الباحث القرآني

﴿وإذا مَسَّ الإنْسانَ الضُّرُّ﴾ أيْ إذا أصابَهُ جِنْسُ الضُّرِّ مِن مَرَضٍ وفَقْرٍ وغَيْرِهِما مِنَ الشَّدائِدِ إصابَةً يَسِيرَةً وقِيلَ: مُطْلَقًا ﴿دَعانا﴾ لِكَشْفِهِ وإزالَتِهِ ﴿لِجَنْبِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ ولِذا عَطَفَ عَلَيْهِ الحالَ الصَّرِيحَةَ أعْنِي قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿أوْ قاعِدًا أوْ قائِمًا﴾ أيْ دَعانا مُضْطَجِعًا أوْ مُلْقًى لِجَنْبِهِ واللّامُ عَلى ظاهِرِها وقِيلَ: إنَّها بِمَعْنى عَلى كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَخِرُّونَ لِلأذْقانِ﴾ ولا حاجَةَ إلَيْهِ وقَدْ يُعَبَّرُ بِعَلى وهي تُفِيدُ اسْتِعْلاءَهُ عَلَيْهِ واللّامُ تُفِيدُ اخْتِصاصَ كَيْنُونَتِهِ واسْتِقْرارَهُ بِالجَنْبِ إذْ لا يُمْكِنُهُ الِاسْتِقْرارُ عَلى غَيْرِ تِلْكَ الهَيْئَةِ فَفِيهِ مُبالَغَةٌ زائِدَةٌ واخْتُلِفَ في ذِي الحالِ فَقِيلَ: إنَّهُ فاعِلُ ﴿دَعانا﴾ وقِيلَ: هو مَفْعُولُ ﴿مَسَّ﴾ واسْتُضْعِفَ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما تَأخُّرُ الحالِ عَنْ مَحَلِّها مِن غَيْرِ داعٍ الثّانِي أنَّ المَعْنى عَلى أنَّهُ يَدْعُو كَثِيرًا في كُلِّ أحْوالِهِ إلّا أنَّهُ خَصَّ المَعْدُوداتِ بِالذِّكْرِ لِعَدَمِ خُلُوِّ الإنْسانِ عَنْها عادَةً لا أنَّ الضُّرَّ يُصِيبُهُ في كُلِّ أحْوالِهِ: وأُجِيبُ عَنْ هَذا بِأنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ فَإنَّهُ يَلْزَمُ مِن مَسَّهُ الضُّرُّ في هَذِهِ الأحْوالِ دُعاؤُهُ فِيها أيْضًا لِأنَّ القَيْدَ في الشَّرْطِ قَيْدٌ في الجَوابِ فَإذا قُلْتَ: إذا جاءَ زَيْدٌ فَقِيرًا أحْسَنّا إلَيْهِ فالمَعْنى أحْسَنّا إلَيْهِ في حالِ فَقْرِهِ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأظْهَرَ هو الأوَّلُ واعْتَبَرَ بَعْضُهم تَوْزِيعَ هَذِهِ الأحْوالِ عَلى أفْرادِ الإنْسانِ عَلى مَعْنى أنَّ مِنَ الإنْسانِ مَن يَدْعُو عَلى هَذِهِ الحالَةِ ومِنهُ مَن يَدْعُو عَلى تِلْكَ وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهَذِهِ الأحْوالِ تَعْمِيمَ أصْنافِ المَضارِّ لِأنَّها إمّا خَفِيفَةٌ (p-80)لا تَمْنَعُ الشَّخْصَ القِيامَ أوْ مُتَوَسِّطَةٌ تَمْنَعُهُ القِيامَ دُونَ القُعُودِ أوْ شَدِيدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنها وانْفَهامَ ذَلِكَ مِنها بِمَعُونَةِ السِّياقِ و(إذا) قِيلَ إنَّها عَلى أصْلِها وقِيلَ إنَّها لِلْمُضِيِّ ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ﴾ الَّذِي مَسَّهُ غَبَّ ما دَعانا كَما يُنْبِئُ عَنْهُ الفاءُ ﴿مَرَّ﴾ أيْ مَضى واسْتَمَرَّ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلُ ونَسِيَ حالَةَ الجَهْدِ والبَلاءِ أوْ مَرَّ عَنْ مَوْقِفِ الدُّعاءِ والِابْتِهالِ ونَأى بِجانِبِهِ والمُرُورُ عَلى الأوَّلِ مَجازٌ وعَلى الثّانِي باقٍ عَلى حَقِيقَتِهِ ويَكُونُ كِنايَةً عَنْ عَدَمِ الدُّعاءِ ﴿كَأنْ لَمْ يَدْعُنا﴾ أيْ كَأنَّهُ لَمْ يَدْعُنا فَخَفَّفَ وحَذَفَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎ووَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ كَأنْ ثَدْياهُ حُقّانِ فَإنَّ الأصْلَ فِيهِ كَأنَّهُ فَخَفَّفَ كَأنَّ وحَذَفَ ضَمِيرَ الشَّأْنِ لَكِنْ صَرَّحَ ابْنُ هِشامٍ في شَواهِدِهِ أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ إذْ يَجُوزُ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْوَجْهِ أوْ لِلصَّدْرِ عَلى رِوايَةٍ – وصَدْرٍ - ورُوِيَ كَأنَّ ثَدْيَيْهِ عَلى إعْمالِ كَأنَّ في اسْمٍ مَذْكُورٍ ولا يَبْعُدُ أنْ يَجُوزَ ذَلِكَ في الرِّوايَةِ الأُولى عَلى بَعْضِ اللُّغاتِ والجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ ﴿مَرَّ﴾ أيْ مَرَّ مُشَبَّهًا بِمَن لَمْ يَدْعُنا ﴿إلى ضُرٍّ﴾ أيْ إلى كَشْفِهِ لِأنَّهُ المَدْعُوُّ إلَيْهِ وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى التَّقْدِيرِ وإلى بِمَعْنى اللّامِ أيْ لِضُرٍّ ﴿مَسَّهُ﴾ والظّاهِرُ أنَّ هَذا وصْفٌ لِجِنْسِ الإنْسانِ مُطْلَقًا أوالكافِرِ مِنهُ بِاعْتِبارِ حالِ بَعْضِ الأفْرادِ مِمَّنْ هو مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفاتِ وذَكَرَ الشِّهابُ أنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ في المُرادِ بِالإنْسانِ هُنا ثَلاثَةَ أقْوالٍ فَقِيلَ: الجِنْسُ وقِيلَ: الكافِرُ وقِيلَ: شَخْصٌ مُعَيَّنٌ وعَلَيْهِ لا حاجَةَ إلى الِاعْتِبارِ لَكِنْ لا اعْتِبارَ لَهُ ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ العَجِيبِ ﴿زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ أيْ لِلْمَوْصُوفِينَ بِما ذَكَرَ مِنَ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ (ما كانُوا يَعْلَمُونَ 12) مِنَ الإعْراضِ عَنِ الذَّكَرِ والدُّعاءِ والِانْهِماكِ في الشَّهَواتِ والإسْرافُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ وسُمُّوا أُولَئِكَ مُسْرِفِينَ لَمّا أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أعْطاهُمُ القُوى والمَشاعِرَ لِيَصْرِفُوها إلى مَصارِفِها ويَسْتَعْمِلُوها فِيما خُلِقَتْ لَهُ مِنَ العُلُومِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ وهم قَدْ صَرَفُوها إلى ما لا يَنْبَغِي مَعَ أنَّها رَأْسُ مالِهِمْ وفاعِلُ التَّزْيِينِ إمّا مالِكُ المُلْكِ جَلَّ شَأْنُهُ وإمّا الشَّيْطانُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ وكَذَلِكَ فَتَذَكَّرْ. وتَعَلُّقُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِما قَبْلَها قِيلَ مِن حَيْثُ إنَّ في كُلٍّ مِنهُما إمْلاءً لِلْكَفَرَةِ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْراجِ بَعْدَ الإنْقاذِ مِنَ الشَّرِّ المُقَرَّرِ في الأُولى ومِنَ الضُّرِّ المُقَرَّرِ في الأُخْرى وذَكَرَ الإمامُ في وجْهِ الِانْتِظامِ مَعَ الآيَةِ الأُولى وجْهَيْنِ الأوَّلُ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ في الأُولى أنَّهُ لَوْ أنْزَلَ العَذابَ عَلى العَبْدِ في الدُّنْيا لَهَلَكَ وأكَّدَ ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ حَيْثُ دَلَّتْ عَلى غايَةِ ضَعْفِهِ ونِهايَةِ عَجْزِهِ والثّانِي أنَّهُ سُبْحانَهُ أشارَ في الأُولى إلى أنَّ الكَفَرَةَ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَ العَذابِ وبَيَّنَ جَلَّ شَأْنُهُ في هَذِهِ أنَّهم كاذِبُونَ في ذَلِكَ الطَّلَبِ حَيْثُ أفادَتْ أنَّهُ لَوْ نَزَلَ بِالإنْسانِ أدْنى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ فَإنَّهُ يَتَضَرَّعُ إلى اللَّهِ تَعالى في إزالَتِهِ عَنْهُ انْتَهى ولِكُلِّ وُجْهَةٌ وفِي الآيَةِ ذَمٌّ لِمَن يَتْرُكُ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ ويُهْرَعُ إلَيْهِ في الشِّدَّةِ واللّائِقُ بِحالِ الكامِلِ التَّضَرُّعُ إلى مَوْلاهُ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ فَإنَّ ذَلِكَ أرْجى لِلْإجابَةِ فَفي الحَدِيثِ: «تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ» وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: «ادْعُ اللَّهَ تَعالى يَوْمَ سَرّائِكَ يَسْتَجِبْ لَكَ يَوْمَ ضَرائِكَ» وفي حَدِيثٍ لِلتِّرْمِذِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ورَواهُ الحاكِمُ عَنْ سَلْمانَ وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ: «مَن سَرَّهُ أنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ تَعالى لَهُ عِنْدَ الشَّدائِدِ والكُرُوبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ» . والآثارُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب