الباحث القرآني
﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ التِفاتٌ ورُجُوعٌ إلى (p-139)اسْتِمالَتِهِمْ نَحْوَ الحَقِّ واسْتِنْزالِهِمْ إلى قَبُولِهِ واتِّباعِهِ غَبَّ تَحْذِيرِهِمْ مِن غَوائِلِ الضَّلالِ بِما تَلا عَلَيْهِمْ مِنَ القَوارِعِ وإيذانٌ بِأنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَسُوقٌ لِمَصالِحِهِمْ وهَذا وجْهُ الرَّبْطِ بِما تَقَدَّمَ وقالَ أبُو حِبّانَ في ذَلِكَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الأدِلَّةَ عَلى الأُلُوهِيَّةِ والوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ ذَكَرَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ والطَّرِيقَ المُؤَدِّيَ إلَيْها وهو المُتَّصِفُ بِهَذِهِ الأوْصافِ والأوَّلُ أوْلى ولا يَأْباهُ عُمُومُ الخِطابِ كَما هو الظّاهِرُ واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ خِلافًا لِمَن جَعَلَهُ خاصًّا بِقُرَيْشٍ والمَوْعِظَةُ كالوَعْظِ والعِظَةُ تَذْكِيرُ ما يُلَيِّنُ القَلْبَ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ وقِيلَ: زَجْرٌ مُقْتَرِنٌ بِتَخْوِيفٍ والشِّفاءُ الدَّواءُ ويُجْمَعُ عَلى أشْفِيَةٍ وجَمْعُ الجَمْعِ أشافِيُّ والهُدى مَعْلُومٌ مِمّا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ والرَّحْمَةُ الإحْسانُ أوْ إرادَتُهُ أوْ صِفَةُ غَيْرِهِما لائِقَةٌ بِمَن قامَتْ بِهِ و﴿مِن رَبِّكُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِجاءَ و(مِن) ابْتِدائِيَّةٌ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمَوْعِظَةٌ و(مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ مَوْعِظَةٍ مِن مَواعِظِ رَبِّكم و﴿لِما﴾ إمّا مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ واللّامُ مُقَوِّيَةٌ وإمّا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ نَعْتًا لَهُ وكَذا يُقالُ عَلى ما قِيلَ فِيما بَعْدُ والمُرادُ قَدْ جاءَكم كِتابٌ جامِعٌ لِهَذِهِ الفَوائِدِ والمَنافِعِ كاشِفٌ عَنْ أحْوالِ الأعْمالِ حَسَناتِها وسَيِّئاتِها مُرَغِّبٌ في الأُولى ورادِعٌ عَنِ الأُخْرى ومُبَيِّنٌ لِلْمَعارِفِ الحَقَّةِ المُزِيلَةِ لِأدْواءِ الشُّكُوكِ وسُوءِ مِزاجِ الِاعْتِقادِ وهادٍ إلى طَرِيقِ الحَقِّ واليَقِينِ بِالإرْشادِ إلى الِاسْتِدْلالِ بِالدَّلائِلِ الآفاقِيَّةِ والأنْفُسِيَّةِ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ نَجَوْا بِهِ مِن ظُلُماتِ الكُفْرِ والضَّلالِ إلى نُورِ الإيمانِ وتَخَلَّصُوا مِن دَرَكاتِ النِّيرانِ وارْتَقَوْا إلى دَرَجاتِ الجِنانِ. قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ في ذَلِكَ إشارَةً إلى أنَّ لِلنَّفْسِ الإنْسانِيَّةِ مَراتِبَ كَمالٍ مَن تَمَسَّكَ بِالقُرْآنِ فازَ بِها أحَدُها تَهْذِيبُ الظّاهِرِ عَنْ فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي وإلْيِهِ الإشارَةُ (بِالمَوْعِظَةِ) بِناءً عَلى أنَّ فِيها الزَّجْرَ عَنِ المَعاصِي وثانِيها تَهْذِيبُ الباطِنِ عَنِ العَقائِدِ الفاسِدَةِ والمَلَكاتِ الرِّدْيَةِ وإلَيْهِ الإشارَةُ (بِشِفاءٍ لِما في الصُّدُورِ) وثالِثُها تَحَلِّي النَّفْسِ بِالعَقائِدِ الحَقَّةِ والأخْلاقِ الفاضِلَةِ ولا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلّا بِالهُدى ورابِعُها تَجَلِّي أنْوارِ الرَّحْمَةِ الإلَهِيَّةِ وتَخْتَصُّ بِالنُّفُوسِ الكامِلَةِ المُسْتَعِدَّةِ بِما حَصَلَ لَها مِنَ الكَمالِ الظّاهِرِ والباطِنِ لِذَلِكَ وقالَ الإمامُ: المَوْعِظَةُ إشارَةٌ إلى تَطَهُّرِ ظَواهِرِ الخَلْقِ عَمّا لا يَنْبَغِي وهو الشَّرِيعَةُ والشِّفاءُ إلى تَطَهُّرِ الأرْواحِ عَنِ العَقائِدِ الفاسِدَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ وهو الطَّرِيقَةُ والهُدى إلى ظُهُورِ الحَقِّ في قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ وهو الحَقِيقَةُ والرَّحْمَةُ إلى بُلُوغِ الكَمالِ والإشْراقِ حَتّى يُكْمِلَ غَيْرَهُ ويُفِيضَ عَلَيْهِ وهو النُّبُوَّةُ والخِلافَةُ فَهَذِهِ دَرَجاتٌ لا يُمْكِنُ فِيها تَقْدِيمٌ ولا تَأْخِيرٌ ولا يَخْفى أنَّ هَذا خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا والَّذِي يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ كَوْنُ المَذْكُوراتِ أوْصافًا لِلْقُرْآنِ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ سَبَبًا وآلَةً لَها وجُعِلَتْ عَيْنَهُ مُبالَغَةً وبَيْنَها تَلازُمٌ في الجُمْلَةِ والتَّنْكِيرُ فِيها لِلتَّفْخِيمِ والهِدايَةُ إنْ أُخِذَتْ بِمَعْنى الدَّلالَةِ مُطْلَقًا فَعامَّةٌ أوْ بِمَعْنى الدَّلالَةِ المَوْصُولَةِ فَخاصَّةٌ وحِينَئِذٍ يَكُونُ ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قَيْدُ الأمْرَيْنِ ويُؤَيِّدُ تَقْيِيدَ الهُدى بِذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فالقُرْآنُ واعِظٌ بِما فِيهِ مِنَ التَّرْهِيبِ والتَّرْغِيبِ أوْ بِما فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ المَعاصِي كَيْفَما كانَتِ المُقْتَرَنَ بِالتَّخْوِيفِ فَقَطْ بِناءً عَلى التَّفْسِيرِ الثّانِي لِلْمَوْعِظَةِ وشافٍ لِما في الصُّدُورِ مِنَ الأدْواءِ المُفْضِيَةِ إلى الهَلاكِ كالجَهْلِ والشَّكِّ والشِّرْكِ والنِّفاقِ وغَيْرِها ومُرْشِدٌ بِبَيانِ ما يَلِيقُ وما لا يَلِيقُ إلى ما فِيهِ النَّجاةُ والفَوْزُ بِالنَّعِيمِ الدّائِمِ أوْ مُوَصِّلٌ إلى ذَلِكَ وسَبَبُ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وامْتَثَلُوا ما فِيهِ مِنَ الأحْكامِ وأمّا إذا ارْتُكِبَ خِلافُ الظّاهِرِ فَيُقالُ غَيْرُ ما قِيلَ أيْضًا مِمّا سَتَراهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في بابِ الإشارَةِ واسْتُدِلَّ كَما قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ القُرْآنَ يَشْفِي مِنَ الأمْراضِ البَدَنِيَّةِ كَما يَشْفِي مِنَ الأمْراضِ القَلْبِيَّةِ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقالَ: (p-140)إنِّي أشْتَكِي صَدْرِي فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: اقْرَأِ القُرْآنَ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى شِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ» وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ واثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ «أنَّ رَجُلًا شَكا إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وجَعَ حَلْقِهِ فَقالَ: عَلَيْكَ بِقِراءَةِ القُرْآنِ» . وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِها عَلى ذَلِكَ مِمّا لا يَكادُ يَسْلَمُ والخَبَرُ الثّانِي لا يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أكْثَرُ مِن أمْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الشّاكِيَ بِقِراءَةِ القُرْآنِ إرْشادًا لَهُ إلى ما يَنْفَعُهُ ويَزُولُ بِهِ وجَعُهُ ونَحْنُ لا نُنْكِرُ أنَّ لِقِراءَةِ القُرْآنِ بَرَكَةً قَدْ يَذْهَبُ اللَّهُ تَعالى بِسَبَبِها الأمْراضَ والأوْجاعَ وإنَّما نُنْكِرُ الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ عَلى ذَلِكَ والخَبَرُ الأوَّلُ وإنْ كانَ ظاهِرًا في المَقْصُودِ لَكِنْ يَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ كَأنْ يُقالَ: لَعَلَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ اطَّلَعَ عَلى أنَّ في صَدْرِ الرَّجُلِ مَرَضًا مَعْنَوِيًّا قَلْبِيًّا قَدْ صارَ سَبَبًا لِلْمَرَضِ الحِسِّيَّ البَدَنِيِّ فَأمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِقِراءَةِ القُرْآنِ لِيَزُولَ عَنْهُ الأوَّلُ فَيَزُولُ الثّانِي ولا يُسْتَبْعَدُ كَوْنُ بَعْضِ الأمْراضِ القَلْبِيَّةِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِبَعْضِ الأمْراضِ القالَبِيَّةِ فَإنّا نَرى أنَّ نَحْوَ الحَسَدِ والحِقْدِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِذَلِكَ ومِن كَلامِهِمْ لِلَّهِ تَعالى دَرُّ الحَسَدِ ما أعْدَلَهُ بَدَأ بِصاحِبِهِ فَقَتَلَهُ: وهَذا أوْلى مِن إخْراجِ الكَلامِ مَخْرَجَ الأُسْلُوبِ الحَكِيمِ
والحَسَنُ البَصْرِيُّ يُنْكِرُ كَوْنَ القُرْآنِ شِفاءً لِلْأمْراضِ فَقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ القُرْآنَ شِفاءً لِما في الصُّدُورِ ولَمْ يَجْعَلْهُ شِفاءً لِأمْراضِكم والحَقُّ ما ذَكَرْنا
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم مَّوۡعِظَةࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَاۤءࣱ لِّمَا فِی ٱلصُّدُورِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق