الباحث القرآني

﴿وما كانَ النّاسُ إلا أُمَّةً واحِدَةً﴾ أيْ وما كانَ النّاسُ كافَّةً مِن أوَّلِ الأمْرِ إلّا مُتَّفِقِينَ عَلى الحَقِّ والتَّوْحِيدِ مِن غَيْرِ اخْتِلافٍ ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيِّ ومُجاهِدٍ والجِبائِيِّ وأبِي مُسْلِمٍ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: (وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً عَلى هُدًى) وذَلِكَ مِن عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى أنْ قَتَلَ قابِيلُ هابِيلَ وقِيلَ: إلى زَمَنِ إدْرِيسَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقِيلَ: إلى زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانُوا عَشَرَةَ قُرُونٍ وقِيلَ: كانُوا كَذَلِكَ في زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَعْدَ أنْ لَمْ يَبْقَ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارٌ إلى أنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمُ الكُفْرُ وقِيلَ: مِن لَدُنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى أنْ أظْهَرَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ عِبادَةَ الأصْنامِ وهو المَرْوِيُّ عَنْ عَطاءٍ وعَلَيْهِ فالمُرادُ مِنَ ﴿النّاسُ﴾ العَرَبُ خاصَّةً وهو الأنْسَبُ بِإيرادِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ إثْرَ حِكايَةِ ما حُكِيَ مِنهم مِنَ الهَناتِ وتَنْزِيهِ ساحَةِ الكِبْرِياءِ عَنْ ذَلِكَ. (p-90)﴿فاخْتَلَفُوا﴾ بِأنْ كَفَرَ بَعْضُهم وثَبَتَ الآخَرُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ فَخالَفَ كُلٌّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ الآخَرَ والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ وهي لا تُنافِي امْتِدادَ زَمانٍ الِاتِّفاقِ إذِ المُرادُ بَيانُ وُقُوعِ الِاخْتِلافِ عَقِيبَ انْصِرامِ مُدَّةِ الِاتِّفاقِ لا عَقِيبَ حُدُوثِهِ ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ بِتَأْخِيرِ القَضاءِ بَيْنَهُمِ أوِ العَذابِ الفاصِلِ بَيْنَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ فَإنَّهُ يَوْمَ الفَصْلِ والجَزاءِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ عاجِلًا ﴿فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 19﴾ بِأنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ آياتٍ مُلْجِئَةً إلى اتِّباعِ الحَقِّ ورَفْعِ الِاخْتِلافِ أوْ بِأنْ يُهْلِكَ المُبْطِلَ ويُبْقِيَ المُحِقَّ وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ والدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ ووَجْهُ ارْتِباطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّها كالتَّأْكِيدِ لِما أشارَ إلَيْهِ مِن أنَّ التَّوْحِيدَ هو الدِّينُ الحَقُّ حَيْثُ أفادَتْ أنَّهُ مِلَّةٌ قَدِيمَةٌ اجْتَمَعَتْ عَلَيْها الأُمَمُ قاطِبَةً وأنَّ الشِّرْكَ وفُرُوعَهُ جَهالاتٌ ابْتَدَعَها الغُواةُ خِلافًا لِلْجُمْهُورِ وشَقًّا لِعَصا الجَماعَةِ وقِيلَ: وجْهُ ذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ فِيما قَبْلُ فَسادَ القَوْمِ بِعِبادَةِ الأصْنامِ وبَيَّنَ في هَذِهِ أنَّ هَذا المَذْهَبَ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْعَرَبِ مِن أوَّلِ الأمْرِ بَلْ كانُوا عَلى الدِّينِ الحَقَّ الخالِي عَنْ عِبادَةِ الأصْنامِ وإنَّما حَدَثَتْ فِيهِمْ عِبادَتُها بِتَسْوِيلِ الشَّياطِينِ قِيلَ: والغَرَضُ مِن ذَلِكَ أنَّ العَرَبَ إذا عَلِمُوا أنَّ ما هم عَلَيْهِ اليَوْمَ لَمْ يَكُنْ مِن قَبْلُ فِيهِمْ وإنَّما حَدَثَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتَعَصَّبُوا لِنُصْرَتِهِ ولَمْ يَتَأذَّوْا مِن تَزْيِيفِهِ وإبْطالِهِ وعَنِ الكَلْبِيِّ أنَّ مَعْنى كَوْنِهِمْ أُمَّةً واحِدَةً اتِّفاقُهم عَلى الكُفْرِ وذَلِكَ في زَمَنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الحَسَنِ إلّا أنَّهُ قالَ: كانُوا كَذَلِكَ مِن لَدُنْ وفاةِ آدَمَ إلى زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِما السَّلامُ ثُمَّ آمَنَ مَن آمَنَ وبَقِيَ مَن بَقِيَ عَلى الكُفْرِ وفائِدَةُ إيرادِ هَذا الكَلامِ في هَذا المَقامِ تَسْلِيَتُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَطْمَعْ في أنْ يَصِيرَ كُلُّ مَن تَدْعُوهُ إلى الإيمانِ والتَّوْحِيدِ مُجِيبًا لَكَ قابِلًا لِدِينِكَ فَإنَّ النّاسَ كُلَّهم كانُوا عَلى الكُفْرِ وإنَّما حَدَثَ الإيمانُ في بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَيْفَ تَطْمَعُ في اتِّفاقِ الكُلِّ عَلَيْهِ واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يَلْزَمُ عَلى هَذا خُلُوُّ الأرْضِ في عَصْرٍ عَنْ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ تَعالى عارِفٍ بِهِ وقَدْ قالُوا: إنَّ الأرْضَ في كُلِّ وقْتٍ لا تَخْلُو عَنْ ذَلِكَ وأُجِيبُ بِأنَّ عَدَمَ الخُلُوِّ في حَيِّزِ المَنعِ فَقَدْ ورَدَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ النّاسَ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ لَيْسَ فِيهِمْ مَن يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ المُرادِ بِالِاتِّفاقِ عَلى الكَفْرِ اتِّفاقُ الأكْثَرِ والحَقُّ أنَّ هَذا القَوْلَ في حَدِّ ذاتِهِ ضَعِيفٌ فَلا يَنْبَغِي دَفْعُ ما يَرُدُّ عَلَيْهِ وأضْعَفَ مِنهُ بَلْ لا يَكادُ يَصِحُّ كَوْنُ المُرادِ أنَّهم كانُوا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا بِأنْ أحْدَثَ كُلٌّ مِنهم مِلَّةً عَلى حِدَةٍ مِن مِلَلِ الكُفْرِ مُخالَفَةً لِمِلَّةِ الآخَرِ لِأنَّ الكَلامَ لَيْسَ في ذَلِكَ الِاخْتِلافِ إذْ كُلٌّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ مُبْطِلٌ حِينَئِذٍ فَلا يُتَصَوَّرُ أنْ يُقْضى بَيْنَهُما بِإبْقاءِ المُحِقِّ وإهْلاكِ المُبْطِلِ أوْ بِإلْجاءِ أحَدِهِما إلى اتِّباعِ الحَقِّ لِيَرْتَفِعَ الِاخْتِلافُ كَما لا يَخْفى هَذا * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿الر﴾ –ا- إشارَةٌ إلى الذّاتِ الَّذِي هو أوَّلُ الوُجُودِ و(ل) إشارَةٌ إلى العَقْلِ المُسَمّى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو أوْسَطُ الوُجُودِ الَّذِي يَسْتَفِيضُ مِنَ المَبْدَأِ ويَفِيضُ إلى المُنْتَهى و(ر) إشارَةٌ إلى الرَّحْمَةِ الَّتِي هي الذّاتُ المُحَمَّدِيَّةُ وهي في الحَقِيقَةِ أوَّلٌ ووَسَطٌ وآخِرٌ لَكِنَّ الِاعْتِباراتِ مُخْتَلِفَةٌ وكَأنَّ ذَلِكَ قَسَمٌ مِنهُ تَعالى بِالحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ عَلى أنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ أوِ القُرْآنُ مِنَ الآيِ آياتُ الكِتابِ المُتْقَنِ وقِيلَ: المَعْنى ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِهَذِهِ الأحْرُفِ أرْكانُ كِتابِ الكُلِّ ذِي الحِكْمَةِ أوِ المُحْكَمِ ومُعْظَمُ تَفاصِيلِهِ ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهُمْ﴾ إنْكارٌ لِتَعَجُّبِهِمْ مِن سُنَّةِ اللَّهِ الجارِيَةِ وهي الإيحاءُ إلى رَجُلٍ وكانَ ذَلِكَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ مَقامِهِمْ وعَدَمِ مُناسَبَةِ حالِهِمْ لِحالِهِ ومُنافاةِ ما جاءَ بِهِ لِما اعْتَقَدُوهُ ﴿أنْ أنْذِرِ النّاسَ﴾ أيْ خَوِّفْهم (p-91)مِن أنْ يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أنَّ لَهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ سابِقَةً عَظِيمَةً وقُرْبَةً لَيْسَ لِأحَدٍ مِثْلُها وقِيلَ: سابِقَةَ رَحْمَةٍ أوْدَعَها في مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿قالَ الكافِرُونَ﴾ أيِ المَحْجُوبُونَ عَنِ اللَّهِ تَعالى ﴿إنَّ هَذا﴾ أيِ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ لَمّا رَأوْهُ خارِجًا عَنْ قَدْرِهِمْ واحْتَجَبُوا بِالشَّيْطَنَةِ عَنِ الوُقُوفِ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ قالُوا ذَلِكَ ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ أيْ أوْقاتٍ مِقْدارُ كَلِّ يَوْمٍ مِنها دَوْرَةُ الفَلَكِ الأعْظَمِ مَرَّةً واحِدَةً كَما نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ الأكْبَرُ والسِّتَّةُ عَدَدٌ تامٌّ واخْتارَهُ اللَّهُ تَعالى لِما فِيهِ مِنَ الأسْرارِ ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أيِ المُلْكِ ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ فِيهِ عَلى وفْقِ حَكَمَتْهُ بِيَدِ قُدْرَتِهِ وقَدْ يُفَسَّرُ العَرْشُ بِقَلْبِ الكامِلِ فالكَلامُ إشارَةٌ إلى خَلْقِ الإنْسانِ الَّذِي انْطَوى فِيهِ العالَمُ بِأسْرِهِ ﴿ما مِن شَفِيعٍ﴾ يَشْفَعُ لِأحَدٍ بِدَفْعِ ما يَضُرُّهُ أوْ جَلْبِ ما يَنْفَعُهُ ﴿إلا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ بِمَوْهِبَةِ الِاسْتِعْدادِ بِتَوْفِيقِ الأسْبابِ ﴿ذَلِكُمُ﴾ المَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفاتِ الجَلِيلَةِ ﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ الَّذِي يَرُبُّكم ويُدَبِّرُ أمْرَكم فاعْبُدُوهُ فَخُصُّوهُ بِالعِبادَةِ واعْرِفُوهُ بِهَذِهِ الصِّفاتِ ولا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ولا تَحْتَجِبُوا عَنْهُ تَعالى فَتَنْسُبُوا قَوْلَهُ وفِعْلَهُ إلى الشَّيْطانِ ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ آياتِهِ الَّتِي خَطَّها بِيَدِ قُدْرَتِهِ في صَحائِفِ الآفاقِ والأنْفُسِ فَتَتَفَكَّرُوا فِيها وتَنْزَجِرُوا عَنِ الشِّرْكِ بِهِ سُبْحانَهُ ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ بِالعَوْدِ إلى عَيْنِ الجَمْعِ المُطْلَقِ في القِيامَةِ الصُّغْرى أوْ إلى عَيْنِ جَمْعِ الذّاتِ بِالفَناءِ فِيهِ تَعالى عِنْدَ القِيامَةِ الكُبْرى كَذا قِيلَ وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: إنَّ مَرْجِعَ العاشِقِينَ جَمالُهُ ومَرْجِعَ العارِفِينَ جَلالُهُ ومَرْجِعَ المُوَحِّدِينَ كِبْرِياؤُهُ ومَرْجِعَ الخائِفِينَ عَظَمَتُهُ ومَرْجِعَ المُشْتاقِينَ وِصالُهُ ومَرْجِعَ المُحِبِّينَ دُنُوُّهُ ومَرْجِعَ أهْلِ العِنايَةِ ذاتُهُ وقالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ في الآيَةِ: إنَّهُ تَعالى مِنهُ الِابْتِداءُ وإلَيْهِ الِانْتِهاءُ وما بَيْنَ ذَلِكَ مَرابِعُ فَضْلِهِ وتَواتُرُ نِعَمِهِ ﴿وعْدَ اللَّهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أيْ يَبْدَؤُهُ في النَّشْأةِ الأُولى ثُمَّ يُعِيدُهُ في النَّشْأةِ الثّانِيَةِ أوْ يَبْدَأُ الخَلْقَ بِاخْتِفائِهِ وإظْهارِهِمْ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِإفْنائِهِمْ وظُهُورِهِ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ أيْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَ المُؤْمِنَ والكافِرَ عَلى حَسَبِ ما يَقْتَضِيهِ عَمَلُ كُلٍّ، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً﴾ أيْ جَعَلَ شَمْسَ الرُّوحِ ضِياءَ الوُجُودِ ﴿والقَمَرَ﴾ أيْ قَمَرَ القَلْبِ ﴿نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ﴾ أيْ مَقاماتٍ ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ﴾ أيْ سِنِي مَراتِبِكم وأطْوارِكم في المَسِيرِ إلَيْهِ وفِيهِ تَعالى ﴿والحِسابَ﴾ أيْ حِسابَ دَرَجاتِكم ومَواقِعِ أقْدامِكم في كُلِّ مَقامٍ ومَرْتَبَةٍ ويُقالُ: جَعَلَ شَمْسَ الذّاتِ ضِياءً لِلْأرْواحِ العارِفَةِ وجَعَلَ قَمَرَ الصِّفاتِ نُورًا لِلْقُلُوبِ العاشِقَةِ فَفَنِيَتِ الأرْواحُ بِصَوْلَةِ الذّاتِ في عَيْنِ الذّاتِ وبَقِيَتِ القُلُوبُ بِمُشاهَدَةِ الصِّفاتِ في عَيْنِ الصِّفاتِ وهَذِهِ الشَّمْسُ المُشارُ إلَيْها لا تَغِيبُ أصْلًا عَنْ بَصائِرِ الأرْواحِ ومِن هُنا قالَ قائِلُهُمْ: ؎هِيَ الشَّمْسُ إلّا أنَّ لِلشَّمْسِ غَيْبَةً وهَذا الَّذِي نَعْنِيهِ لَيْسَ يَغِيبُ ﴿إنَّ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ﴾ أيْ غَلَبَةِ ظُلْمَةِ النَّفْسِ عَلى القَلْبِ ﴿والنَّهارِ﴾ أيْ نَهارِ إشْراقِ ضَوْءِ الرَّوْحِ عَلَيْهِ ﴿وما خَلَقَ اللَّهُ في السَّماواتِ﴾ أيْ سَماواتِ الأرْواحِ ﴿والأرْضِ﴾ أيْ أرْضِ الأجْسادِ ﴿لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ حَجْبَ صِفاتِ النَّفْسِ الأمّارَةِ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ﴾ أيْ يُوصِلُهم إلى الجَنّاتِ الثَّلاثِ بِحَسَبِ نُورِ إيمانِهِمْ فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ كالبَيانِ لِذَلِكَ ﴿دَعْواهُمْ﴾ الِاسْتِعْدادِيُّ ﴿فِيها﴾ أيْ في تِلْكَ الجَنّاتِ ﴿سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ﴾ إشارَةٌ إلى تَنْزِيهِهِ تَعالى والتَّنْزِيهُ في الأوْلى عَنِ الشِّرْكِ في الأفْعالِ بِالبَراءَةِ عَنْ حَوْلِهِمْ وقُوَّتِهِمْ وفي الثّانِيَةِ عَنِ الشِّرْكِ في الصِّفاتِ بِالِانْسِلاخِ عَنْ صِفاتِهِمْ وفي الثّالِثَةِ (p-92)عَنِ الشِّرْكِ في الوُجُودِ بِفَنائِهِمْ و(تَحِيَّتُهُمْ) أيْ تَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أوْ تَحِيَّةٌ لِلَّهِ تَعالى ﴿فِيها سَلامٌ﴾ أيْ إفاضَةُ أنْوارِ التَّزْكِيَةِ وإمْدادُ التَّصْفِيَةِ أوْ إشْراقُ أنْوارِ التَّجَلِّياتِ وإمْدادُ التَّجْرِيدِ وإزالَةُ الآفاتِ ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ أيْ آخِرُ ما يَقْتَضِيهِ اسْتِعْدادُهم قِيامُهم بِاللَّهِ تَعالى في ظُهُورِ كَمالاتِهِ وصِفاتِ جَلالِهِ وجَمالِهِ عَلَيْهِمْ وهو الحَمْدُ الحَقِيقِيُّ مِنهُ ولَهُ سُبْحانَهُ ﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا﴾ أيِ اسْتَغْرَقَ أوْقاتَهُ في الدُّعاءِ ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأنْ لَمْ يَدْعُنا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ هَذا وصْفُ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا حَقائِقَ العُبُودِيَّةِ في مَشاهِدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإنَّهم إذا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ لَيْلُ البَلاءِ قامُوا إلى إيقادِ مِصْباحِ التَّضَرُّعِ فَإذا انْجَلَتْ عَنْهُمُ الغَياهِبُ بِسُطُوعِ أنْوارِ فَجْرِ الفَرَجِ نَسُوا ما كانُوا فِيهِ ومَرُّوا كَأنْ لَمْ يَدْعُوا مَوْلاهم إلى كَشْفِ ما عَناهُمْ كَأنَّ الفَتى لَمْ يُعِرْ يَوْمًا إذا اكْتَسى ولَمْ يَكْ صُعْلُوكًا إذا ما تَمَوَّلا ولَوْ كانُوا عارِفِينَ لَمْ يَبْرَحُوا دارَةَ التَّضَرُّعِ وإظْهارَ العُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعالى في كُلِّ حِينٍ ﴿وما كانَ النّاسُ إلا أُمَّةً واحِدَةً﴾ عَلى الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلَيْها مُتَوَجِّهِينَ إلى التَّوْحِيدِ مُتَنَوِّرِينَ بِنُورِ الهِدايَةِ الأصْلِيَّةِ ﴿فاخْتَلَفُوا﴾ بِمُقْتَضَياتِ النَّشْأةِ واخْتِلافِ الأمْزِجَةِ والأهْوِيَةِ والعاداتِ والمُخالَطاتِ ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ وهو قَضاؤُهُ سُبْحانَهُ الأزَلِيُّ بِتَقْدِيرِ الآجالِ والأرْزاقِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ بِإهْلاكِ المُبْطِلِ وإبْقاءِ المُحِقِّ والمُرادُ أنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعالى اقْتَضَتْ أنْ يَبْلُغَ كُلٌّ مِنهم وُجْهَتَهُ الَّتِي ولّى وجْهَهُ إلَيْها بِأعْمالِهِ الَّتِي يُزاوِلُها هو وإظْهارُ ما خَفِيَ في نَفْسِهِ وسُبْحانَ اللَّهِ الحَكِيمِ العَلِيمِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب