الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بِما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ ويَنْدَرِجُ فِيهِ الإيمانُ بِالآياتِ الَّتِي غَفَلَ عَنْها الغافِلُونَ انْدِراجًا أوَّلِيًّا وقَدْ يَخُصُّ المُتَعَلِّقَ بِذَلِكَ نَظَرًا لِلْمَقامِ ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ أيِ الأعْمالَ الصّالِحَةَ في أنْفُسِها اللّائِقَةِ بِالإيمانِ وتَرَكَ ذِكْرَ المَوْصُوفِ لِجَرَيانِ الصِّفَةِ مَجْرى الأسْماءِ ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ أيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إيمانِهِمْ إلى مَأْواهم ومَقْصِدِهِمْ وهي الجَنَّةُ وإنَّما تُذْكَرُ تَعْوِيلًا عَلى ظُهُورِها وانْسِياقِ النَّفْسِ إلَيْها لا سِيَّما مَعَ مُلاحَظَةِ ما سَبَقَ مِن بَيانِ مَأْوى الكَفَرَةِ وما أدّاهم إلَيْهِ مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ ومُشاهَدَةِ ما لَحِقَ مِنَ التَّلْوِيحِ والتَّصْرِيحِ. (p-74)والمُرادُ بِهَذا الإيمانِ الَّذِي جُعِلَ سَبَبًا لَمّا ذُكِرَ الإيمانُ الخاصُّ المَشْفُوعُ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ لا المُجَرَّدُ عَنْها ولا ما هو الأعَمُّ ولا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَطِحَ في ذَلِكَ كَبْشانِ والآيَةُ عَلَيْهِ بِمَعْزِلٍ عَنِ الدَّلالَةِ عَلى خِلافِ ما عَلَيْهِ الجَماعَةُ مِن أنَّ الإيمانَ الخالِيَ عَنِ العَمَلِ الصّالِحِ يُفْضِي إلى الجَنَّةِ في الجُمْلَةِ ولا يُخَلَّدُ صاحِبُهُ في النّارِ فَإنَّ مَنطُوقَها أنَّ الإيمانَ المَقْرُونَ بِالعَمَلِ الصّالِحِ سَبَبٌ لِلْهِدايَةِ إلى الجَنَّةِ وأمّا أنْ كَلَّ ما هو سَبَبٌ لَها يَجِبُ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَلا دَلالَةَ لَها ولا لِغَيْرِها عَلَيْهِ كَيْفَ لا وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ﴾ مُنادٍ بِخِلافِهِ بِناءً عَلى ما أطْبَقُوا عَلَيْهِ مِن تَفْسِيرِ الظُّلْمِ بِالشِّرْكِ ولَئِنْ حُمِلَ عَلى ظاهِرِهِ أيْضًا يَدْخُلُ في الِاهْتِداءِ مَن آمَنَ ولَمْ يَعْمَلْ صالِحًا ثُمَّ ماتَ قَبْلَ أنْ يَظْلِمَ بِفِعْلٍ حَرامٍ أوْ بِتَرْكِ واجِبٍ وإلى حَمْلِ الإيمانِ عَلى ما قُلْنا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وقالَ: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ المُعْتَبَرَ في الهِدايَةِ إلى الجَنَّةِ هو الإيمانُ المُقَيَّدُ بِالعَمَلِ الصّالِحِ ووَجَّهَ ذَلِكَ بِأنَّهُ جَعَلَ فِيها الصِّلَةَ مَجْمُوعَ الأمْرَيْنِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ ثُمَّ قِيلَ: بِإيمانِهِمْ أيْ هَذا المَضْمُومِ إلَيْهِ العَمَلُ الصّالِحُ وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ ذَلِكَ مِنهُ مَبْنِيٌّ عَلى الِاعْتِزالِ وخُلُودِ غَيْرِ الصّالِحِ في النّارِ ثُمَّ قالَ إنَّهُ لا دِلالَةَ في الآيَةِ عَلى ما ذَكَرَهُ لِأنَّهُ جَعَلَ سَبَبَ الهِدايَةِ إلى الجَنَّةِ مُطْلَقُ الإيمانِ وأمّا أنَّ إضافَتَهُ الى ضَمِيرِ الصّالِحِينَ يَقْتَضِي أخْذَ الصَّلاحِ قَيْدًا في التَّسَبُّبِ فَمَمْنُوعٌ فَإنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلى الذَّواتِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الصِّفاتِ وأيْضًا فَإنَّ كَوْنَ الصِّلَةِ عِلَّةً لِلْخَبَرِ بِطَرِيقِ المَفْهُومِ فَلا يُعارِضُ السَّبَبَ الصَّرِيحَ المَنطُوقَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خَبَرٍ عَنِ المَوْصُولِ يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ ألا تَرى أنَّ نَحْوَ الَّذِي كانَ مَعَنا بِالأمْسِ فَعَلَ كَذا خالٍ عَمّا يَذْكُرُونَهُ في نَحْوِ الَّذِي يُؤْمِنُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وانْتَصَرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ بِأنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ ظاهِرٌ في أنَّهُما السَّبَبُ والتَّصْرِيحُ بِسَبَبِيَّةِ الإيمانِ المُضافِ إلى ضَمِيرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالتَّنْصِيصِ عَلى أنَّهُ ذَلِكَ الإيمانُ المَقْرُونُ بِما مَعَهُ لا المُطْلَقُ لَكِنَّهُ ذُكِرَ لِأصالَتِهِ وزِيادَةِ شَرَفِهِ ولا يَلْزَمُ عَلى هَذا اسْتِدْراكُ ذِكْرِهِ ولا اسْتِقْلالُهُ بِالسَّبَبِيَّةِ وفِيهِ رَدٌّ عَلى القاضِي البَيْضاوِيِّ حَيْثُ ادَّعى أنَّ مَفْهُومَ التَّرْتِيبِ وإنْ دَلَّ عَلى أنَّ سَبَبَ الهِدايَةِ الإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ لَكِنَّ مَنطُوقَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿بِإيمانِهِمْ﴾ دَلَّ عَلى اسْتِقْلالِ الإيمانِ ومَنَعَ في الكَشْفِ أيْضًا كَوْنَ المَنطُوقِ ذَلِكَ وفَرْعِهِ عَلى كَوْنِ الِاسْتِدْلالِ مِن جَعْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ واقِعَيْنِ في الصِّلَةِ لِيَجْرِيا مَجْرى العِلَّةِ ثُمَّ لَمّا أُعِيدَ الإيمانُ مُضافًا كانَ إشارَةً إلى الإيمانِ المَقْرُونِ لَمّا ثَبَتَ أنَّ اسْتِعْمالَ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ حَيْثُ مَعْهُودٌ والمَعْهُودُ السّابِقُ هو هَذا والأصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ ثُمَّ قالَ: ولَوْ سَلِمَ أنَّ المَنطُوقَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لِأنَّ العَمَلَ يُعَدُّ شَرْطًا حِينَئِذٍ جَمْعًا بَيْنَ المَنطُوقِ والمَفْهُومِ بِقَدْرِ الإمْكانِ فَلَمْ يَلْغِ اقْتِرانَ العَمَلِ ولا دَلالَةَ السَّبَبِيَّةِ وهَذا فائِدَةُ إفْرادِهِ بِالذِّكْرِ ثانِيًا مَعَ ما فِيهِ مِنَ الأصالَةِ وزِيادَةِ الشَّرَفِ ولا مُخالِفَ لَهُ مِنَ الجَماعَةِ لِأنَّ العُصاةَ غَيْرُ مَهْدِيِّينَ وأمّا أنَّ كُلَّ مَن لَيْسَ مُهْتَدِيًا فَهو خالِدٌ في النّارِ فَهو مَمْنُوعٌ غايَةَ المَنعِ انْتَهى (وفِي القَلْبِ) مِن هَذا المَنعِ شَيْءٌ والأوْلى التَّعْوِيلُ عَلى ما قَدَّمْناهُ في تَقْرِيرِ كَوْنِ الآيَةِ بِمَعْزِلٍ عَنِ الدَّلالَةِ عَلى خِلافِ ما عَلَيْهِ الجَماعَةُ والهِدايَةُ عَلى هَذا الوَجْهِ يُحْتَمَلُ أنْ تُفَسَّرَ بِالدَّلالَةِ المُوصِلَةِ إلى البُغْيَةِ وبِمُجَرَّدِ الدَّلالَةِ والمُخْتارِ الأوَّلِ واخْتارَ الثّانِيَ مَن قالَ: إنَّ المَعْنى يَهْدِيهِمْ طَرِيقَ الجَنَّةِ بِنُورِ إيمانِهِمْ وذَلِكَ إمّا عَلى تَقْدِيرِ المُضافِ أوْ عَلى أنَّ إيمانَهم يُظْهِرُ نُورًا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وقِيلَ: إنَّ المَعْنى يُسَدِّدُهم بِسَبَبِ إيمانِهِمْ لِلِاسْتِقامَةِ عَلى سُلُوكِ السَّبِيلِ المُؤَدِّي إلى الثَّوابِ والهِدايَةِ عَلَيْهِ بِالمَعْنى الأوَّلِ وقِيلَ: المُرادُ يَهْدِيهِمْ إلى إدْراكِ حَقائِقِ الأُمُورِ فَتَنْكَشِفُ لَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ وأيًّا ما كانَ فالِالتِفاتُ في (p-75)قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿رَبُّهُمْ﴾ لِتَشْرِيفِهِمْ بِإضافَةِ الرَّبِّ إلَيْهِمْ مَعَ الإشْعارِ بِعِلَّةِ الهِدايَةِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ أيْ مِن تَحْتِ مَنازِلِهِمْ أوْ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمُ اسْتِئْنافٌ نَحْوِيٌّ أوْ بَيانِيٌّ فَلا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ أوْ خَبَرٌ ثانٍ لَإنَّ فَمَحَلُهُ الرَّفْعُ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِن مَفْعُولِ ﴿يَهْدِيهِمْ﴾ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المَهْدِيِّ إلَيْهِ ما يُرِيدُونَهُ في الجَنَّةِ كَما قالَ أبُو البَقاءِ وإنْ جُعِلَ حالًا مُنْتَظِرَةً لَمْ يُحْتَجْ إلى القَوْلِ بِهَذا التَّقْدِيرِ لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ والزَّمَخْشَرِيُّ لَمّا فَسَّرَ ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ﴾ بِيُسَدِّدُهم إلَخْ جَعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ بَيانًا لَهُ وتَفْسِيرًا لِأنَّ التَّمَسُّكَ بِسَبَبِ السَّعادَةِ كالوُصُولِ إلَيْها ولا يَخْفى أنَّ سَبِيلَ هَذا البَيانِ سَبِيلُ البَدَلِ وبِذَلِكَ صَرَّحَ الطِّيبِيُّ وحِينَئِذٍ فَمَحَلُّها الرَّفْعُ لِأنَّهُ مَحَلُّ الجُمْلَةِ المُبْدَلِ مِنها وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ 9﴾ خَبَرٌ آخَرُ أوْ حالٌ أُخْرى مِن مَفْعُولِ ﴿يَهْدِيهِمْ﴾ فَتَكُونُ حالًا مُتَرادِفَةً أوْ مِنَ ﴿الأنْهارُ﴾ فَتَكُونُ مُتَداخِلَةً أوْ مُتَعَلِّقٌ بِتَجْرِي أوْ بِيَهْدِي والمُرادُ عَلى ما قِيلَ بِالمَهْدِيِّ إلَيْهِ إمّا مَنازِلُهم في الجَنَّةِ أوْ ما يُرِيدُونَهُ فِيها
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب