الباحث القرآني

﴿ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرْضِ﴾ تَحْقِيقٌ لِدَوَرانِ إيمانِ جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ وُجُودًا وعَدَمًا عَلى قُطْبِ مَشِيئَتِهِ سُبْحانَهُ مُطْلَقًا بَعْدَ بَيانِ تَبَعِيَّةِ كُفْرِ الكَفَرَةِ لِكَلِمَتِهِ ومَفْعُولُ المَشِيئَةِ هُنا مَحْذُوفٌ حَسَبَ المَعْهُودِ في نَظائِرِهِ أيْ لَوْ شاءَ سُبْحانَهُ إيمانَ مَن في الأرْضِ مِنَ الثَّقَلَيْنِ لَآمَنَ كُلُّهم بِحَيْثُ لا يَشِذُّ مِنهم أحَدٌ ﴿جَمِيعًا﴾ أيْ مُجْتَمِعِينَ عَلى الإيمانِ لا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَشاءُ إلّا ما يَعْلَمُ ولا يَعْلَمُ إلّا ما لَهُ ثُبُوتٌ في نَفْسِهِ فِيما لا ثُبُوتَ لَهُ أصْلًا لا يَعْلَمُ وما لا يَعْلَمُ لا يَشاءُ وإلى هَذا التَّعْلِيلِ ذَهَبَ الكُورانِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وأطالَ الكَلامَ في تَحْرِيرِهِ والذَّبِّ عَنْهُ في غَيْرِ ما رِسالَةٍ والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَشاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُخالِفًا لِلْحِكْمَةِ الَّتِي عَلَيْها بِناءُ أساسِ التَّكْوِينِ والتَّشْرِيعِ والآيَةُ حُجَّةٌ عَلى المُعْتَزِلَةِ الزّاعِمِينَ أنَّ اللَّهَ تَعالى شاءَ الإيمانَ مِن جَمِيعِ الخَلْقِ فَلَمْ يُؤْمِن إلّا بَعْضُهم والمَشِيئَةُ عِنْدَهم قِسْمانِ تَفْوِيضِيَّةٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُ الشَّيْءِ عَنْها وقَسْرِيَّةٌ لا يَجُوزُ التَّخَلُّفُ عَنْها وحَمَلُوا ما في الآيَةِ عَلى هَذا الأخِيرِ فالمَعْنى عِنْدَهم لَوْ شاءَ رَبُّكَ مَشِيئَةَ إلْجاءِ وقَسْرِ إيمانِ الثَّقَلَيْنِ لَآمَنُوا لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يَشَأْ كَذَلِكَ بَلْ أمَرَهم بِالإيمانِ وخَلَقَ لَهم اخْتِيارًا لَهُ ولِضِدِّهِ وفَوَّضَ الأمْرَ إلَيْهِمْ فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ وهَذا دَيْدَنُهم في كُلِّ ما ورَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الآياتِ الظّاهِرَةِ في إبْطالِ ما هم عَلَيْهِ وفِيهِ أنَّهُ لا قَرِينَةَ عَلى التَّقْيِيدِ مَعَ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿أفَأنْتَ تُكْرِهُ النّاسَ﴾ يَأْباهُ فِيما قِيلَ فَإنَّ الهَمْزَةَ لِلْإنْكارِ وهي لِصَدارَتِها مُقَدَّمَةٌ مِن تَأْخِيرٍ عَلى ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ والفاءُ لِلتَّفْرِيعِ والمَقْصُودُ تَفَرُّعُ الإنْكارِ عَلى ما قَبْلُ ولا (p-194)فائِدَةَ بَلْ لا وجْهَ لِاعْتِبارِ مَشِيئَةِ القَسْرِ والإلْجاءِ خاصَّةً في تَفَرُّعِ الإنْكارِ وقِيلَ: إنَّ الهَمْزَةَ في مَوْضِعِها والعَطْفَ عَلى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ كَأنَّهُ قِيلَ: أرَبُّكَ لا يَشاءُ ذَلِكَ فَأنْتَ تُكْرِهُهم ﴿حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 99﴾ والإنْكارُ مُتَوَجِّهٌ إلى تَرْتِيبِ الإكْراهِ المَذْكُورِ عَلى عَدَمِ مَشِيئَتِهِ تَعالى والإباءُ هو الإباءُ فَلا بُدَّ مِن حَمْلِ المَشِيئَةِ عَلى إطْلاقِها والمُرادُ بِالنّاسِ مَن طُبِعَ عَلَيْهِمْ أوِ الجَمِيعُ مُبالَغَةً وجُوِّزَ في (أنْتَ) أنْ يَكُونَ فاعِلًا بِمُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ وأنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ ويَعُدُّونَهُ فاعِلًا مَعْنَوِيًّا وتَقْدِيمُهُ لِتَقْوِيَةِ حُكْمِ الإنْكارِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّرِيفُ قُدِّسَ سِرُّهُ في شَرْحِ المِفْتاحِ وذَكَرَ فِيهِ أنَّ المَقْصُودَ إنْكارُ صُدُورِ الفِعْلِ مِنَ المُخاطَبِ لا إنْكارُ كَوْنِهِ هو الفاعِلَ مَعَ تَقَرُّرِ أصْلِ الفِعْلِ وقِيلَ: إنَّ التَّقْدِيمَ لِلتَّخْصِيصِ فَفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ الإكْراهَ أمْرٌ مُمْكِنٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ في المُكْرَهِ مَن هو وما هو إلّا سُبْحانَهُ وحْدَهُ لا يُشارَكُ فِيهِ لِأنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ القادِرُ عَلى أنْ يَفْعَلَ في قُلُوبِهِمْ ما يَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ وذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطاعٍ لِلْبَشَرِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب