الباحث القرآني

﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ فَإنَّهم في تِجارَةٍ لَنْ تَبُورَ حَيْثُ باعُوا الفانِي الخَسِيسَ واشْتَرَوُا الباقِيَ النَّفِيسَ. واسْتَبْدَلُوا الباقِياتِ الصّالِحاتِ بِالغادِياتِ الرّائِحاتِ فَيا لَها مِن صَفْقَةٍ ما أرْبَحَها، ومَنفَعَةٍ جامِعَةٍ لِلْخَيْرِ ما أوْضَحَها. والمُرادُ بِالمَوْصُولِ كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِعُنْوانِ الصِّلَةِ لا عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وسَلْمانُ الفارِسِيُّ رِضى اللَّهِ تَعالى عَنْهُ فَقَطْ كَما يُتَوَهَّمُ مِنَ اقْتِصارِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في الذِّكْرِ عَلَيْهِما، بَلْ هُما داخِلانِ في ذَلِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، ومِثْلُ ذَلِكَ اقْتِصارُهُ في الإنْسانِ الخاسِرِ عَلى أبِي جَهْلٍ وهو ظاهِرٌ. وهَذا بَيانٌ لِتَكْمِيلِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَواصَوْا بِالحَقِّ﴾ إلَخْ بَيانٌ لِتَكْمِيلِهِمْ (p-229)لِغَيْرِهِمْ، أيْ وصّى بَعْضُهم بَعْضًا بِالأمْرِ الثّابِتِ الَّذِي لا سَبِيلَ إلى إنْكارِهِ ولا زَوالَ في الدّارَيْنِ لِمَحاسِنِ آثارِهِ، وهو الخَيْرُ كُلُّهُ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ واتِّباعِ كُتُبِهِ ورُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في كُلِّ عَقْدٍ وعَمَلٍ. ﴿وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ عَنِ المَعاصِي الَّتِي تَشْتاقُ إلَيْها النَّفْسُ بِحُكْمِ الجِبِلَّةِ البَشَرِيَّةِ وعَلى الطّاعاتِ الَّتِي يَشُقُّ عَلَيْها أداؤُها وعَلى ما يَبْتَلِي اللَّهُ تَعالى بِهِ عِبادَهُ مِنَ المَصائِبِ والصَّبْرُ المَذْكُورُ داخِلٌ في الحَقِّ، وذُكِرَ بَعْدَهُ مَعَ إعادَةِ الجارِّ والفِعْلِ المُتَعَلِّقِ هو بِهِ لِإبْرازِ كَمالِ العِنايَةِ بِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ عِبارَةَ رُتْبَةِ العِبادَةِ الَّتِي هي فِعْلُ ما يُرْضِي اللَّهَ تَعالى، والثّانِي عِبارَةُ رُتْبَةِ العُبُودِيَّةِ الَّتِي هي الرِّضا بِما فَعَلَ اللَّهُ تَعالى؛ فَإنَّ المُرادَ بِالصَّبْرِ لَيْسَ مُجَرَّدَ حَبْسِ النَّفْسِ عَمّا تَتُوقُ إلَيْهِ مِن فِعْلٍ أوْ تَرْكٍ بَلْ هو تَلَقِّي ما ورَدَ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ بِالجَمِيلِ والرِّضا بِهِ باطِنًا وظاهِرًا. وقَرَأ سَلّامٌ وهارُونُ وابْنُ مُوسى عَنْ أبِي عَمْرٍو: «والعَصِرِ» بِكَسْرِ الصّادِ «والصَّبِرِ» بِكَسْرِ الباءِ؛ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا لا يَجُوزُ إلّا في الوَقْفِ عَلى نَقْلِ الحَرَكَةِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِالصَّبِرِ بِكَسْرِ الباءِ إشْمامًا، وهَذا كَما قالَ لا يَكُونُ أيْضًا إلّا في الوَقْفِ، وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: قَرَأ عِيسى البَصْرَةِ: «بِالصَّبِرِ» بِنَقْلِ حَرَكَةِ الرّاءِ إلى الباءِ؛ لِئَلّا يُحْتاجَ إلى أنْ يُؤْتى بِبَعْضِ الحَرَكَةِ في الوَقْفِ ولا إلى أنْ يُسَكِّنَ فَيُجْمَعَ بَيْنَ ساكِنَيْنِ، وذَلِكَ لُغَةٌ شائِعَةٌ ولَيْسَتْ بِشاذَّةٍ بَلْ مُسْتَفِيضَةٌ، وذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى الإعْرابِ وانْفِصالٌ مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ وتَأْدِيَةُ حَقِّ المَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ انْتَهى. ومِن هَذا كَما في البَحْرِ قَوْلُهُ: ؎أنا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أبُو عَمِرْ أضْرِبُ بِالسَّيْفِ وسَعْدٌ في العَصِرْ وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهم عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ: «والعَصْرِ ونَوائِبِ الدَّهْرِ إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ وإنَّهُ لَفِيهِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ». وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي داوُدَ في المَصاحِفِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرانَ أنَّهُ قَرَأ: «والعَصْرِ إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ وإنَّهُ لَفِيهِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا». وذَكَرَ أنَّها قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَذا واسْتَدَلَّ بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ بِما في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى أنَّ مُرْتَكِبَ الكَبِيرَةِ مُخَلَّدٌ في النّارِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ فِيها عَنِ الخُسْرِ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إلَخْ. وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ لا دَلالَةَ في ذَلِكَ عَلى أكْثَرَ مِن كَوْنِ غَيْرِ المُسْتَثْنى في خُسْرٍ، وأمّا عَلى كَوْنِهِ مُخَلَّدًا في النّارِ فَلا كَيْفَ، والخُسْرٌ عامٌّ؛ فَهو إمّا بِالخُلُودِ إنْ ماتَ كافِرًا، وإمّا بِالدُّخُولِ النّارَ إنْ ماتَ عاصِيًا، ولَمْ يَغْفِرُوا ما بِفَوْتِ الدَّرَجاتِ العالِياتِ إنْ غَفَرَ وهو جَوابٌ حَسَنٌ. ولِلشَّيْخِ الماتُرِيدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في التَّقَصِّي عَنْ ذَلِكَ تَكَلُّفاتٌ مَذْكُورَةٌ في التَّأْوِيلاتِ فَلا تَغْفُلْ. وفي السُّورَةِ مِنَ النَّدْبِ إلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وأنْ يُحِبَّ المَرْءُ لِأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب