الباحث القرآني

وقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿فاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ تَهَكُّمٌ بِهِ وتَخْيِيبٌ لَهُ وحَسْمٌ لِأطْماعِهِ بِالمَرَّةِ والمُرادُ فاليَوْمَ نُخْرِجُكَ مِمّا وقَعَ فِيهِ قَوْمُكَ مِن قَعْرِ البَحْرِ ونَجْعَلُكَ طافِيًا مُلابِسًا بِبَدَنِكَ عارِيًا عَنِ الرُّوحِ إلّا أنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّنْجِيَةِ مَجازًا وجَعَلَ الجارَّ والمَجْرُورَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ لِذَلِكَ مَعَ ما فِيهِ مِنَ التَّلْوِيحِ بِأنَّ مُرادَهُ بِالإيمانِ هو النَّجاةُ وقِيلَ: مَعْنى الحالِ عارِيًا عَنِ اللِّباسِ أوْ تامَّ الأعْضاءِ كامِلَها وجَعَلَ بَعْضُ الأفاضِلِ الكَلامَ عَلى التَّجْرِيدِ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الباءُ زائِدَةً - وبَدَنِكَ - بَدَلُ بَعْضٍ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ كَأنَّهُ قِيلَ: نُنْجِي بَدَنَكَ وجَعَلَ الباءَ لِلْآيَةِ لِيَكُونَ عَلى وِزانِ قَوْلِكَ - أخَذْتَهُ بِيَدِكَ - ونَظْرَتَهُ بِعَيْنِكَ - إيذانًا بِحُصُولِ هَذا المَطْلُوبِ البَعِيدِ التَّناوُلِ وجْهٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ وجِيهٍ كَما لا يَخْفى وقِيلَ: التَّنْجِيَةُ الإلْقاءَ عَلى النَّجْوَةِ وهي المَكانُ المُرْتَفِعُ قِيلَ: وسُمِّيَ بِهِ لِنَجاتِهِ عَنِ السَّيْلِ وإلى هَذا ذَهَبَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النَّحْوِيُّ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ الأنْبارِيِّ وأبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: المَعْنى نَجْعَلُكَ عَلى نَجْوَةٍ مِنَ الأرْضِ كَيْ يَراكَ بَنُو إسْرائِيلَ فَيَعْرِفُوا أنَّكَ قَدْ مِتَّ وجاءَ تَفْسِيرُ البَدَنِ بِالدِّرْعِ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وأُبَيٍّ وكانَتْ لَهُ دِرْعٌ مِن (p-184)ذَهَبٍ يُعْرَفُ بِها وفي رِوايَةٍ أنَّها كانَتْ مِن لُؤْلُؤٍ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي جَهْضَمٍ مُوسى بْنِ سالِمٍ أنَّهُ كانَ لِفِرْعَوْنَ شَيْءٌ يَلْبَسُهُ يُقالُ لَهُ البَدَنُ يَتَلَأْلَأُ وقَرَأ يَعْقُوبُ (نُنْجِيكَ) مِن بابِ الإفْعالِ وهو مَعْنى التَّفْعِيلِ بِمَعْنَيَيْهِ السّابِقَيْنِ وأخْرَجَ ابْنُ الأنْبارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْقَعِ اليَمانِيِّ ويَزِيدَ البَرْبَرِيِّ أنَّهُما قَرَآ (نُنَحِّيكَ) بِالحاءِ المُهْمَلَةِ ونُسِبَتْ إلى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وأبِي السَّمالِ أيْ نَجْعَلُكَ في ناحِيَةٍ ونُلْقِيكَ عَلى السّاحِلِ وقَرَأ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ (بِأبْدانِكَ) عَلى صِيغَةِ الجَمْعِ بِجَعْلِ كُلِّ عُضْوٍ بِمَنزِلَةِ البَدَنِ فَأطْلَقَ الكُلَّ عَلى الجُزْءِ مَجازًا وعَلى هَذا جَمْعُ الإجْرامِ في قَوْلِهِ: ؎وكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلايَ طِحْتَ كَما هَوى بِإجْرامِهِ مِن قِلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي أوْ بِإرادَةِ دُرُوعِكَ بِناءً عَلى أنَّ المَخْذُولَ كانَ لابِسًا دِرْعًا عَلى دِرْعٍ وأخْرَجَ ابْنُ الأنْبارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ (بِنِدائِكَ) أيْ بِدُعائِكَ ﴿لِتَكُونَ لِمَن خَلْفَكَ آيَةً﴾ أيْ لِتَكُونَ لِمَن يَأْتِي بَعْدَكَ مِنَ الأُمَمِ إذا سَمِعُوا حالَ أمْرِكَ مِمَّنْ شاهَدَ حالَكَ وما عَراكَ عِبْرَةً ونَكالًا مِنَ الطُّغْيانِ أوْ حُجَّةً تَدُلُّهم عَلى أنَّ الإنْسانَ وإنْ بَلَغَ الغايَةَ القُصْوى مِن عِظَمِ الشَّأْنِ وعُلُوِّ الكِبْرِياءِ وقُوَّةِ السُّلْطانِ فَهو مَمْلُوكٌ مَقْهُورٌ بَعِيدٌ عَنْ مَظانِّ الأُلُوهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ وقِيلَ: المُرادُ بِمَن خَلْفَهُ مَن بَقِيَ بَعْدَهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أيْ لِتَكُونَ لَهم عَلامَةً عَلى صِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إذْ كانَ في نُفُوسِهِمْ مِن عَظَمَتِهِما ما خَيَّلَ إلَيْهِمْ أنَّهُ لا يَهْلِكُ فَكَذَّبُوا لِذَلِكَ خَبَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَلاكِهِ حَتّى عايَنُوهُ عَلى مَمَرِّهِمْ مِنَ السّاحِلِ أحْمَرَ قَصِيرًا كَأنَّهُ ثَوْرٌ ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ وقُرِئَ (لِمَن خَلَفَكَ) فِعْلًا ماضِيًا أيْ حَلَّ مَكانَكَ ونُسِبَ إلى ابْنِ السَّمَيْقَعِ وأبِي السِّمالِ أنَّهُما أيْضًا قَرَآ (لِمَن خَلَقَكَ) بِفَتْحِ اللّامِ والقافِ أيْ لِتَكُونَ لِخالِقِكَ آيَةً كَسائِرِ الآياتِ فَإنَّ إفْرادَهُ سُبْحانَهُ إيّاكَ بِالإلْقاءِ إلى السّاحِلِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ قَصَدَ مِنهُ جَلَّ شَأْنُهُ لِكَشْفِ تَزْوِيرِكَ وإماطَةَ الشُّبُهاتِ في أمْرِكَ وبُرْهانٌ نَيِّرٌ عَلى كَمالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وإرادَتِهِ وهو مَعْنًى لا بَأْسَ بِهِ يَصِحُّ أنْ تُوَجَّهَ بِهِ الآيَةُ عَلى القِراءَةِ المَشْهُورَةِ أيْضًا. ذُكِرَ في النَّشْرِ أنَّ مِمّا لا يُوثَقُ بِنَقْلِهِ قِراءَةُ ابْنِ السَّمَيْقَعِ وأبِي السِّمالِ (نُنَحِّيكَ) بِالحاءِ و(لِمَن خَلَقَكَ) بِالقافِ وفي تَعْلِيلِ تَنْجِيَتِهِ بِما ذُكِرَ كَما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إيذانٌ بِأنَّها لَيْسَتْ لِإعْزازِهِ أوْ لِفائِدَةٍ أُخْرى عائِدَةٍ إلَيْهِ بَلْ لِكَمالِ الِاسْتِهانَةِ بِهِ وتَفْضِيحِهِ عَلى رُءُوسِ الأشْهادِ وزِيادَةِ تَفْظِيعِ حالِهِ كَمَن يُقْتَلُ ثُمَّ يُجَرُّ جَسَدُهُ في الأسْواقِ ويُطْرَحُ جِيفَةً في المَيْدانِ أوْ يُدارُ بِرَأْسِهِ في النَّواحِي والبُلْدانِ واللّامُ الأوْلى مُتَعَلِّقَةٌ بِالفِعْلِ والثّانِيَةُ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن (آيَةً) أيْ كائِنَةً لِمَن خَلْفَكَ وجادَ الرَّدُّ عَلى هَذا المَخْذُولِ عَلى طَرْزِ ما أتى بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿آمَنتُ أنَّهُ﴾ إلَخْ في اشْتِمالِهِ عَلى المُبالَغَةِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن تَفَكَّرَ في الآيَةِ وقَدْ قَرَّرَ فَحْوى المَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ 92﴾ أيْ لا يَتَفَكَّرُونَ فِيها ولا يَعْتَبِرُونَ بِها وهو اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ جِيءَ بِهِ عِنْدَ الحِكايَةِ لِذَلِكَ ولِهَذِهِ الآيَةِ وأشْباهِها وقَعَ الإجْماعُ عَلى كَفْرِ المَخْذُولِ وعَدَمِ قَبُولِ إيمانِهِ ويَشْهَدُ لِذَلِكَ أيْضًا ما رَواهُ ابْنُ عَدِيٍّ والطَّبَرانِيُّ مِن أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «خَلَقَ اللَّهُ تَعالى يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا في بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وخَلَقَ فِرْعَوْنَ في بَطْنِ أُمِّهِ كافِرًا» . فَهو مِن أهْلِ النّارِ المُخَلَّدِينَ فِيها بِلا رَيْبٍ وبِذَلِكَ قالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في أوَّلِ كِتابِهِ الفُتُوحاتِ في البابِ الثّانِي والسِّتِّينَ مِنهُ حَيْثُ ذَكَرَ أنَّ الَّذِينَ خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى مِنَ العِبادِ جَعَلَهم طائِفَتَيْنِ طائِفَةٌ لا تَضُرُّهُمُ الذُّنُوبُ الَّتِي وقَعَتْ مِنهم وإلَيْهِمُ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعِدُكم مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلا﴾ وهَؤُلاءِ لا تَمَسُّهُمُ النّارُ بِما (p-185)تابَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ واسْتِغْفارِ المَلَأ الأعْلى ودُعائِهِمْ لَهُمْ وقَسَّمَ الطّائِفَةَ الأُخْرى إلى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ أخْرَجَهم مِنَ النّارِ بِالشَّفاعَةِ وهم طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ وأهْلِ التَّوْحِيدِ ماتُوا ولَمْ تُكَفَّرْ عَنْهم خَطاياهم وقِسْمٌ آخَرُ أبْقاهم في النّارِ وهُمُ المُجْرِمُونَ خاصَّةً الَّذِينَ يُقالُ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ: ﴿وامْتازُوا اليَوْمَ أيُّها المُجْرِمُونَ﴾ ولَهم يُقالُ: أهْلُ النّارِ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْمُرُونَها وهم عَلى أرْبَعِ طَوائِفَ كُلُّهم في النّارِ لا يَخْرُجُونَ مِنها. الطّائِفَةُ الأُولى المُتَكَبِّرُونَ عَلى اللَّهِ تَعالى كَفِرْعَوْنَ وأشْباهِهِ مِمَّنِ ادَّعى الرُّبُوبِيَّةَ لِنَفْسِهِ ونَفاها عَنِ اللَّهِ تَعالى فَقالَ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ وقالَ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ يُرِيدُ بِهِ ما في السَّماءِ غَيْرِي وكَذَلِكَ نُمْرُوذُ وغَيْرُهُ والثّانِيَةُ المُشْرِكُونَ وهُمُ الَّذِينَ أثْبَتُوا اللَّهَ تَعالى إلّا أنَّهم جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً أُخْرى وقالُوا: ﴿ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ والثّالِثَةُ المُعَطِّلَةُ وهُمُ الَّذِينَ نَفَوُا الإلَهَ جُمْلَةً واحِدَةً فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلْعالَمِ إلَهًا أصْلًا والرّابِعَةُ المُنافِقُونَ وهُمُ الَّذِينَ أظْهَرُوا الإيمانَ لِلْقَهْرِ الَّذِي حُكِمَ عَلَيْهِمْ وهم في نُفُوسِهِمْ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنِ اعْتِقادِ إحْدى هَذِهِ الطَّوائِفِ الثَّلاثِ فَهُؤَلاءِ الأصْنافُ الأرْبَعَةُ هم أهْلُ النّارِ الَّذِينَ لا يَخْرُجُونَ مِنها مِنَ الجِنِّ والإنْسِ انْتَهى. وهُوَ صَرِيحٌ فِيما قُلْنا إلّا أنَّهُ ذَهَبَ في مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الكِتابِ المَذْكُورِ إلى خِلافِهِ فَقالَ في البابِ السّابِعِ والسِّتِّينَ ومِائَةٍ ما حاصِلُهُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا عَلِمَ أنَّهُ قَدْ طَبَعَ عَلى كُلِّ قَلْبٍ مُظْهِرٍ لِلْجَبَرُوتِ والكِبْرِياءِ وأنَّ فِرْعَوْنَ في نَفْسِهِ أذَلُّ الأذِلّاءِ أمَرَ مُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ أنْ يُعامِلاهُ بِالرَّحْمَةِ واللِّينِ لِمُناسَبَةِ باطِنِهِ واسْتِنْزالِ ظاهِرِهِ مِن جَبَرُوتِهِ وكِبْرِيائِهِ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ ولَعَلَّ وعَسى مِنَ اللَّهِ تَعالى واجَبَتانِ فَتَذَكَّرْ بِما يُقابِلُهُ مِنَ اللِّينِ والمَسْكَنَةِ ما هو عَلَيْهِ في باطِنِهِ لِيَكُونَ الظّاهِرُ والباطِنُ عَلى السَّواءِ فَما زالَتْ تِلْكَ الخَمِيرَةُ مَعَهُ تَعْمَلُ في باطِنِهِ مَعَ التَّرَجِّي الإلَهِيِّ الواجِبِ فِيهِ وُقُوعُ المُتَرَجّى ويَتَقَوّى حُكْمُها إلى حِينِ انْقِطاعِ يَأْسِهِ مِنِ اتِّباعِهِ وحالَ الغَرَقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أطْماعِهِ لَجَأ إلى ما كانَ مُسْتَتِرًا في باطِنِهِ مِنَ الذِّلَّةِ والِافْتِقارِ لِيَتَحَقَّقَ عِنْدَ المُؤْمِنِينَ وُقُوعُ الرَّجاءِ الإلَهِيِّ فَقالَ: ﴿آمَنتُ أنَّهُ لا إلَهَ إلا الَّذِي آمَنتُ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ فَرُفِعَ الإشْكالُ مِنَ الإشْكالِ كَما قالَتِ السَّحَرَةُ لَمّا آمَنَتْ: ﴿آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿رَبِّ مُوسى وهارُونَ﴾ أيِ الَّذِي يَدْعُوانِ إلَيْهِ فَجاءَتْ بِذَلِكَ لِدَفْعِ الِارْتِيابِ ورَفْعِ الإشْكالِ وقَوْلُهُ: وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ خِطابٌ مِنهُ لِلْحَقِّ تَعالى لِعِلْمِهِ أنَّهُ سُبْحانَهُ يَسْمَعُهُ ويَراهُ فَخاطَبَهُ الحَقُّ بِلِسانِ الغَيْبِ وسَمِعَهُ آلْآنَ أظْهَرْتَ ما قَدْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ وقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ لِأتْباعِكَ وما قالَ لَهُ (وأنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ) فَهي كَلِمَةُ بُشْرى لَهُ عَرَّفَنا بِها لِنَرْجُوَ رَحْمَتَهُ مَعَ إسْرافِنا وإجْرامِنا ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿فاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَن خَلْفَكَ آيَةً﴾ يَعْنِي لِتَكُونَ النَّجاةُ لِمَن يَأْتِي بَعْدَكَ آيَةً أيْ عَلامَةً إذا قالَ ما قُلْتَهُ تَكُونُ لَهُ النَّجاةُ مِثْلَ ما كانَتْ لَكَ وما في الآيَةِ أنَّ بَأْسَ الآخِرَةِ لا يَرْتَفِعُ وأنَّ إيمانَهُ لَمْ يُقْبَلْ وإنَّما فِيها أنَّ بَأْسَ الدُّنْيا لا يَرْتَفِعُ عَمَّنْ نَزَلَ بِهِ إذا آمَنَ في حالِ نُزُولِهِ إلّا قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ بِمَعْنى أنَّ العَذابَ لا يَتَعَلَّقُ إلّا بِظاهِرِكَ وقَدْ أرَيْتُ الخَلْقَ نَجاتَهُ مِنَ العَذابِ فَكانَ ابْتِداءُ الغَرَقِ عَذابًا فَصارَ المَوْتُ فِيهِ شَهادَةً خالِصَةً بَرِيئَةً لَمْ يَتَخَلَّلْها مَعْصِيَةٌ فَقُبِضَ عَلى أفْضَلِ عَمَلٍ وهو التَّلَفُّظُ بِالإيمانِ كُلُّ ذَلِكَ حَتّى لا يَقْنَطَ أحَدٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى والأعْمالُ بِخَواتِيمِها فَلَمْ يَزَلِ الإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى يَجُولُ في باطِنِهِ وقَدْ حالَ الطّابَعُ الإلَهِيُّ الذّاتِيُّ في الخَلْقِ بَيْنَ الكِبْرِياءِ واللَّطائِفِ الإنْسانِيَّةِ فَلَمْ يَدْخُلْها قَطُّ كِبْرِياءٌ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ فَكَلامٌ مُحَقَّقٌ في غايَةِ الوُضُوحِ فَإنَّ النّافِعَ هو اللَّهُ تَعالى فَما نَفَعَهم إلّا (p-186)هُوَ سُبْحانَهُ وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ﴾ فَيَعْنِي بِذَلِكَ الإيمانِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البَأْسِ الغَيْرِ المُعْتادِ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ فَغايَةُ هَذا الإيمانِ أنْ يَكُونَ كَرْهًا وقَدْ أضافَهُ الحَقُّ سُبْحانَهُ إلَيْهِ والكَراهَةُ مَحَلُّها القَلْبُ والإيمانُ كَذَلِكَ واللَّهُ تَعالى لا يَأْخُذُ العَبْدَ بِالأعْمالِ الشّاقَّةِ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ ما يَجِدُهُ مِنَ المَشَقَّةِ فِيها بَلْ يُضاعِفُ لَهُ فِيها الأجْرَ وأمّا في هَذا المَوْطِنِ فالمَشَقَّةُ مِنهُ بَعِيدَةٌ بَلْ جاءَ طَوْعًا في إيمانِهِ وما عاشَ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ قُبِضَ ولَمْ يُؤَخَّرْ لِئَلّا يَرْجِعَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّعْوى ولَوْ قُبِضَ رُكّابُ البَحْرِ الَّذِينَ قالَ سُبْحانَهُ فِيهِمْ: ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلا إيّاهُ﴾ عِنْدَ نَجاتِهِمْ لَماتُوا مُوَحِّدِينَ وقَدْ حَصَلَتْ لَهُمُ النَّجاةُ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى في تَتْمِيمِ قِصَّتِهِ هَذِهِ: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ﴾ عَلى مَعْنى قَدْ ظَهَرَتْ نَجاتُكَ آيَةً أيْ عَلامَةً عَلى حُصُولِ النَّجاةِ فَغَفَلَ أكْثَرُ النّاسِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَضَوْا عَلى المُؤْمِنِ بِالشَّقاءِ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأوْرَدَهُمُ النّارَ﴾ فَلَيْسَ فِيهِ أنَّهُ يَدْخُلُها مَعَهم بَلْ قالَ جَلَّ وعَلا: ﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ ولَمْ يَقُلْ أدْخِلُوا فِرْعَوْنَ وآلَهُ ورَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى أوْسَعُ مِن أنْ لا يَقْبَلَ إيمانَ المُضْطَرِّ وأيُّ اضْطِرارٍ أعْظَمُ مِنِ اضْطِرارِ فِرْعَوْنَ في حالِ الغَرَقِ؟ واللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى يَقُولُ: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ﴾ فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذا دَعاهُ بِالإجابَةِ وكَشْفِ السُّوءِ عَنْهُ وهَذا آمَنَ لِلَّهِ تَعالى خالِصًا وما دَعاهُ في البَقاءِ في الحَياةِ والدُّنْيا خَوْفًا مِنَ العَوارِضِ وأنْ يُحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ هَذا الإخْلاصِ الَّذِي جاءَهُ في هَذِهِ الحالِ فَرَجَّحَ جانِبَ لِقاءِ اللَّهِ تَعالى عَلى البَقاءِ بِالتَّلَفُّظِ بِالإيمانِ وجَعَلَ ذَلِكَ الغَرَقَ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى فَلَمْ يَكُنْ عَذابُهُ أكْثَرَ مِن غَمِّ الماءِ الأُجاجِ وقَبْضِهِ عَلى أحْسَنِ صِفَةٍ وهَذا هو الَّذِي يُعْطِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى﴾ يَعْنِي في أخْذِهِ نَكالَ الآخِرَةِ والأُولى وقَدَّمَ سُبْحانَهُ ذِكْرَ الآخِرَةِ عَلى الأُولى لِيُعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ العَذابَ أعْنِي عَذابَ الغَرَقِ هو نَكالُ الآخِرَةِ وهَذا هو الفَضْلُ العَظِيمُ انْتَهى وهو نَصٌّ في إيمانِهِ بَلْ في كَوْنِهِ مِنَ الشُّهَداءِ بِناءً عَلى أنَّ المَوْتَ غَرَقًا شَهادَةٌ لِلْمُومِنِينَ كَما أجْمَعَ عَلَيْهِ أئِمَّةُ الدِّينِ عَلى خِلافٍ في مَوْتِ مَن قَصَّرَ في تَعَلُّمِ السِّباحَةِ غَرِيقًا هَلْ يُعَدُّ شَهادَةً أمْ لا فَإنَّ بَعْضَ الشّافِعِيَّةِ ذَهَبَ إلى أنَّ المُقَصِّرَ المَذْكُورَ إذا ماتَ غَرِيقًا ماتَ عاصِيًا لا شَهِيدًا وإنَّما الشَّهِيدُ مَن ماتَ كَذَلِكَ وكانَ عارِفًا بِالسِّباحَةِ أوْ غَيْرَ مُقَصِّرٍ في تَعَلُّمِها لَكِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وكَأنَّ الشَّيْخَ قُدِّسَ سِرُّهُ لا يَقُولُ بِهَذا التَّفْصِيلِ أوْ كانَ يَعْلَمُ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ السِّباحَةَ أوْ مِمَّنْ لَمْ يُقَصِّرْ في تَعَلُّمِها أوْ أنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الإيمانَ كَفَّرَ عَنْهُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَهُ ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ مَعْصِيَةُ التَّقْصِيرِ مَثَلًا الَّتِي هي دُونَ قَوْلِهِ: ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ و﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ بِألْفِ ألْفِ مَرْتَبَةٍ لَكِنْ لا أدْرِي هَلِ الغَرِيقُ شَهِيدٌ في شَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَما هو كَذَلِكَ في شَرِيعَتِنا أمْ هَذا الأمْرُ مِن خَواصِّ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلى أهْلِها بِما أنْعَمَ كَرامَةً لِنَبِيِّها صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقَدْ ذَهَبَ قُدِّسُ سِرُّهُ في كِتابِهِ فُصُوصُ الحُكْمِ إلى نَحْوِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أخِيرًا في كِتابِهِ الفُتُوحاتِ وقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ غَيْرُ واحِدٍ وهو عِنْدِي لَيْسَ بِأعْظَمَ مِن قَوْلِهِ قُدِّسَ سِرُّهُ بِإيمانِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وكَثِيرٍ مِن أضْرابِهِمْ ونَجاتِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وقَدْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ في الفُصُوصِ والعَجَبُ أنَّهُ لَمْ يَكْثُرْ مُعْتَرِضُوهُ في ذَلِكَ كَثْرَتَهم في القَوْلِ بِإيمانِ فِرْعَوْنَ وقَدِ انْتَصَرَ لَهُ بَعْضُ النّاسِ ومِنهم في المَشْهُورِ الجَلالُ الدَّوانِيُّ ولَهُ رِسالَةٌ في ذَلِكَ أتى فِيها بِما لا يُعَدُّ شَيْئًا عِنْدَ أصاغِرِ الطَّلَبَةِ لَكِنْ في تارِيخِ حَلَبَ لِلْفاضِلِ الحَلَبِيِّ كَما قالَ مَوْلانا الشِّهابُ إنَّها لَيْسَتْ لِلْجَلالِ وإنَّما هي لِرَجُلٍ يُسَمّى مُحَمَّدَ بْنَ هِلالٍ النَّحْوِيَّ وقَدْ رَدَّها القَزْوِينِيُّ (p-187)وشَنَّعَ عَلَيْهِ وقالَ: إنَّما مَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ خامِلِ الذِّكْرِ لَمّا قَدِمَ مَكَّةَ بالَ في زَمْزِمَ لِيَشْتَهِرَ بَيْنَ النّاسِ وفي المَثَلِ خالِفْ تُعْرَفْ ويُؤَيِّدُ كَوْنَها لَيْسَتْ لِلْجَلالِ أنَّهُ شافِعِيُّ المَذْهَبِ كَما يَشْهَدُ لِذَلِكَ حاشِيَتُهُ عَلى الأنْوارِ وفي فَتاوى ابْنِ حَجَرٍ أنَّ بَعْضَ فُقَهائِنا كَفَّرَ مَن ذَهَبَ إلى إيمانِ فِرْعَوْنَ مَعَ ما عِلِيهِ تِلْكَ الرِّسالَةُ مِنِ اخْتِلالِ العِبارَةِ وظُهُورِ الرَّكاكَةِ وعَدَمِ مُشابَهَتِها لِسائِرِ تَأْلِيفاتِهِ ولَوْلا خَوْفُ الإطالَةِ لَسَرَدْتُها عَلَيْكَ وبِالجُمْلَةِ ظَواهِرُ الآيِ صَرِيحَةٌ في كُفْرِ فِرْعَوْنِ وعَدَمِ قَبُولِ إيمانِهِ ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وعادًا وثَمُودَ وقَدْ تَبَيَّنَ لَكم مِن مَساكِنِهِمْ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ ﴿وقارُونَ وفِرْعَوْنَ وهامانَ ولَقَدْ جاءَهم مُوسى بِالبَيِّناتِ فاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ وما كانُوا سابِقِينَ﴾ ﴿فَكُلا أخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنهم مَن أرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا ومِنهم مَن أخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنهم مَن خَسَفْنا بِهِ الأرْضَ ومِنهم مَن أغْرَقْنا وما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهم ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ فَإنَّهُ ظاهِرٌ في اسْتِمْرارِ فِرْعَوْنَ عَلى الكُفْرِ والمَعاصِي المُوجِبَةِ لِما حَلَّ بِهِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِكانَ والفِعْلِ المُضارِعِ ومَعَ الإيمانِ لا اسْتِمْرارَ عَلى أنْ نَظَّمَهُ في سِلْكِ مَن ذُكِرَ مَعَهُ ظاهِرٌ أيْضًا في المُدَّعى. وألْحَقَ بَعْضُهم بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدُوٌّ لَهُ﴾ بِناءً عَلى أنَّ عَدُوٌّ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وهي لِلثُّبُوتِ فَيَدُلُّ عَلى ثُبُوتِ عَداوَتِهِ لِلَّهِ تَعالى وعَداوَتِهِ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وثُبُوتُ إحْدى العَداوَتَيْنِ كافٍ في سُوءِ حالِهِ خِلافًا لِمَن وهِمَ وقَدْ صَرَّحُوا أيْضًا بِأنَّ إيمانَ البَأْسِ واليَأْسِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ولا شَكَّ أنَّ إيمانَ المَخْذُولِ كانَ مِن ذَلِكَ القَبِيلِ وإنْكارَهُ مُكابَرَةٌ وقَدْ حَكى إجْماعُ الأئِمَّةِ المُجْتَهِدِينَ عَلى عَدَمِ القَبُولِ ومُسْتَنَدُهم فِيهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ وما يُنْقَلُ عَنِ الإمامِ مالِكٍ مِنَ القَبُولِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ المُطَّلِعِينَ عَلى أقْوالِ المُجْتَهِدِينَ واخْتِلافاتِهِمْ نَعَمْ صَرَّحَ الإمامُ القاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ مِن ساداتِنا الحَنَفِيَّةِ في تَفْسِيرِهِ بِأنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أنَّ الإيمانَ يَنْتَفِعُ بِهِ ولَوْ عِنْدَ مُعايَنَةِ العَذابِ وهَذا الإمامُ مُتَقَدِّمٌ عَلى الشَّيْخِ الأكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ بِنَحْوِ مِائَةِ سَنَةٍ وحِينَئِذٍ تُشَكَّلُ حِكايَةُ الإجْماعِ إلّا أنْ يُقالَ: بِعَدَمِ تَسْلِيمِ صِحَّةِ ذَلِكَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ هم مِن أهْلِ الِاجْتِهادِ المُعَوَّلِ عَلَيْهِمْ لِما فِيهِ مِنَ المُخالَفَةِ لِلدَّلالَةِ الظّاهِرَةِ في عَدَمِ النَّفْعِ فَلا يُخِلُّ ذَلِكَ بِالإجْماعِ بِالإجْماعِ وفي الزَّواجِرِ أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لا يَضُرُّنا ذَلِكَ في دَعْوى إجْماعِ الأُمَّةِ عَلى كُفْرِفِرْعَوْنَ لِأنّا نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ لِأجْلِ إيمانِهِ عِنْدَ البَأْسِ فَحَسْبُ بَلْ لِما انْضَمَّ إلَيْهِ مِن أنَّهُ لَمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ تَعالى إيمانًا صَحِيحًا بَلْ كانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ فَكَأنَّهُ اعْتَرَفَ بِأنَّهُ لا يَعْرِفُ اللَّهَ تَعالى وإنَّما سَمِعَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أنَّ لِلْعالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الإلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرائِيلَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ وهَذا هو مَحْضُ التَّقْلِيدِ الَّذِي لا يُقْبَلُ لا سِيَّما مِن مِثْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصّانِعِ فَإنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن بُرْهانٍ قَطْعِيٍّ يُزِيلُ ما هو عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِقادِ الخَبِيثِ البالِغِ نِهايَةَ القُبْحِ والفُحْشِ وأيْضًا لا بُدَّ في إسْلامِ الدَّهْرِيِّ ونَحْوِهِ مِمَّنْ كانَ قَدْ دانَ بِشَيْءٍ أنْ يُقِرَّ بِبُطْلانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَلَوْ قالَ: آمَنتُ بِالَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلانِ ما كانَ كَفَرَ بِهِ مِن نَفْيِ الصّانِعِ وادِّعاءِ الإلَهِيَّةِ لِنَفْسِهِ الخَبِيثَةِ وقَوْلُهُ: ﴿إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ﴾ لا يُدْرى ما الَّذِي أرادَ بِهِ فَلِذا صَرَّحَ الأئِمَّةُ بِأنَّ آمَنتُ بِالَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ لا يَحْصُلُ الإيمانُ لِلِاحْتِمالِ فَكَذا ما قالَهُ وعَلى التَّنَزُّلِ فالإجْماعُ مُنْعَقِدٌ عَلى أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ تَعالى مَعَ عَدَمِ الإيمانِ بِالرَّسُولِ لا يَصِحُّ فَلَوْ سَلَّمْنا أنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاللَّهِ تَعالى إيمانًا صَحِيحًا فَهو لَمْ يُؤْمِن بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولا تَعَرَّضَ لَهُ أصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمانُهُ نافِعًا ألا تَرى أنَّ الكافِرَ لَوْ قالَ أُلُوفًا مِنَ المَرّاتِ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ أوْ إلّا الَّذِي آمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتّى يَقُولَ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. (p-188)والسَّحَرَةُ تَعَرَّضُوا في إيمانِهِمْ لِلْإيمانِ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِمْ: آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ رَبِّ مُوسى وهارُونَ فَلا يُقالُ: إنَّ إيمانَ فِرْعَوْنَ عَلى طَرْزِ إيمانِهِمْ لِذَلِكَ عَلى أنَّ إيمانَهم حِينَ آمَنُوا كانَ بِمُعْجِزَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ والإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى مَعَ الإيمانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ إيمانٌ بِالرَّسُولِ فَهم آمَنُوا بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِخِلافِ فِرْعَوْنَ فَإنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإيمانِ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ أصْلًا بَلْ في ذِكْرِهِ بَنِي إسْرائِيلَ دُونَهُ مَعَ أنَّهُ الرَّسُولُ العارِفُ بِالإلَهِ وما يَلِيقُ بِهِ والهادِي إلى طَرِيقِهِ إشارَةٌ ما إلى بَقائِهِ عَلى كُفْرِهِ بِهِ وما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في تَوْجِيهِ آيَةِ ﴿حَتّى إذا أدْرَكَهُ الغَرَقُ﴾ إلَخْ خارِجٌ عَنْ ذَوْقِ الكَلامِ العَرَبِيِّ وتَجَشُّمُ تَكَلُّفٍ لا مَعْنى لَهُ ويُرْشِدُكَ إلى بَعْضِ ذَلِكَ أنَّهُ قُدِّسَ سِرُّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿آلآنَ وقَدْ عَصَيْتَ﴾ إلَخْ عَلى العَتَبِ والبُشْرى مَعَ أنَّهُ لا يَخْفى أنَّهُ لَوْ صَحَّ إيمانُهُ وإسْلامُهُ لَكانَ الأنْسَبَ بِمَقامِ الفَضْلِ الَّذِي إلَيْهِ طَمَحَ نَظَرُ الشَّيْخِ أنْ يُقالَ لَهُ: الآنَ نَقْبَلُكَ ونُكْرِمُكَ لِاسْتِلْزامِ صِحَّةِ إيمانِهِ رِضا الحَقِّ عَنْهُ ومَن وقَعَ لَهُ الرِّضا لا يُخاطَبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الخِطابِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ وُقُوفٌ عَلى أسالِيبِ كَلامِ العَرَبِ ومُحاوَراتِهِمْ وأيْضًا كَيْفَ يُخاطَبُ مَن مَحا الإيمانُ عِصْيانَهُ وإفْسادَهُ بِما هو ظاهِرٌ في التَّأْنِيبِ المَحْضِ والتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ والتَّوْبِيخِ البَحْتِ فَما ذَلِكَ إلّا لِإقامَةِ أعْظَمِ نَوامِيسِ الغَضَبِ عَلَيْهِ وتَذْكِيرِهِ بِقَبائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَها وإعْلامِهِ بِأنَّها هي الَّتِي مَنَعَتْهُ عِنْدَ النُّطْقِ بِالإيمانِ إلى حَيْثُ لا يَنْفَعُهُ وكَذا تَأْوِيلُهُ فَلَمْ يَكْ يَنْفَعُهم إيمانُهم بِأنَّ النّافِعَ هو اللَّهُ تَعالى مَعَ أنَّ اصْطِلاحَ الكِتابِ والسُّنَّةِ نِسْبَةُ الأشْياءِ إلى أسْبابِها إيجابًا وسَلْبًا فَإذا قِيلَ: لا يَنْفَعُ الإيمانُ فَلَيْسَ مَعْناهُ الشَّرْعِيُّ إلّا الحُكْمَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ باطِلٌ لا يُعْتَدُّ بِهِ وأيُّ مَعْنًى سَوَّغَ تَخْصِيصَ نَفْعِ اللَّهِ تَعالى بِهَذِهِ الَّتِي هي حالَةُ وُقُوعِ العَذابِ مَعَ النَّظَرِ إلى ما هو الواقِعُ مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى هو النّافِعُ حَقِيقَةً في كُلِّ وقْتٍ ولَوْ نَفَعَهم لَما اسْتَأْصَلَهم بِالعَذابِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلُونَ﴾ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم أنَّهم باقُونَ مَعَ ذَلِكَ الإيمانِ عَلى الكُفْرِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يَخْفى عَلى النّاظِرِ في كَلامِهِ قُدِّسَ سِرُّهُ فالَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ ما ذَهَبَ أوَّلًا إلَيْهِ وقَدْ قالُوا: إذا اخْتَلَفَ كَلامُ إمامٍ يُؤْخَذُ مِنهُ بِما يُوافِقُ الأدِلَّةَ الظّاهِرَةُ ( ويُعْرَضُ عَمّا خالَفَها ولا شَكَّ أنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أوَّلًا هو المُوافِقُ لِذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدِّسَ سِرُّهُ إلّا القَوْلُ بِقَبُولِ إيمانِهِ لا يَلْزَمُنا اتِّباعُهُ في ذَلِكَ والأخْذُ بِهِ لِمُخالَفَتِهِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الكِتابُ والسُّنَّةُ وشَهِدَتْ بِهِ أئِمَّةُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ فَمَن بَعْدَهم مِنَ المُجْتَهِدِينَ وجَلالَةُ قائِلِهِ لا تُوجِبُ القَبُولَ فَقَدْ قالَ مالِكٌ وغَيْرُهُ: ما مِن أحَدٍ إلّا مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ ومَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلّا صاحِبَ هَذا القَبْرِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: لا تَنْظُرْ إلى مَن قالَ وانْظُرْ إلى ما قالَ وكَأنَّ الشَّيْخَ قُدِّسَ سِرُّهُ قالَ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ والنَّظَرُ يُخْطِئُ ويُصِيبُ ومَن عَلِمَ أنَّ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اجْتِهادًا جاءَ الوَحْيُ بِخِلافِهِ لَمْ يَسْتَعْظِمْ ما قِيلَ في الشَّيْخِ وإنْ كانَ هو - هو - عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ قالَ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ الكَشْفِ إلّا أنَّهُ أبْدى الِاسْتِدْلالَ تَفْهِيمًا وإرْشادًا إلى أنَّ فَهْمَهُ لَمْ يُخالِفْ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الكِتابُ لَمْ يَلْزَمْنا أيْضًا تَقْلِيدُهُ بَلْ قَدْ مَرَّ عَنِ الإمامِ الرَّبّانِيِّ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّهُ لا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الكَشْفِ وصَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ بِأنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلى الغَيْرِ كالإلْهامِ ولا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وأنْتَ تُعْلَمُ أنَّهُ لَوْ كانَ كُلٌّ مِنَ القَوْلَيْنِ مِن طَرِيقِ الكَشْفِ يَلْزَمُ انْقِسامُ الكَشْفِ إلى صَوابٍ وخَطَأٍ كالنَّظَرِ ضَرُورَةَ عَدَمِ اجْتِماعِ الإيجابِ والسَّلْبِ عَلى الكَذِبِ ولا عَلى الصِّدْقِ وهو ظاهِرٌ وقَدْ قالَ بَعْضُهُمْ: بِالِانْقِسامِ ويَخْفى وجْهَهُ ومِنَ النّاسِ مَن أوَّلَ كَلامَ الشَّيْخِ المُثْبِتَ لِقَبُولِ الإيمانِ بِأنَّ المُرادَ بِفِرْعَوْنَ فِيهِ النَّفْسُ (p-189)الأمّارَةُ وبِمُوسى وهارُونَ المَأْمُورَيْنِ بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ مُوسى الرُّوحُ وهارُونُ القَلْبُ وأخَذَ يُقَرِّرُ الكَلامَ عَلى هَذا السَّنَنِ ولا يَخْفى أنَّ ارْتِكابَ ذَلِكَ عَلى ما فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الظّاهِرِ الكَلَفِ في كَلامِ الشَّيْخِ ما يَأْباهُ ولَعَلَّهُ خِلافُ مَطْمَحِ نَظَرِهِ ولِذَلِكَ لَمْ يَرْتَكِبْهُ أجِلَّةُ أصْحابِهِ بَلْ أبْقَوْا كَلامَهُ عَلى ظاهِرِهِ وهو الظّاهِرُ وإكْفارُ بَعْضِ المُنْكِرِينَ لَهُ فِيهِ ضَلالٌ وأيُّ ضَلالٍ وظُلْمٍ عَظِيمٍ مُوجِبٍ لِلنَّكالِ فَإنَّ لَهُ قُدِّسَ سِرُّهُ في ذَلِكَ مُسْتَنَدًا كَغَيْرِهِ المُقابِلِ لَهُ وإنِ اخْتَلَفا في القُوَّةِ والضَّعْفِ عَلى أنَّ الوُقُوفَ عَلى حَقِيقَةِ هَذِهِ المَسْألَةِ لَيْسَ مِمّا كُلِّفْنا بِهِ فَلا يَضُرُّ الجَهْلُ بِها في الدِّينِ واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب