الباحث القرآني

﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ بِأنْ نَسَبَ إلَيْهِ ما لا يَلِيقُ بِهِ كَقَوْلِهِمُ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وقَوْلُهم لِآلِهَتِهِمْ: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ والمُرادُ مِنَ الآيَةِ ذَمُّ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ بِأنَّهم مَعَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ تَعالى مُفْتَرُونَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ القُرْآنَ لَيْسَ بِمُفْتَرًى، فَإنَّ مَن يَعْلَمُ حالَ مَن يَفْتَرِي عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ كَيْفَ يَرْتَكِبُهُ، وأنْ تَكُونَ مِنَ الكَلامِ المُنْصِفِ أيْ لا أحَدَ أظْلَمُ مِنِّي أنْ أقُولَ لِما لَيْسَ بِكَلامِ اللَّهِ تَعالى إنَّهُ كَلامُهُ كَما زَعَمْتُمْ، أوْ مِنكم إنْ كُنْتُمْ نَفَيْتُمْ أنْ يَكُونَ كَلامُهُ سُبْحانَهُ مَعَ تَحَقُّقِ أنَّهُ كَلامُهُ جَلَّ وعَلا، وفِيهِ مِنَ الوَعِيدِ والتَّهْوِيلِ ما لا يَخْفى، ويَجُوزُ عِنْدِي إذا كانَ ما قَبْلُ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ أنْ يَكُونَ هَذا في بَيانِ حالِ كَفَرَتِهِمُ الَّذِينَ أسْنَدُوا إلَيْهِ سُبْحانَهُ ما لَمْ يُنَزِّلْهُ مِنَ المُحَرَّفِ الَّذِي صَنَعُوهُ ونَفَوْا عَنْهُ سُبْحانَهُ ما أنْزَلَهُ مِنَ القُرْآنِ أوْ مِن نَعْتِ النَّبِيِّ ﷺ، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ نَفْيُ أنْ يَكُونَ أظْلَمَ مِن ذَلِكَ أوْ مُساوِيًا في الظُّلْمِ عَلى ما تَقَدَّمَ ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ المَوْصُوفُونَ بِالظُّلْمِ البالِغِ وهو الِافْتِراءُ ﴿يُعْرَضُونَ﴾ مِن حَيْثُ إنَّهم مَوْصُوفُونَ بِذَلِكَ ﴿عَلى رَبِّهِمْ﴾ أيْ مالِكِهِمُ الحَقِّ والمُتَصَرِّفِ فِيهِمْ حَسْبَما يُرِيدُ، وفِيهِ عَلى ما قِيلَ: إيماءٌ إلى بُطْلانِ رَأْيِهِمْ في اتِّخاذِهِمْ أرْبابًا مِن دُونِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الكَلامَ عَلى تَقْدِيرِ المُضافِ أيْ تُعْرَضُ أعْمالُهُمْ، أوْ عَلى ارْتِكابِ المَجازِ ولا يَحْتاجُ إلى ذَلِكَ عَلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ لِأنَّ عَرْضَهم مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ وبِذَلِكَ العُنْوانِ عَرْضٌ لِأعْمالِهِمْ عَلى وجْهٍ أبْلَغَ فَإنَّ عَرْضَ العامِلِ بِعَمَلِهِ أفْظَعُ مِن عَرْضِ عَمَلِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لا حَذْفَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( عَلى رَبِّهِمْ ) ويُفَوِّضُ مَن يَقِفُ عَلى اللَّهِ. وقِيلَ: هُناكَ مُضافٌ مَحْذُوفٌ أيْ عَلى مَلائِكَةِ رَبِّهِمْ وأنْبِياءِ رَبِّهِمْ، وهُمُ المُرادُ بِالأشْهادِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُ الأشْهادُ﴾ وتَفْسِيرُهم بِالمَلائِكَةِ مُطْلَقًا هو المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ تَفْسِيرُهم بِالحَفَظَةِ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمُ المَلائِكَةُ، والأنْبِياءُ والمُؤْمِنُونَ، وقِيلَ: جَوارِحُهُمْ، وعَنْ مُقاتِلٍ، وقَتادَةُ هم جَمِيعُ أهْلِ المَوْقِفِ، وهو جَمْعٌ شاهِدٌ بِمَعْنى حاضِرٍ –كَصاحِبٍ وأصْحابٍ- بِناءً عَلى جَوازِ جَمْعِ فاعِلٍ عَلى أفْعالٍ، أوْ جَمْعِ شَهِيدٍ بِمَعْناهُ كَشَرِيفٍ وأشْرافٍ أيْ ويَقُولُ الحاضِرُونَ عِنْدَ العَرْضِ أوْ في مَوْقِفِ القِيامَةِ ﴿هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ شَهادَةً عَلى تَعْيِينِ مَن صَدَرَ مِنهُ الكَذِبُ كَأنَّ وُقُوعَهُ (p-31)أمْرٌ واضِحٌ غَنِيٌّ عَنِ الشَّهادَةِ، وإنَّما المُحْتاجُ إلَيْها ذَلِكَ ولِذا لَمْ يَقُولُوا: هَؤُلاءِ كَذَّبُوا بِدُونِ المَوْصُولِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ذَمًّا لَهم بِتِلْكَ الفِعْلَةِ الشَّنِيعَةِ لا شَهادَةَ عَلَيْهِمْ كَما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ( ويَقُولُ ) دُونَ ويَشْهَدُ، وتَوْطِئَةٌ لِما يَعْقُبُهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ . أيْ بِالِافْتِراءِ المَذْكُورِ، والظّاهِرُ أنَّ هَذا مِن كَلامِ الأشْهادِ عَلى الِاحْتِمالَيْنِ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ. وخَلْقٌ كَثِيرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى يُدْنِي المُؤْمِنَ حَتّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ ويَسْتُرَهُ مِنَ النّاسِ ويُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ ويَقُولَ لَهُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذا؟ فَيَقُولَ: رَبِّ أعْرِفُ حَتّى إذا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ورَأى في نَفْسِهِ أنَّهُ قَدْ هَلَكَ قالَ: فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدُّنْيا وأنا أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ ثُمَّ يُعْطى كِتابَ حَسَناتِهِ، وأمّا الكُفّارُ والمُنافِقُونَ فَيَقُولُ: الأشْهادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ». وجَوَّزَ عَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، وحِينَئِذٍ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالظّالِمِينَ ما يَعُمُّ الظّالِمِينَ بِالِافْتِراءِ، والظّالِمِينَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، ويَدْخُلُ فِيهِ الأوَّلُونَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مَهْرانَ قالَ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي ويَلْعَنُ نَفْسَهُ في قِراءَتِهِ فَيَقُولُ: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ وهو ظالِمٌ. ورُبَّما يَجُوزُ ذَلِكَ عَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي أيْضًا، وأيًّا ما كانَ -فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ- مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، واحْتِمالُ أنْ يَكُونَ (هَؤُلاءِ) مُبْتَدَأً، و( الَّذِينَ) تابِعٌ لَهُ، وجُمْلَةُ ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الظّالِمِينَ﴾ خَبَرُهُ، وقَدْ أُقِيمَ الظّاهِرُ مَقامَ المُضْمَرِ أيْ عَلَيْهِمْ لِذَمِّهِمْ بِمَبْدَأِ الِاشْتِقاقِ مَعَ الإشارَةِ إلى عِلَّةِ الحُكْمِ كَما تَرى، وجُمْلَةُ يَقُولُ الأشْهادُ قِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ عَلى أنَّها جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّ سائِلًا سَألَ إذْ سَمِعَ أنَّهم يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ماذا يَكُونُ إذْ ذاكَ؟ فَأُجِيبَ بِما ذُكِرَ، وقِيلَ -وهُوَ الظّاهِرُ- إنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ( يُعْرَضُونَ ) عَلى مَعْنى أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ ويَقُولُ الأشْهادُ في حَقِّهِمْ، أوْ ويَقُولُ أشْهادُهم والحاضِرُونَ عِنْدَ عَرْضِهِمْ (هَؤُلاءِ) إلَخْ، وكَأنَّ هَذا البَيانَ أنَّها مُرْتَبِطَةٌ في التَّقْدِيرِ بِالمُبْتَدَأِ كارْتِباطِ الجُمْلَةِ المَعْطُوفَةِ هي عَلَيْها بِهِ، وقِيلَ: كَفى اسْمُ الإشارَةِ القائِمِ مَقامَ الضَّمِيرِ لِلتَّحْقِيرِ رابِطًا فَتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب