الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ إلى آخِرِهِ بَيانٌ إجْمالِيٌّ لَتَحَزَّبِ النّاسِ حِزْبَيْنِ وتَنْبِيهٌ عَلى كَيْفِيَّةِ الأحْوالِ الخاصَّةِ بِكُلٍّ مِنهُما إثْرَ بَيانِ الأحْوالِ الشّامِلَةِ لِلْكُلِّ. وهَذا إشارَةٌ إلى وزْنِ الأعْمالِ وهو مِمّا يَجِبُ الإيمانُ بِهِ حَقِيقَةً ولا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ، ويَكُونُ بَعْدَ تَطايُرِ الصُّحُفِ وأخْذِها بِالأيْمانِ والشَّمائِلِ وبَعْدَ السُّؤالِ والحِسابِ كَما ذَكَرَهُ الواحِدِيُّ وغَيْرُهُ. وجَزَمَ بِهِ صاحِبُ كَنْزِ الأسْرارِ بِمِيزانٍ لَهُ لِسانٌ وكِفَّتانِ كَإطْباقِ السَّماواتِ والأرْضِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِماهِيَّتِهِ. وقَدْ رُوِيَ القَوْلُ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وعَزاهُ في شَرْحِ المَقاصِدِ لِكَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ ومَكانُهُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ كَما في نَوادِرِ الأُصُولِ، وذَكَرَ: يَتَقَبَّلُ بِهِ العَرْشَ، يَأْخُذُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِعَمُودِهِ ناظِرًا إلى لِسانِهِ ومِيكائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمِينٌ عَلَيْهِ، والأشْهَرُ الأصَحُّ أنَّهُ مِيزانٌ واحِدٌ كَما ذَكَرْنا لِجَمِيعِ الأُمَمِ ولِجَمِيعِ الأعْمالِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ( مَوازِينُهُ ) وهو جَمْعُ مِيزانٍ، وأصْلُهُ مُوزانٌ بِالواوِ لَكِنْ قُلِبَتْ ياءً لِسُكُونِها وانْكِسارِ ما قَبْلَها قِيلَ لِلتَّعْظِيمِ كالجَمْعِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَّبَتْ عادٌ المُرْسَلِينَ﴾ في وجْهٍ أوْ بِاعْتِبارِ أجْزائِهِ نَحْوَ: شابَتْ مُفارِقُهُ أوْ بِاعْتِبارِ تَعَدُّدِ الأفْرادِ لِلتَّغايُرِ الِاعْتِبارِيِّ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ: لَمَعانُ بَرْقٍ أوْ شُعاعُ شُمُوسٍ وزَعَمَ الرّازِيُّ عَلى ما نُقِلَ عَنْهُ أنَّ فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا. وقالَ آخَرُونَ: تُوزَنُ نَفْسُ الأعْمالِ فَتُصَوَّرُ الصّالِحَةُ بِصُوَرٍ حَسَنَةٍ نُورانِيَّةٍ ثُمَّ تُطْرَحُ في كِفَّةِ النُّورِ وهي اليُمْنى المُعَدَّةُ لِلْحَسَناتِ فَتَثْقُلُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى، وتُصَوَّرَ الأعْمالُ السَّيِّئَةُ بِصُوَرٍ قَبِيحَةٍ ظُلْمانِيَّةٍ ثُمَّ تُطْرَحُ في كِفِّةِ الظُّلْمَةِ وهي الشِّمالُ فَتُخَفَّفُ بِعَدْلِ اللَّهِ تَعالى، وامْتِناعُ قَلْبِ الحَقائِقِ في مَقامِ خَرْقِ العاداتِ مَمْنُوعٌ أوْ مُقَيَّدٌ بِبَقاءِ آثارِ الحَقِيقَةِ الأُولى، وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يَخْلُقُ أجْسامًا عَلى عَدَدِ تِلْكَ الأعْمالِ مِن غَيْرِ قَلْبٍ لَها، وادَّعى أنَّ فِيهِ أثَرًا. والظّاهِرُ أنَّ الثِّقَلَ والخِفَّةَ مِثْلُهُما في الدُّنْيا؛ فَما ثَقُلَ نَزَلَ إلى أسْفَلَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ إلى عِلِّيِّينَ وما خَفَّ طاشَ إلى أعْلى ثُمَّ نَزَلَ إلى سِجِّينٍ، وبِهِ صَرَّحالقُرْطُبِيُّ وقالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ: هُما عَلى خِلافِ ما في الدُّنْيا، وأنَّ عَمَلَ المُؤْمِنِ إذا رَجَحَ صَعِدَ وثَقُلَتْ سَيِّئاتُهُ، وأنَّ الكافِرَ تَثْقُلُ كِفَّتُهُ لِخُلُوِّ الأُخْرى مِنَ الحَسَناتِ ثُمَّ تَلا: ﴿والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ وفي كَوْنِهِ دَلِيلًا نَظَرٌ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ صِفَةَ الوَزْنِ أنْ يُجْعَلَ جَمِيعُ أعْمالِ العِبادِ في المِيزانِ مَرَّةً واحِدَةً؛ الحَسَناتُ في كِفَّةِ النُّورِ، عَنْ يَمِينِ العَرْشِ جِهَةَ الجَنَّةِ، والسَّيِّئاتُ في كِفَّةِ الظُّلْمَةِ جِهَةَ النّارِ، ويَخْلُقُ اللَّهُ تَعالى لِكُلِّ إنْسانٍ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يُدْرَكُ بِهِ خِفَّةَ أعْمالِهِ وثِقَلَها. وقِيلَ نَحْوُهُ إلّا أنَّ عَلامَةَ الرُّجْحانِ عَمُودٌ مِن نُورٍ يَثُورُ مِن كِفَّةِ الحَسَناتِ حَتّى يَكْسُوَ كِفَّةَ السَّيِّئاتِ، وعَلامَةُ الخِفَّةِ عَمُودُ ظُلْمَةٍ يَثُورُ مِن كِفَّةِ السَّيِّئاتِ حَتّى يَكْسُوَ كِفَّةَ الحَسَناتِ فالكَيْفِيّاتُ أرْبَعٌ وسَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ الحالِ بِالعِيانِ وهو كَما قالَ القُرْطُبِيُّ: لا يَكُونُ في حَقِّ كُلِّ أحَدٍ لِما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««فَيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، أدْخِلِ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البابِ الأيْمَنِ»» الحَدِيثَ. وأحْرى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ وإنَّما يَبْقى الوَزْنُ لِمَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الفَرِيقَيْنِ، وذَكَرَ القاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البَلُّوطِيُّ أنَّ أهْلَ الصَّبْرِ لا تُوزَنُ أعْمالُهم وإنَّما يُصَبُّ لَهُمُ (p-222)الأجْرُ صَبًّا. والظّاهِرُ أنَّهُ يُدْرَجُ المُنافِقُ في الكافِرِ، والحَقُّ أنَّ أعْمالَهم مُطْلَقًا تُوزَنُ لِظَواهِرِ الآياتِ والأحادِيثِ الكَثِيرَةِ. والمُرادُ في الآيَةِ وزْنًا نافِعًا. والصَّحِيحُ أنَّ الجِنَّ مُؤْمِنَهم وكافِرَهم كالإنْسِ في هَذا الشَّأْنِ كَما قُرِّرَ في مَحَلِّهِ. والتَّقْسِيمُ فِيما نَحْنُ فِيهِ عَلى ما سَمِعْتَ عَنِ القُرْطُبِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن تُوزَنُ أعْمالُهُ لا بِالنِّسْبَةِ إلى النّاسِ مُطْلَقًا. وأنْكَرَ المُعْتَزِلَةُ الوَزْنَ حَقِيقَةً، وجَماعَةٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةُ مِنهم مُجاهِدٌ والضَّحّاكُ والأعْمَشُ قالُوا: إنَّ الأعْمالَ أعْراضٌ إنْ أمْكَنَ بَقاؤُها لا يُمْكِنُ وزْنُها، فالوَزْنُ عِبارَةٌ عَنِ القَضاءِ السَّوِيِّ والحُكْمِ العادِلِ، وجَوَّزُوا فِيما هُنا أنْ تَكُونَ المَوازِينُ جَمْعَ مَوْزُونٍ؛ وهو العَمَلُ الَّذِي لَهُ وزْنٌ وخَطَرٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وأنَّ مَعْنى ثِقَلِها رُجْحانُها، ورُوِيَ هَذا عَنِ الفَرّاءِ أيْ فَمَن تَرَجَّحَتْ مَقادِيرُ حَسَناتِهِ ورُتَبُها ﴿فَهُوَ في عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ المَشْهُورُ جَعْلُ ذَلِكَ مِن بابِ النَّسَبِ؛ أيْ ذاتِ رِضًا. وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ ( راضِيَةٍ ) بِمَعْنى المَفْعُولِ أيْ مَرَضِيَّةٍ عَلى التَّجَوُّزِ في الكَلِمَةِ نَفْسِها، وأنْ يَكُونَ الإسْنادُ مَجازِيًّا وهو حَقِيقَةٌ إلى صاحِبِ العِيشَةِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وتَخْيِيلِيَّةٌ عَلى ما قُرِّرَ في كُتُبِ المَعانِي لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ الأجِلَّةِ هاهُنا كَلامًا نَفِيسًا؛ وهو أنَّ ما كانَ لِلنَّسَبِ يُؤَوَّلُ بِذِي كَذا فَلا يُؤَنَّثُ لِأنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلى مَوْصُوفٍ فَأُلْحِقَ بِالجَوامِدِ، ونُقِلَ عَنِ السِّيرافِيِّ أنَّهُ قالَ: يَقْدَحُ فِيما عَلَّلُوا بِهِ سُقُوطَ الهاءِ في ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما أنْ تَكُونَ بِمَعْنى أنَّها راضِيَةٌ أهْلَها فَهي مُلازِمَةٌ لَهم راضِيَةٌ بِهِمْ. والآخَرُ أنْ تَكُونَ الهاءُ لِلْمُبالَغَةِ كَعَلّامَةٍ ورَوّايَةٍ ووُجِّهَ بِأنَّ الهاءَ لَزِمَتْ لِئَلّا تَسْقُطَ الياءُ فَيُخِلُّ بِالبِنْيَةِ كَناقَةٍ مُشْلِيَةٍ وكَلْبَةٍ مُجْرِيَةٍ وهم يَقُولُونَ: ظَبْيَةٌ مُطْفِلٌ ومُشْدِنٌ وبابُ مُفْعِلٍ ومِفْعالٍ لا يُؤَنَّثُ. وقَدْ أدْخَلُوا الهاءَ في بَعْضِهِ كَمِصَكَّةٍ. انْتَهى. ثُمَّ قالَ: إنَّ هَذا حَقِيقٌ بِالقَبُولِ ومُحَصَّلُهُ الجَوابُ بِوُجُوهٍ: أحَدُهُما: أنَّ ( راضِيَةٍ ) هُنا فِيهِ لَيْسَ مِن بابِ النَّسَبِ بَلْ هو اسْمُ فاعِلٍ أُرِيدَ بِهِ لازِمُ مَعْناهُ؛ لِأنَّ مَن شاءَ شَيْئًا ورَضِيَ بِهِ لازَمَهُ فَهو مَجازٌ مُرْسَلٌ أوِ اسْتِعارَةٌ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّهُ مَجازٌ في الإسْنادِ وما ذُكِرَ بَيانٌ لِمَعْناهُ الثّانِي أنَّ الهاءَ لِلْمُبالَغَةِ ولا تَخْتَصُّ بِفَعّالٍ، ولِذا مَثَّلَ بِرَوّايَةٍ أيْضًا، والثّالِثُ أنَّهُ يَجُوزُ إلْحاقُ الهاءِ في المُعْتَلِّ لِحِفْظِ البِنْيَةِ ومِصَكَّةٌ إمّا شاذًّا ولِتَشْبِيهِ المُضاعَفِ بِالمُعْتَلِّ انْتَهى. فاحْفَظْهُ فَإنَّهُ نَفِيسٌ خَلا عَنْهُ أكْثَرُ الكُتُبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب