الباحث القرآني

﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ تَقْرِيرٌ لِما أوْرَدَ في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِن سَلْبِ النَّفْعِ مِنَ المَعْبُوداتِ الباطِلَةِ وتَصْوِيرٍ لِاخْتِصاصِهِ بِهِ سُبْحانَهُ أيْ وإنْ يُصِبْكَ بِسُوءٍ ما ﴿فَلا كاشِفَ لَهُ﴾ عَنْكَ كائِنًا مَن كانَ وما كانَ ﴿إلا هُوَ﴾ وحْدَهُ فَثَبَتَ عَدَمُ كَشْفِ الأصْنامِ بِالطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ وهو بَيانٌ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِرَفْعِ المَكْرُوهِ المُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِجَلْبِ المَحْبُوبِ اسْتِلْزامًا ظاهِرًا فَإنَّ رَفْعَ المَكْرُوهِ أدْنى مَراتِبِ النَّفْعِ فَإذا انْتَفى انْتَفى النَّفْعُ بِالكُلِّيَّةِ ﴿وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ تَحْقِيقٌ لِسَلْبِ الضَّرَرِ الوارِدِ في حَيِّزِ الصِّلَةِ أيْ إنْ يُرِدْ أنْ يُصِيبَكَ بِخَيْرٍ ﴿فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ ما أرادَكَ بِهِ مِن خَيْرٍ فَهو دَلِيلٌ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ لا نَفْسِ (p-200)الجَوابِ وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ فَيَضانَ الخَيْرِ مِنهُ تَعالى بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والكَرَمِ مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ أيْ لا أحَدَ يَقْدِرُ عَلى رَدِّهِ كائِنًا مَن كانَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الأصْنامُ دُخُولًا أوَّلِيًّا وهو بَيانٌ لِعَدَمِ ضُرِّها بِدَفْعِ المَحْبُوبِ قَبْلَ وُقُوعِهِ المُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ ضُرِّها بِرَفْعِهِ أوْ بِإيقاعِ المَكْرُوهِ اسْتِلْزامًا جَلِيًّا ولَعَلَّ ذِكْرَهُ الإرادَةَ مَعَ الخَيْرِ والمَسَّ مَعَ الضُّرِّ مَعَ تَلازُمِ الأمْرَيْنِ لِأنَّ ما يُرِيدُهُ سُبْحانَهُ يُصِيبُ وما يُصِيبُ لا يَكُونُ إلّا بِإرادَتِهِ تَعالى لِلْإيذانِ بِأنَّ الخَيْرَ مَقْصُودٌ لِلَّهِ تَعالى بِالذّاتِ والضُّرِّ إنَّما يَقَعُ جَزاءً عَلى الأعْمالِ ولَيْسَ مَقْصُودًا بِالذّاتِ ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أُرِيدَ مَعْنى الفِعْلَيْنِ في كُلٍّ مِنَ الخَيْرِ والضُّرِّ لِاقْتِضاءِ المَقامِ تَأْكِيدَ كُلٍّ مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ إلّا أنَّهُ قَصَدَ الإيجازَ في الكَلامِ فَذَكَرَ في أحَدِهِما المَسَّ وفي الآخَرِ الإرادَةَ لِيَدُلَّ بِما ذَكَرَ في كُلِّ جانِبٍ عَلى ما تُرِكَ في الجانِبِ الآخَرِ فَفي الآيَةِ نَوْعٌ مِنَ البَدِيعِ يُسَمّى احْتِباكًا وقَدْ تَقَدَّمَ في غَيْرِ آيَةٍ ولَمْ يَسْتَثْنِ سُبْحانَهُ في جانِبِ الخَيْرِ إظْهارًا لِكَمالِ العِنايَةِ بِهِ ويُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾ حَيْثُ صَرَّحَ جَلَّ شَأْنُهُ بِالإصابَةِ بِالفَضْلِ المُنْتَظِمِ لِما أرادَ مِنَ الخَيْرِ وقِيلَ: إنَّما لَمْ يَسْتَثْنِ جَلَّ وعَلا في ذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ فَرَضَ فِيهِ أنَّ تَعَلُّقَ الخَيْرِ بِهِ واقِعٌ بِإرادَتِهِ تَعالى وصِحَّةُ الِاسْتِثْناءِ تَكُونُ بِإرادَةِ ضِدِّهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ وهو مُحالٌ وهَذا بِخِلافِ مَسِّ الضُّرِّ فَإنَّ إرادَةَ كَشْفِهِ لا تَسْتَلْزِمُ المُحالَ وهو تَعَلُّقُ الإرادَتَيْنِ بِالضِّدَّيْنِ في وقْتٍ واحِدٍ وفي العُدُولِ عَنْ يُرِدْ بِكَ الخَيْرَ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ إيماءً كَما قِيلَ إلى أنَّ المَقْصُودَ هو الإنْسانُ وسائِرُ الخَيْراتِ مَخْلُوقَةٌ لِأجْلِهِ وما أشَرْنا إلَيْهِ مِن رُجُوعِ ضَمِيرِ (بِهِ) إلى الفَضْلِ هو الظّاهِرُ المُناسِبُ وجُوِّزَ رُجُوعُهُ لِما ذَكَرَ ولَيْسَ بِذاكَ وحَمْلُ الفَضْلِ عَلى العُمُومِ أوَّلًا وآخِرًا حَسْبَما عَلِمْتَ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ رادًّا عَلى مَن جَعَلَهُ عِبارَةً عَنْ ذَلِكَ الخَيْرِ بِعَيْنِهِ عَلى أنْ يَكُونَ الإتْيانُ بِهِ أوَّلًا ظاهِرًا مِن بابِ وضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ إظْهارًا لِما ذَكَرَ مِنَ الفائِدَةِ بِأنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾ يَأْبى ذَلِكَ لِأنَّهُ يُنادِي بِالعُمُومِ ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ الكَلامُ مِن بابِ - عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ - وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ 107﴾ تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُصِيبُ بِهِ﴾ إلَخْ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِهِ والكُلُّ تَذْيِيلٌ لِلشَّرْطِيَّةِ الأخِيرَةِ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِها وذَكَرَ الإمامُ في هَذِهِ الآياتِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ عِبادَةِ الأوْثانِ لِأنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ أوَّلَ الآيَةِ: ﴿فَلا أعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فَلا بُدَّ مِن حَمْلِ هَذا الكَلامِ عَلى ما فِيهِ فائِدَةٌ زائِدَةٌ وهي أنَّ مَن عَرَفَ مَوْلاهُ لَوِ التَفَتَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى غَيْرِهِ كانَ ذَلِكَ شِرْكًا وهو الَّذِي يُسَمِّيهِ أصْحابُ القُلُوبِ بِالشِّرْكِ الخَفِيِّ ويُجْعَلُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ﴾ إشارَةً إلى مَقامٍ هو آخِرُ دَرَجاتِ العارِفِينَ لِأنَّ ما سِوى الحَقِّ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ مَوْجُودٌ بِإيجادِهِ والمُمْكِنُ لِذاتِهِ مَعْدُومٌ بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ ومَوْجُودٌ بِإيجادِ الحَقِّ وحِينَئِذٍ فَلا نافِعَ إلّا الحَقُّ ولا ضارَّ إلّا هو وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا رُجُوعَ إلّا إلَيْهِ عَزَّ شَأْنُهُ في الدّارَيْنِ ومَعْنى ﴿فَإنْ فَعَلْتَ﴾ إلَخْ فَإنِ اشْتَغَلْتَ بِطَلَبِ المَنفَعَةِ والمَضَرَّةِ مِن غَيْرِ اللَّهِ تَعالى فَأنْتَ مِنَ الظّالِمِينَ أيِ الواضِعِينَ لِلشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذْ ما سِوى اللَّهِ تَعالى مَعْزُولٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فَإضافَةُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ وضْعٌ لِلشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وهو الظُّلْمُ وطَلَبُ الِانْتِفاعِ بِالأشْياءِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ تَعالى لِلِانْتِفاعِ بِها مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ ونَحْوِهِما لا يُنافِي الرُّجُوعَ بِالكُلِّيَّةِ إلى اللَّهِ تَعالى بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ بَصَرُ العَقْلِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إلى شَيْءٍ (p-201)مِن ذَلِكَ مُشاهِدًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى وجُودِهِ وإحْسانِهِ في إيجادِ تِلْكَ المَوْجُوداتِ وإيداعِ تِلْكَ المَنافِعِ فِيها مَعَ الجَزْمِ بِأنَّها في أنْفُسِها وذَواتِها مَعْدُومَةٌ وهالِكَةٌ ولا وُجُودَ لَها ولا بَقاءَ ولا تَأْثِيرَ إلّا بِإيجادِ اللَّهِ تَعالى وإبْقائِهِ وإفاضَةِ ما فِيها مِنَ الخَواصِّ عَلَيْها بِجُودِهِ وإحْسانِهِ وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ﴾ إلَخْ تَقْرِيرٌ لِأنَّ جَمِيعَ المُمْكِناتِ مُسْتَنِدَةٌ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وأنَّهُ لا مُعَوَّلَ إلّا عَلَيْهِ عَزَّ شَأْنُهُ وهو كَلامٌ حَسَنٌ بَيْدَ أنَّ زَعْمَهُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ عِبادَةِ الأوْثانِ إلَخْ لا يَخْفى ما فِيهِ. وقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هَذا الكَلامِ في الآياتِ ساداتُنا الصُّوفِيَّةُ فَفي أسْرارِ القُرْآنِ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَوَّفَ نَبِيَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِهِ في إقْبالِهِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ أيْ مِنَ الطّالِبِينَ غَيْرِي والمُؤْثِرِينَ عَلى جَمالِ مُشاهَدَتِي ما لا يَلِيقُ مِنَ الحَدَثانِ وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ إقامَةَ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ بِتَصْحِيحِ المَعْرِفَةِ وهو لا يَكُونُ إلّا بِتَرْكِ النَّظَرِ إلى ما سِوى الحَقِّ جَلَّ جَلالُهُ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى زادَ تَأْكِيدًا لِلْإقْبالِ عَلَيْهِ والإعْراضِ عَمّا سِواهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿ولا تَدْعُ﴾ إلَخْ حَيْثُ أشارَ فِيهِ إلى أنَّ مَن طَلَبَ النَّفْعَ أوِ الضُّرَّ مِن غَيْرِهِ تَعالى فَهو ظالِمٌ أيْ واضِعٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ في غَيْرِ مَوْضِعِها ومِن هُنا قالَ شَقِيقٌ البَلْخِيُّ: الظّالِمُ مَن طَلَبَ نَفْعَهُ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ نَفْعَ نَفْسِهِ واسْتَدْفَعَ الضُّرَّ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ الدِّفاعَ عَنْ نَفْسِهِ ومَن عَجَزَ عَنْ إقامَةِ نَفْسِهِ كَيْفَ يُقِيمُ غَيْرَهُ وقَرَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: وإنْ يَمْسَسْكَ إلَخْ ومِن ذَلِكَ قالَ ابْنُ عَطاءٍ: إنَّهُ تَعالى قَطَعَ عَلى عِبادِهِ الرَّهْبَةَ والرَّغْبَةَ إلّا مِنهُ وإلَيْهِ بِإعْلامِهِ أنَّهُ الضّارُّ النّافِعُ وقَدْ يَكُونُ الضُّرُّ إشارَةً إلى الحِجابِ والخَيْرُ إشارَةً إلى كَشْفِ الجَمالِ أيْ إنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرِّ الحِجابِ فَلا كاشِفَ لِضُرِّكَ إلّا هو بِظُهُورِ أنْوارِ وِصالِهِ وإنْ يُرِدْكَ بِكَشْفِ جَمالِهِ فَلا رادَّ لِفَضْلِ وِصالِهِ مِن سَبَبٍ وعِلَّةٍ فَإنَّ المُخْتَصَّ في الأزَلِ بِالوِصالِ لا يَحْتَجِبُ بِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ لِأنَّهُ في الفَضْلِ السّابِقِ مَصُونٌ مِن جَرَيانِ القَهْرِ (هَذا) ولَعَلَّهُ مُغْنٍ عَنِ الكَلامِ مِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ حَسْبَما هو العادَةُ في الكِتابِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب