الباحث القرآني

﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً﴾ كالصِّحَّةِ والسَّعَةِ ﴿مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾ أيْ خالَطَتْهم حَتّى أحَسُّوا بِسُوءِ أثَرِها فِيهِمْ وإسْنادُ المِساسِ إلى الضَّرّاءِ بَعْدَ إسْنادِ الإذاقَةِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ مِنَ الآدابِ القُرْآنِيَّةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ ونَظائِرِهِ ويَنْبَغِي التَّأدُّبُ في ذَلِكَ فَفي الخَبَرِ: اللَّهُمَّ إنَّ الخَيْرَ بِيَدَيْكَ والشَّرَّ لَيْسَ إلَيْكَ. والمُرادُ بِالنّاسِ كُفّارُ مَكَّةَ عَلى ما قِيلَ لِما رُوِيَ أنَّ اللَّهَ تَعالى سَلَّطَ عَلَيْهِمُ القَحْطَ سَبْعَ سِنِينَ حَتّى كادُوا يَهْلِكُونَ فَطَلَبُوا مِنهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَدْعُوَ لَهم بِالخِصْبِ ووَعَدُوهُ بِالإيمانِ فَلَمّا دَعا لَهم ورَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالحَياءِ طَفِقُوا يَطْعَنُونَ في آياتِهِ تَعالى ويُعانِدُونَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويَكِيدُونَهُ وذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إذا لَهم مَكْرٌ في آياتِنا﴾ أيْ بِالطَّعْنِ فِيها وعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِها والِاحْتِيالِ في دَفْعِها والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالآياتِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ وقِيلَ: المُرادُ بِها الآياتُ التَّكْوِينِيَّةُ كَإنْزالِ الحَياءِ ومَكْرُهم فِيها إضافَتُها إلى الأصْنامِ والكَواكِبِ وقِيلَ: إنَّ ﴿النّاسَ﴾ عامٌّ لِجَمِيعِ الكُفّارِ ولا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلى ما يَشْمَلُ العُصاةَ كَما لا يَخْفى وكانَتِ العَرَبُ تُضِيفُ الأمْطارَ وكَذا الرِّياحُ والحَرُّ والبَرْدُ إلى الأنْواءِ وهو جَمِيعُ نَوْءٍ مَصْدَرُ ناءَ يَنُوءُ إذا نَهَضَ بِجَهْدٍ ومَشَقَّةٍ ويُقالُ ذَلِكَ أيْضًا إذا سَقَطَ فَهو مِنَ الأضْدادِ ويُطْلَقُ عَلى النَّجْمِ الَّذِي هو أحَدُ المَنازِلِ الثَّمانِيَةِ والعِشْرِينَ الَّتِي ذَكَّرْناها فِيما سَبَقَ وهو المُرادُ في كَلامِهِمْ إلّا أنَّ الإضافَةَ إلَيْهِ بِاعْتِبارِ سُقُوطِهِ مَعَ الفَجْرِ وغُرُوبِهِ كَما هو المَشْهُورُ أوْ بِاعْتِبارِ طُلُوعِهِ ذَلِكَ الوَقْتَ كَما قالَ الأصْمَعِيُّ وقَدْ عُدَّ القائِلُ بِتَأْثِيرِ الأنْواءِ كافِرًا فَقَدْ رَوى الشَّيْخانِ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خالِدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «قالَ اللَّهُ تَعالى: أصْبَحَ مِن عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ بِالكَوْكَبِ وكافِرٌ بِي ومُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ فَأمّا مَن قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأمّا مَن قالَ مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وكَذا فَذَلِكَ كافِرٌ بِي ومُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ». ولَعَلَّ كَوْنَ ذَلِكَ مِنَ الكُفْرِ بِاللَّهِ تَعالى مَبْنِيٌّ عَلى زَعْمِ أنَّ لِلْكَواكِبِ تَأْثِيرًا اخْتِيارِيًّا ذاتِيًّا في ذَلِكَ وإلّا فاعْتِقادُ أنَّ التَّأْثِيرَ عِنْدَها لا بِها كَما هو المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ الأشاعِرَةِ في سائِرِ الأسْبابِ لَيْسَ بِكُفْرٍ كَما نَصَّ عَلَيْهِ العَلّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ وكَذا اعْتِقادُ أنَّ التَّأْثِيرَ بِها عَلى مَعْنى (p-94)أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْدَعَ فِيها قُوَّةً مُؤَثِّرَةً بِإذْنِهِ فَمَتى شاءَ سُبْحانَهُ أثَّرَتْ ومَتى لَمْ يَشَأْ لَمْ تُؤَثِّرْ كَما هو مَذْهَبُ السَّلَفِ في الأسْبابِ عَلى ما قَرَّرَهُ الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ في مَسْلَكِ السَّدادِ ولَوْ كانَ نِسْبَةُ التَّأْثِيرِ مُطْلَقًا إلى الأنْواءِ ونَحْوِها مِنَ العَلَوِيّاتِ كُفْرًا لاتَسْعَ الخَرْقُ ولَزِمَ إكْفارُ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ حَتّى أفاضِلِهِمْ لِقَوْلِهِمْ بِنِسْبَةِ الكَثِيرِ مِن عالِمِ الكَوْنِ والفَسادِ إلى العُلْوِيّاتِ ويُسَمُّونَها بِالآباءِ العُلْوِيَّةِ وقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ بِأنَّ لِلْكَواكِبِ السَّيّاراتِ وغَيْرِها تَأْثِيرًا في هَذا العالِمِ إلّا أنَّ الوُقُوفَ عَلى تَعْيِينِ جُزْئِيّاتِهِ مِمّا لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلّا أرْبابُ الكَشْفِ والأرْصادِ القَلْبِيَّةِ ولَيْسَ مُرادُهُ قُدِّسَ سِرُّهُ وكَذا مُرادُ مَن أطْلَقَ التَّأْثِيرَ إلّا ما ذَهَبَ إلَيْهِ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ في الأسْبابِ وحاشا ثُمَّ حاشا أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الأفاضِلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أنَّ في الوُجُودِ مُؤَثِّرًا غَيْرَ اللَّهِ تَعالى بَلْ مَن وقَفَ عَلى حَقِيقَةِ كَلامِ الحُكَماءِ الَّذِينَ هم بِمَعْزِلٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ الغَرّاءِ وجَدَهم مُتَّفِقِينَ عَلى أنَّ الوُجُودَ مَعْلُولٌ لَهُ تَعالى عَلى الإطْلاقِ وقالَ بِهْمِنيارُ في التَّحْصِيلِ فَإنْ سُئِلَتِ الحَقَّ فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ عِلَّةُ الوُجُودِ إلّا ما هو بَرِيءٌ مِن كُلِّ وجْهٍ مِن مَعْنى ما بِالقُوَّةِ وهَذا هو المَبْدَأُ الأوَّلُ لا غَيْرُ وما نُقِلَ عَنْ أفْلاطُونَ مِن قَوْلِهِ: إنَّ العالَمَ كُرَةٌ والأرْضَ مَرْكَزٌ والإنْسانَ هَدَفٌ والأفْلاكَ قِسِيٌّ والحَوادِثَ سِهامٌ واللَّهُ تَعالى هو الرّامِي فَأيْنَ المَفَرُّ يُشْعِرُ بِذَلِكَ أيْضً (نَعَمْ) إنَّهم قالُوا بِالشَّرائِطِ العَقْلِيَّةِ وهي المُرادُ بِالوَسائِطِ في كَلامِ بَعْضِهِمْ وهو خِلافُ المَذْهَبِ الحَقِّ وبِالجُمْلَةِ لا يَكْفُرُ مَن قالَ: إنَّ الكَواكِبَ مُؤَثِّرَةٌ عَلى مَعْنى أنَّ التَّأْثِيرَ عِنْدَها أوْ بِها بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَن قالَ: إنَّ النّارَ مُحْرِقَةٌ والماءَ مُرْوٍ مَثَلًا ولا فَرْقَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ إلّا بِما عَسى أنْ يُقالَ: إنَّ التَّأْثِيرَ في نَحْوِ النّارِ والماءِ أمْرٌ مَحْسُوسٌ مُشاهَدٌ والتَّأْثِيرَ في الكَواكِبِ لَيْسَ كَذَلِكَ والقَوْلُ بِهِ رَجْمٌ بِالغَيْبِ لَكِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لا يُوجِبُ كَوْنَ أحَدِ القَوْلَيْنِ كُفْرًا دُونَ الآخَرِ كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ ومَعَ هَذا الأحْوَطُ عَدَمُ إطْلاقِ نِسْبَةِ التَّأْثِيرِ إلى الكَواكِبِ والتَّجَنُّبُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِنَحْوِ ما أكْفَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ المُتَلَفِّظَ بِهِ هَذا (وإذا) الأُولى شَرْطِيَّةٌ والثّانِيَةُ فُجائِيَّةٌ رابِطَةٌ لِلْجَوابِ وتَنْكِيرُ ﴿مَكْرٌ﴾ لِلتَّفْخِيمِ و(فِي) مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ اللّامُ ﴿قُلِ اللَّهُ أسْرَعُ مَكْرًا﴾ أيْ مِنكم فَأسْرَعُ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ وهو مَأْخُوذٌ إما مِن سَرَعَ الثُّلاثِيِّ كَما حَكاهُ الفارِسِيُّ أوْ مِن أسْرَعَ المَزِيدِ إلّا أنَّ في أخْذِ أفْعَلَ مِنَ المَزِيدِ خِلافًا فَمِنهم مَن مَنَعَهُ مُطْلَقًا ومِنهم مَن جَوَّزَهُ مُطْلَقًا ومِنهم مَن قالَ: إنْ كانَتِ الهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ امْتَنَعَ وإلّا جازَ ومِثْلُهُ في ذَلِكَ بِناءُ التَّعَجُّبِ ووَصْفُ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ بِالسُّرْعَةِ دَلَّ عَلَيْهِ المُفاجَأةُ عَلى أنَّ صِحَّةَ اسْتِعْمالِ أسْرَعَ في ذَلِكَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى دَلالَةِ الكَلامِ عَلى ما ذُكِرَ خِلافًا لِما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وأصْلُ المَكْرِ إخْفاءُ الكَيْدِ والمَضَرَّةِ والمُرادُ بِهِ الجَزاءُ والعُقُوبَةُ عَلى المَكْرِ مَجازًا مُرْسَلًا أوْ مُشاكَلَةً وهي لا تُنافِيهِ كَما في شَرْحِ المِفْتاحِ وقَدْ شاعَ أنَّهُ لا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ تَعالى إلّا عَلى سَبِيلِ المُشاكَلَةِ ولَيْسَ بِذاكَ كَما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ ﴿إنَّ رُسُلَنا﴾ الحَفَظَةَ مِن قِبَلِنا عَلى أعْمالِكم ﴿يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ 21﴾ أيْ مَكْرَكم أوْ ما تَمْكُرُونَهُ وكَيْفِيَّةَ كِتابَةِ ذَلِكَ مِمّا لا يَلْزَمُ العِلْمُ بِهِ ولا حاجَةَ إلى جَعْلِ ذَلِكَ مَجازًا عَنِ العِلْمِ وهَذا تَحْقِيقٌ لِلِانْتِقامِ مِنهم وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ ما دَبَّرُوا في إخْفائِهِ غَيْرُ خافٍ عَلى الكَتَبَةِ فَضْلًا عَنْ مُنْزِلِ الكِتابِ الَّذِي لا تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ وفي ذَلِكَ تَجْهِيلٌ لَهم كَما لا يَخْفى والظّاهِرُ أنَّ الجُمْلَةَ لَيْسَتْ داخِلَةً في الكَلامِ المُلَقَّنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ وهي تَعْلِيلٌ لِأسْرَعِيَّةِ مَكْرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ داخِلَةً في ذَلِكَ وفي (p-95)﴿إنَّ رُسُلَنا﴾ التِفاتًا إذْ لَوْ أُجْرِيَ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ لَقِيلَ: إنَّ رُسُلَهُ فَلا إشْكالَ فِيهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لا وجْهَ لِأمْرِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنْ يَقُولَ لَهُمْ: إنَّ رُسُلَنا إذِ الضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعالى لا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ رُسُلِ رَبِّنا أوْ بِالإضافَةِ لِأدْنى مُلابَسَةٍ كَما قِيلَ وقالَ بَعْضُهم في الجَوابِ: إنَّهُ حِكايَةُ ما قالَ اللَّهُ تَعالى عَلى كَوْنِ المُرادِ أداءَ هَذا المَعْنى لا بِهَذِهِ العِبارَةِ وقَرَأ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ (يَمْكُرُونَ) عَلى لَفْظِ الغَيْبَةِ ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ نافِعٍ ويَعْقُوبَ وفِيهِ الجَرْيُ عَلى ما سَبَقَ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (مَسَّتْهُمْ) و(لَهُمْ) والمُناسِبُ الخِطابِ كَما قَرَأ الباقُونَ إذا كانَتِ الجُمْلَةُ داخِلَةً في حَيِّزِ القَوْلِ إذِ المَعْنى قُلْ لَهم ومُناسَبَةُ الخِطابِ حِينَئِذٍ ظاهِرَةٌ وفِيهِ أيْضًا مُبالَغَةٌ في الإعْلامِ بِمَكْرِهِمْ وجَعَلَها بَعْضُ المُحَقِّقِينَ عَلى تِلْكَ القِراءَةِ وعَدَمِ دُخُولِها في حَيِّزِ القَوْلِ تَعْلِيلًا لِلْأسْرَعِيَّةِ أوْ لِلْأمْرِ المَذْكُورِ وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ في الفِعْلَيْنِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ والتَّجَدُّدِ وكَذا في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب