الباحث القرآني

﴿مَن كانَ يُرِيدُ﴾ أيْ بِأعْمالِهِ الصّالِحَةِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ ﴿الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها﴾ أيْ ما يُزَيِّنُها ويُحَسِّنُها مِنَ الصِّحَّةِ والأمْنِ وكَثْرَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ والرِّياسَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وإدْخالِ (كانَ) لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ أيْ مَن يُرِيدُ ذَلِكَ بِحَيْثُ لا يَكادُ يُرِيدُ الآخِرَةَ أصْلًا ﴿نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ أيْ نُوَصِّلُ إلَيْهِمْ أُجُورَ أعْمالِهِمْ في الدُّنْيا وافِيَةً، فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وقِيلَ: الأعْمالُ عِبارَةٌ عَنِ الأُجُورِ مَجازًا، وإلَيْهِ يُشِيرُ كَلامُ شَيْخِ الإسْلامِ، والأوَّلُ أوْلى، و(نُوَفِّ) مُتَضَمِّنٌ مَعْنى نُوَصِّلُ ولِذا عَدّى بِإلى، وإلّا فَهو مِمّا يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ مَجازٌ عَنْ ذَلِكَ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مَيْمُونٍ –يُوَفِّ- بِالياءِ، وإسْنادُ الفِعْلِ إلى اللَّهِ تَعالى، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما –يُوفِ- بِالياءِ مُخَفَّفًا مُضارِعُ أوْفِي، وقُرِئَ –تُوفَ- بِالتّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ورَفْعِ (أعْمالُهُمْ) والفِعْلُ في كُلِّ ذَلِكَ مَجْزُومٌ عَلى أنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ كَما انْجَزَمَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾، وحَكى الفَرّاءُ أنَّ (كانَ) زائِدَةٌ ولِذا جَزَمَ الجَوابَ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لَوْ كانَتْ زائِدَةً لَكانَ فِعْلُ الشَّرْطِ (يُرِيدُ) وكانَ يَكُونُ مَجْزُومًا، وأُجِيبُ بِأنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ أرادَ بِكَوْنِها زائِدَةً أنَّها غَيْرُ لازِمَةٍ في المَعْنى، وقَرَأ الحَسَنُ –نُوفِي- بِالتَّخْفِيفِ وإثْباتِ الياءِ، وذَلِكَ إمّا عَلى لُغَةِ مَن يَجْزِمُ المَنقُوصَ بِحَذْفِ الحَرَكَةِ المُقَدَّرَةِ كَما في قَوْلِهِ: ؎ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمى. أوْ عَلى ما سُمِعَ في كَلامِ العَرَبِ إذا كانَ الشَّرْطُ ماضِيًا مِن عَدَمِ جَزْمِ الجَزاءِ، وإمّا لِأنَّ الأداةَ لَمّا لَمْ تَعْمَلْ في الشَّرْطِ القَرِيبِ ضَعُفَتْ عَنِ العَمَلِ في لَفْظِ الجَزاءِ البَعِيدِ فَعَمِلَتْ في مَحَلِّهِ (p-24)ونُقِلَ عَنْ عَبْدِ القاهِرِ أنَّها لا تَعْمَلُ فِيهِ أصْلًا لِضَعْفِها، والمَشْهُورُ فِيهِ عَنِ النُّحاةِ مَذْهَبانِ: كَوْنُ الجَزاءِ في نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وكَوْنُهُ عَلى تَقْدِيرِ الفاءِ والمُبْتَدَأُ، ويُمْكِنُ أنْ يُرَدَّ ذَلِكَ إلى هَذا، ولَيْسَ هَذا مَخْصُوصًا فِيما إذا كانَ الشَّرْطُ كانَ عَلى الصَّحِيحِ لِمَجِيئِهِ في غَيْرِهِ كَثِيرًا، ومِنهُ: ؎وإنْ أتاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ ∗∗∗ يَقُولُ: لا غائِبَ مالِيَ ولا حَرُمَ ﴿وهم فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ أيْ لا يَنْقُصُونَ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ المَجْرُورَ -لِلْحَياةِ الدُّنْيا- وقِيلَ: الأظْهَرُ أنْ يَكُونَ لِلْأعْمالِ لِئَلّا يَكُونَ تَكْرارًا بِلا فائِدَةٍ، ورَدَّ بِأنَّ فائِدَتَهُ إفادَتُهُ مِن أوَّلِ الأمْرِ أنَّ عَدَمَ البَخْسِ لَيْسَ إلّا في الدُّنْيا فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ تُوُهِّمَ أنَّهُ مُطْلَقٌ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّأْكِيدِ ولا ضَرَرَ فِيهِ، وإنَّما عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالبَخْسِ الَّذِي هو نَقْصُ الحَقِّ، ولِذَلِكَ قالَ الرّاغِبُ: هو نَقْصُ الشَّيْءِ عَلى سَبِيلِ الظُّلْمِ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ لَهم شائِبَةُ حَقٍّ فِيما أُوتُوهُ كَما عَبَّرَ عَنْ إعْطائِهِ بِالتَّوْفِيَةِ الَّتِي هي إعْطاءُ الحُقُوقِ مَعَ أنَّ أعْمالَهم بِمَعْزِلٍ مِن كَوْنِها مُسْتَوْجِبَةً لِذَلِكَ -كَما قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ- بِناءً لِلْأمْرِ عَلى ظاهِرِ الحالِ ومُحافِظَةً عَلى صُوَرِ الأعْمالِ، ومُبالَغَةً في نَفْيِ النَّقْصِ كَأنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ لِحُقُوقِهِمْ فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ الوُقُوعِ والصُّدُورِ عَنِ الكَرِيمِ أصْلًا لَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ هَذا لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ بَلِ الأمْرُ دائِرٌ عَلى المَشِيئَةِ الجارِيَةِ عَلى قَضِيَّةِ الحِكْمَةِ كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ . وأخْرَجَ النَّحّاسُ في ناسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَتِ الآيَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيها، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا نَسْخَ في الأخْبارِ، ولَعَلَّ هَذا إنْ صَحَّ مَحْمُولٌ عَلى المُسامَحَةِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب