الباحث القرآني

﴿قالَ سَآوِي﴾ أيْ سَأنْضَمُّ ﴿إلى جَبَلٍ﴾ مِنَ الجِبالِ، وقِيلَ: عَنى طَوْرَ زِيتا ﴿يَعْصِمُنِي﴾ أيْ يَحْفَظُنِي بِارْتِفاعِهِ مِنَ الماءِ فَلا يَصِلُ إلَيَّ. قالَ ذَلِكَ زَعْمًا مِنهُ أنَّ ذَلِكَ كَسائِرِ المِياهِ في أزْمِنَةِ السُّيُولِ المُعْتادَةِ الَّتِي رُبَّما يُتَّقى مِنها بِالصُّعُودِ إلى مُرْتَفَعٍ وجَهْلًا مِنهُ بِأنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِإهْلاكِ الكَفَرَةِ فَلا بُدَّ أنْ يُدْرِكَهم ولَوْ كانُوا في قُلَلِ الجِبالِ (p-60)(قالَ) مُبَيِّنًا لَهُ حَقِيقَةَ الحالِ وصارِفًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الفِكْرِ المُحالِ ﴿لا عاصِمَ اليَوْمَ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ نَفْيٌ لِجِنْسِ العاصِمِ المُنْتَظِمِ لِنَفْيِ جَمِيعِ أفْرادِهِ ذاتًا وصِفَةً لِلْمُبالَغَةِ في نَفْيِ كَوْنِ الجَبَلِ عاصِمًا وزادَ اليَوْمَ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كَسائِرِ الأيّامِ الَّتِي تَقَعُ فِيها الوَقائِعُ وتُلِمُّ فِيها المُلِمّاتُ المُعْتادَةُ الَّتِي رُبَّما يَتَخَلَّصُ مِنها بِالِالتِجاءِ إلى بَعْضِ الأسْبابِ العادِيَّةِ، وعَبَّرَ عَنِ الماءِ في مَحَلِّ إضْمارِهِ بِأمْرِ اللَّهِ أيْ عَذابِهِ الَّذِي أُشِيرَ إلَيْهِ أوَّلًا بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَ أمْرُنا﴾ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ وتَهْوِيلًا لِأمْرِهِ وتَنْبِيهًا لِابْنِهِ عَلى خَطَئِهِ في تَسْمِيَتِهِ ماءً وتَوَهُّمِهِ أنَّهُ كَسائِرِ المِياهِ الَّتِي يَتَخَلَّصُ مِنها بِالهَرَبِ إلى بَعْضِ المَهارِبِ المَعْهُودَةِ وتَعْلِيلًا لِلنَّفْيِ المَذْكُورِ، فَإنَّ أمْرَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لا يُغالَبُ وعَذابَهُ لا يَرُدُّ؛ وتَمْهِيدًا لِحَصْرِ العِصْمَةِ في جَنابِ اللَّهِ تَعالى عَزَّ جارُهُ بِالِاسْتِثْناءِ كَأنَّهُ قِيلَ: لا عاصِمَ مِن أمْرِ اللَّهِ تَعالى إلّا هو تَعالى، وإنَّما قِيلَ: ( إلّا مِن رَحِم ) تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ الجَلِيلِ جَلَّ شَأْنُهُ وإشْعارًا بِعِلْيَةِ رَحْمَتِهِ بِمُوجِبِ سَبْقِها غَضَبَهُ كُلُّ ذَلِكَ لِكَمالِ عِنايَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَحْقِيقِ ما يَتَوَخّاهُ مِن نَجاةِ ابْنِهِ بِبَيانِ شَأْنِ الدّاهِيَةِ وقَطْعِ أطْماعِهِ الفارِغَةِ وصَرْفِ عِنانِهِ عَنِ التَّعَلُّلِ بِما لا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا وإرْشادِهِ إلى العِياذِ بِالمُعاذِ الحَقِّ عَزَّ حِماهُ ولِذا عَدَلَ عَمّا يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ مِنَ الجَوابِ بِقَوْلِهِ: لا يَعْصِمُكَ الجَبَلُ مِنهُ، كَذا ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ وهو أحَدُ أوْجُهٍ في الآيَةِ وأقْواها. والوَجْهُ الثّانِي أنَّ عاصِمًا صِيغَةُ نِسْبَةٍ والمُرادُ بِالمَوْصُولِ المَرْحُومُ أيْ لا ذا عِصْمَةٍ أيْ مَعْصُومٍ إلّا مَن رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ قُرِئَ ( إلّا مَن رُحِمَ ) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، واعْتَرَضَهُ في الكَشْفِ بِأنَّ فاعِلًا بِمَعْنى النِّسْبَةِ قَلِيلٌ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ أرادَ قِلَّتَهُ في نَفْسِهِ فَمَمْنُوعٌ وإنَّ بِالنِّسْبَةِ إلى الوَصْفِ فَلا يَضُرُّ. والثّالِثُ أنَّ عاصِمًا عَلى ظاهِرِهِ و(مَن رَحِمَ) بِمَعْنى المَرْحُومِ والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ لا مُتَّصِلٌ كَما في الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ أيْ لا عاصِمَ مِن أمْرِ اللَّهِ لَكِنْ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى فَهو مَعْصُومٌ، وأوْرَدَ عَلَيْهِ بِأنَّ مِثْلَ هَذا المُنْقَطِعِ قَلِيلٌ لِأنَّهُ في الحَقِيقَةِ جُمْلَةٌ مُنْقَطِعَةٌ تُخالِفُ الأُولى لا في النَّفْيِ والإثْباتِ فَقَطْ بَلْ في الِاسْمِيَّةِ والفِعْلِيَّةِ أيْضًا، والأكْثَرُ فِيهِ مِثْلُ ما جاءَنِي القَوْمُ إلّا حِمارًا، والرّابِعُ أنَّ –عاصِمًا- بِمَعْنى مَعْصُومٍ كَدافِقٍ بِمَعْنى مَدْفُوقٍ وفاتِنٍ بِمَعْنى مَفْتُونٍ في قَوْلِهِ: ؎بَطِيءُ القِيامِ رَخِيمُ الكَلا مِ أمْسى فُؤادِي بِهِ (فاتِنًا) (ومَن رَحِمَ) بِمَعْنى الرّاحِمِ، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ أيْضًا أيْ لا مَعْصُومَ إلّا الرّاحِمُ عَلى مَعْنى لَكِنَّ الرّاحِمَ يَعْصِمُ مَن أرادَ، والخامِسُ أنَّ الكَلامَ عَلى إضْمارِ المَكانِ والِاسْتِثْناَءُ مُتَّصِلٌ أيْ لا عاصِمَ إلّا مَكانَ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ هو السَّفِينَةُ قِيلَ: وهو وجْهٌ حَسَنٌ فِيهِ مُقابَلَةٌ لِقَوْلِهِ: يَعْصِمُنِي وهو المُرَجَّحُ بَعْدَ الأوَّلِ، والعاصِمُ عَلى هَذا حَقِيقَةٌ لَكِنَّ إسْنادَهُ إلى المَكانِ مَجازِيٌّ وقِيلَ: إنَّهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَنْ مَكانِ الِاعْتِصامِ، والمَعْنى لا مَكانَ اعْتِصامٍ إلّا مَكانُ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ، وادَّعى أنَّهُ أرْجَحُ مِنَ الكُلِّ لِأنَّهُ ورَدَ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿سَآوِي إلى جَبَلٍ﴾ إلَخْ ولَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، والسّادِسُ ما أبْداهُ صاحِبُ الكَشْفِ عِنْدَهُ وهو أنَّ المَعْنى لا مَعْصُومَ إلّا مَكانُ مَن رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ويُرادُ بِهِ عِصْمَةُ مَن فِيهِ عَلى الكِنايَةِ، فَإنَّ السَّفِينَةَ إذا عُصِمَتْ عُصِمَ مَن فِيها، والسّابِعُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ مُفَرَّغٌ، والمَعْنى لا عاصِمَ اليَوْمَ أحَدًا أوْ لِأحَدٍ إلّا مَن رَحِمَهُ اللَّهُ أوْ لِمَن رَحِمَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ، وعَدَّهُ بَعْضُهم أقْرَبَها ولا أظُنُّكَ تَعْدِلُ بِالوَجْهِ الأوَّلِ وجْهًا وهو الَّذِي اخْتارَهُ، والظّاهِرُ عَلى ما قالَ أبُو حَيّانَ: أنَّ خَبَرَ لا مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ أيْ لا عاصِمَ مَوْجُودٌ والأكْثَرُ الحَذْفُ في مِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ الحِجازِيِّينَ، والتَزَمَ الحَذْفَ فِيهِ بَنُو تَمِيمٍ (p-61)ويَكُونُ اليَوْمَ مَنصُوبًا عَلى إضْمارِهِ فِعْلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ (عاصِمَ) أيْ لا عاصِمَ يَعْصِمُ اليَوْمَ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الفِعْلِ ومَنَعَ جَوازَ أنْ يَكُونَ (اليَوْمَ) مَنصُوبًا بِاسْمِ –لا- وأنْ يَكُونَ الجارُّ مُتَعَلِّقًا بِهِ لِأنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ مُعْرَبًا مُنَوَّنًا لِلطَّوْلِ. وجَوَّزَ الحَوْفِيُّ أنْ يَكُونَ (اليَوْمَ) مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ خَبَرًا لِلا، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ المَحْذُوفِ أيْضًا، وأنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ هو الخَبَرُ و(اليَوْمَ) في مَوْضِعِ النَّعْتِ لِعاصِمٍ، ورَدَّ أبُو البَقاءِ خَبَرِيَّةَ (اليَوْمَ) بِأنَّهُ ظَرْفُ زَمانٍ وهو لا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الجُثَّةِ، والتَزَمَ كَوْنَهُ مَعْمُولَ ( مِن أمْرِ اللَّهِ ) وكَوْنَ الخَبَرِ هو الجارُّ والمَجْرُورُ؛ ورَدَّ أبُو حَيّانَ جَوازَ النَّعْتِيَّةِ بِأنَّ ظَرْفَ الزَّمانِ لا يَكُونُ نَعْتًا لِلْجُثَثِ كَما لا يَكُونُ خَبَرًا عَنْها ﴿وحالَ بَيْنَهُما المَوْجُ﴾ أيْ بَيْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وابْنِهِ، فانْقَطَعَ ما بَيْنَهُما مِنَ المُجاوَبَةِ، قِيلَ: كانا يَتَراجَعانِ الكَلامَ فَما اسْتَتَمَّتِ المُراجَعَةُ حَتّى جاءَتْ مَوْجَةٌ عَظِيمَةٌ وكانَ راكِبًا عَلى فَرَسٍ قَدْ بَطِرَ وأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ فالتَقَمَتْهُ وفَرَسَهُ، ولَيْسَ في الآيَةِ هُنا إلّا إثْباتُ الحَيْلُولَةِ، وأمّا عِلْمُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِغَرَقِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ إلّا بَعْدُ؛ وقالَ الفَرّاءُ: (بَيْنَهُما) أيْ بَيْنَ ابْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ والجَبَلِ، وأخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ عَنِ القاسِمِ بْنِ أبِي بَزَّةَ، وتَعَقَّبَهُ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَكانَ مِنَ المُغْرَقِينَ﴾ إنَّما يَتَفَرَّعُ عَلى حَيْلُولَةِ المَوْجِ بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وبَيْنَ ابْنِهِ لا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجَبَلِ، لِأنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ كَوْنِهِ عاصِمًا وإنْ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُلْتَجَأِ إلَيْهِ مَوْجٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ التَّفْرِيعَ لا يُنافِي ذَلِكَ لِأنَّ المُرادَ فَكانَ مِن غَيْرِ مُهْلَةٍ أوْ هو بِناءً عَلى ظَنِّهِ أنَّ الماءَ لا يَصِلُ إلَيْهِ، وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى غَرَقٍ ساءَ الكَفَرَةَ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ فَكَأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُقَرَّرُ الوُقُوعِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلى البَيانِ، وفي إيرادِ كانَ دُونَ صارَ مُبالَغَةٌ في كَوْنِهِ مِنهُمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب