِمَنزِلَةِ المَأْمُورِ المُطِيعِ وهو المَعْهُودُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفارَ التَّنُّورُ)،﴾ وبِهَذا الِاعْتِبارِ يَحْصُلُ التَّواغُلُ في تَناسِي التَّشْبِيهِ والتَّرْشِيحِ، ولَوْ أُجْرِيَتِ الإضافَةُ عَلى غَيْرِ هَذا تَكُونُ كالتَّجْرِيدِ وكَمْ بَيْنَهُما، هَذا ولَوْ حُمِلَ عَلى العُمُومِ (p-67)لاسْتَلْزَمَ تَعْمِيمُ ابْتِلاعِهِ المِياهَ بِأسْرِها لِوُرُودِ الأمْرِ مِن مَقامِ العَظَمَةِ كَما عَلِمْتُ مِن كَلامِ السَّكّاكِيِّ، ولَيْسَ بِذاكَ، وتَعَقَّبَهُ في الكَشْفِ بِأنَّهُ دَعْوى بِلا دَلِيلٍ ورَدُّ يَمِينٍ إذْ لا مَعْهُودَ، والظّاهِرُ ما عَلى وجْهِ الأرْضِ مِنَ الماءِ ولا يُنافِي التَّرْشِيحَ وإضافَةَ المالِكِيَّةِ، ثُمَّ الظّاهِرُ مِن تَنْزِيلِ الماءِ مَنزِلَةَ الغِذاءِ أنْ تُجْعَلَ الإضافَةُ مِن بابِ إضافَةِ الغِذاءِ إلى المُغْتَذى في النَّفْعِ والتَّقْوِيَةِ وصَيْرُورَتِهِ جُزْءًا مِنهُ، ولا نَظَرَ فِيهِ إلى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وأمّا التَّعْمِيمُ فَمَطْلُوبٌ وحاصِلٌ عَلى التَّفْسِيرَيْنِ لِانْحِصارِ الماءِ في الأرْضِيِّ والسَّمائِيِّ، وقَدْ قُلْتُمْ بِنُضُوبِهِما مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ فَبَلَعَتْ وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وغِيضَ)،﴾ ولا شَكَّ أنَّ ما عِنْدَنا مِنَ الماءِ غَيْرُ ماءِ الطُّوفانِ هَذا والمُطابِقُ تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿فالتَقى الماءُ﴾ أيِ الأرْضِيُّ والسَّمائِيُّ وهَهُنا تَقَدَّمَ الماءانِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعِي﴾ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ عَنْ إرْسالِ الماءِ عَلى زَعْمِهِمْ فَإذا قِيلَ: وغِيضَ الماءُ رَجَعَ إلَيْهِما لا مَحالَةَ لِتَقَدُّمِهِما، ثُمَّ إذا جُعِلَ مِن تَوابِعِ أقْلِعِي خاصَّةً لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ عَلى أصْلِ القِصَّةِ أعْنِي ﴿وقِيلَ يا أرْضُ ابْلَعِي)،﴾ كَيْفَ وفي إيثارِ هَذا التَّفْسِيرِ الإشارَةُ إلى أنَّهُ زالَ كَوْنُهُ طُوفانًا لِأنَّ نُقْصانَ الماءِ غَيْرُ الإذْهابِ بِالكُلِّيَّةِ، وإلى أنَّ الأجْزاءَ الباطِنَةَ مِنَ الأرْضِ لَمْ تَبْقَ عَلى ما كانَتْ عَلَيْهِ مِن قُوَّةِ الإنْباعِ ورَجَعَتْ إلى الِاعْتِدالِ المَطْلُوبِ، ولَيْسَ في الِاخْتِصاصِ بِالنُّضُوبِ هَذا المَعْنى البَتَّةَ انْتَهى. وزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ أئِمَّةَ البَيْتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم عَلى أنَّ الماءَ المُضافَ هو ما نَبَعَ وفارَ، وأنَّهُ هو الَّذِي ابْتُلِعَ وغاضَ لا غَيْرَ، وأنَّ ماءَ السَّماءِ صارَ بِحارًا وأنْهارًا. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ما يُؤَيِّدُهُ، وهَذا مُخالِفٌ لِما يَقْتَضِيهِ كَلامُ السَّكّاكِيِّ مُخالَفَةً ظاهِرَةً، وفي القَلْبِ مِن صِحَّتِهِ ما فِيهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أتْبَعَ غِيضَ الماءُ ما هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ مِنَ القِصَّةِ وهو قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ ثُمَّ أتْبَعَ ذِكْرَ المَقْصُودِ حَدِيثَ السَّفِينَةِ لِتَأخُّرِهِ عَنْهُ في الوُجُودِ، ثُمَّ خُتِمَتِ القِصَّةُ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي عَلِمْتَهُ، هَذا كُلُّهُ نَظَرٌ في الآيَةِ مِن جانِبَيِ البَلاغَةِ وأمّا النَّظَرُ فِيها مِن جانِبِ الفَصاحَةِ المَعْنَوِيَّةِ فَهي كَما تَرى نَظْمٌ لِلْمَعانِي لَطِيفٌ، وتَأْدِيَةٌ لَها مُلَخَّصَةً مُبَيَّنَةً لا تَعْقِيدَ يُعَثِّرُ الكُفْرَ في طَلَبِ المُرادِ ولا التِواءَ الطَّرِيقِ إلى المُرْتادِ بَلْ إذا جَرَّبْتَ نَفْسَكَ عِنْدَ اسْتِماعِها وجَدْتَ ألْفاظَها تُسابِقُ مَعانِيها ومَعانِيها تُسابِقُ ألْفاظَها فَما مِن لَفْظَةٍ فِيها تَسْبِقُ إلى أُذُنِكَ إلّا ومَعْناها أسْبَقُ إلى قَلْبِكَ، وأمّا النَّظَرُ فِيها مِن جانِبِ الفَصاحَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَألْفاظُها عَلى ما تَرى عَرَبِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ جارِيَةٌ عَلى قَوانِينَ سَلِيمَةٍ عَنِ التَّنافُرِ بَعِيدَةٌ عَنِ البَشاعَةِ عَذْبَةٌ عَلى العَذْباتِ سَلِسَةٌ عَلى الأسَلاتِ، كُلٌّ مِنها كالماءِ في السُّلالَةِ وكالعَسَلِ في الحَلاوَةِ وكالنَّسِيمِ في الرِّقَّةِ ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ التَّنْزِيلِ ماذا جَمَعَتْ آياتُهُ: وعَلى تَفَنُّنِ واصِفِيهِ بِحُسْنِهِ يَفْنى الزَّمانُ وفِيهِ ما لَمْ يُوصَفْ، وما ذُكِرَ في شَرْحِ مَزايا هَذِهِ الآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما فِيها قَطْرَةٌ مِن حِياضٍ وزَهْرَةٌ مِن رِياضٍ، وقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أبِي الأُصْبُعِ أنَّ فِيها عِشْرِينَ ضَرْبًا مِنَ البَدِيعِ مَعَ أنَّها سَبْعَ عَشْرَةَ لَفْظَةً وذَلِكَ المُناسِبَةُ التّامَّةُ في (ابْلَعِي) و(أقْلِعِي) والِاسْتِعارَةُ فِيهِما والطِّباقُ بَيْنَ الأرْضِ والسَّماءِ والمَجازُ في (يا سَماءُ)، فَإنَّ الحَقِيقَةَ يا مَطَرَ السَّماءِ، والإشارَةُ في ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ فَإنَّهُ عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعانٍ كَثِيرَةٍ لِأنَّ الماءَ لا يَغِيضُ حَتّى يُقْلِعَ مَطَرُ السَّماءِ وتَبْلَعَ الأرْضُ ما يَخْرُجُ مِنها فَيَنْقُصُ ما عَلى وجْهِ الأرْضِ، والإرْدافُ في ﴿واسْتَوَتْ﴾ والتَّمْثِيلُ في ( وقُضِي الأمْرُ ) والتَّعْلِيلُ فَإنَّ غِيضَ الماءُ عِلَّةٌ لِلِاسْتِواءِ، وصِحَّةُ التَّقْسِيمِ فَإنَّهُ اسْتَوْعَبَ أقْسامَ الماءِ حالَ نَقْصِهِ والِاحْتِراسُ في الدُّعاءِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الغَرَقَ (p-68)لِعُمُومِهِ شَمِلَ مَن لا يَسْتَحِقُّ الهَلاكَ فَإنَّ عَدْلَهُ تَعالى يَمْنَعُ أنْ يَدْعُوَ عَلى غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ، وحُسْنُ النَّسَقِ وائْتِلافُ اللَّفْظِ مَعَ المَعْنى والإيجازُ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قَصَّ القِصَّةَ مُسْتَوْعِبَةً بِأخْصَرَ عِبارَةٍ، والتَّسْهِيمُ لِأنَّ أوَّلَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى آخِرِها والتَّهْذِيبُ لِأنَّ مُفْرَداتِها مَوْصُوفَةٌ بِصِفاتِ الحُسْنِ، وحُسْنُ البَيانِ مِن جِهَةِ أنَّ السّامِعَ لا يَتَوَقَّفُ في فَهْمِ مَعْنى الكَلامِ ولا يُشْكِلُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنهُ، والتَّمْكِينُ لِأنَّ الفاصِلَةَ مُسْتَقِرَّةٌ في مَحَلِّها مُطْمَئِنَّةٌ في مَكانِها، والِانْسِجامُ، وزادَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ أنْ نَقَلَ هَذا عَنِ ابْنِ أبِي الأُصْبُعِ الِاعْتِراضَ، وزادَ آخَرُونَ أشْياءَ كَثِيرَةً إلّا أنَّها كَكَلامِ ابْنِ أبِي الأُصْبُعِ قَدْ أُشِيرَ إلَيْها بِأُصْبُعِ الِاعْتِراضِ، وقَدْ ألَّفَ شَيْخُنا عَلاءُ الدِّينِ أعْلى اللَّهُ تَعالى دَرَجَتَهُ في أعْلى عِلِّيِّينَ رِسالَةً في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ جَمَعَ فِيها ما ظَهَرَ لَهُ ووَقَفَ عَلَيْهِ مِن مَزاياها فَبَلَغَ ذَلِكَ مِائَةً وخَمْسِينَ مَزِيَّةً، وقَدْ تَطَلَّبْتُ هَذِهِ الرِّسالَةَ لِأذْكُرَ شَيْئًا مِن لَطائِفِها فَلَمْ أظْفَرْ بِها وكَأنَّ طُوفانَ الحَوادِثِ أغْرَقَها، لَعَلَّ فِيما نَقَلْناهُ سِدادًا مِن عَوَزٍ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ وعِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب