الباحث القرآني
(p-39)﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
فِيها أبْحاثٌ (البَحْثُ الأوَّلُ) اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيها، هَلْ هي مِن خَواصِّ هَذِهِ الأُمَّةِ أمْ لا؟ فَنَقَلَ العَلّامَةُ أبُو بَكْرٍ التُّونُسِيُّ إجْماعَ عُلَماءِ كُلِّ مِلَّةٍ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى افْتَتَحَ كُلَّ كِتابٍ بِها، ورَوى السُّيُوطِيُّ فِيما نَقَلَهُ عَنْهُ السِّرْمِينِيُّ والعُهْدَةُ عَلَيْهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فاتِحَةُ كُلِّ كِتابٍ، وذَهَبَ هَذا الرّاوِي إلى أنَّ البَسْمَلَةَ مِنَ الخُصُوصِيّاتِ لِما رُوِيَ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، إلى أنْ نَزَلَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها﴾ فَأمَرَ بِكِتابَةِ: بِسْمِ اللَّهِ، حَتّى نَزَلَ: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ فَأمَرَ بِكِتابَةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إلى أنْ نَزَلَتْ آيَةُ النَّمْلِ، فَأمَرَ بِكِتابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،» ولِما اشْتُهِرَ أنَّ مَعانِيَ الكُتُبِ في القُرْآنِ، ومَعانِيَهُ في الفاتِحَةِ، ومَعانِيَها في البَسْمَلَةِ، ومَعانِيَ البَسْمَلَةِ في الباءِ، فَلَوْ كانَتْ في الكُتُبِ القَدِيمَةِ لَأُمِرَ أوَّلَ الأمْرِ بِكِتابَتِها، ولَكانَتْ مَعانِي القُرْآنِ في كُلِّ كِتابٍ، واللّازِمُ مُنْتَفٍ، فَكَذا المَلْزُومُ، وفِيهِ أنَّ الأمْرَ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ لا يَسْتَلْزِمُ النَّفْيَ لِاحْتِمالِ نَفْيِ العِلْمِ إذْ ذاكَ، ولا ضَيْرَ، وأنَّ المُخْتَصَّ بِالقُرْآنِ اللَّفْظُ العَرَبِيُّ بِهَذا التَّرْتِيبِ، والكُتُبُ السَّماوِيَّةُ بِأسْرِها خِلافًا لِلْغَيْطِيِّ غَيْرُ عَرَبِيَّةٍ، وما في القُرْآنِ مِنها مُتَرْجَمٌ، فَلَرُبَّما لِهَذِهِ الألْفاظِ مَدْخَلٌ في الِاشْتِمالِ عَلى جَمِيعِ المَعانِي، فَلا تَكُونُ في غَيْرِ القُرْآنِ كَما تَوَهَّمَهُ السِّرْمِينِيُّ، وإنْ كانَ هُناكَ بَسْمَلَةٌ، عَلى أنَّ في أوَّلِ الدَّلِيلَيْنِ بِظاهِرِهِ دَلِيلًا عَلى عَدَمِ الخُصُوصِيَّةِ، (البَحْثُ الثّانِي) وهو مِن أُمَّهاتِ المَسائِلِ حَتّى أفْرَدَهُ جَمْعٌ بِالتَّصْنِيفِ، اخْتَلَفَ النّاسُ في البَسْمَلَةِ في غَيْرِ النَّمْلِ، إذْ هي فِيها بَعْضُ آيَةٍ بِالِاتِّفاقِ عَلى عَشَرَةِ أقْوالٍ، (الأوَّلُ) إنَّها لَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّوَرِ أصْلًا، (الثّانِي) أنَّها آيَةٌ مِن جَمِيعِها غَيْرَ بَراءَةٌ، (الثّالِثُ) أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ دُونَ غَيْرِها، (الرّابِعُ) أنَّها بَعْضُ آيَةٍ مِنها فَقَطِ، (الخامِسُ) أنَّها آيَةٌ فَذَّةٌ، أُنْزِلَتْ لِبَيانِ رُؤُسِ السُّوَرِ تَيَمُّنًا، ولِلْفَصْلِ بَيْنَها، (السّادِسُ) أنَّهُ يَجُوزُ جَعْلُها آيَةً مِنها، وغَيْرَ آيَةٍ لِتَكَرُّرِ نُزُولِها بِالوَصْفَيْنِ، (السّابِعُ) أنَّها بَعْضُ آيَةٍ مِن جَمِيعِ السُّوَرِ، (الثّامِنُ) أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ، وجُزْءُ آيَةٍ مِنَ السُّوَرِ، (التّاسِعُ) عَكْسُهُ، (العاشِرُ) أنَّها آياتٌ فَذَّةٌ، وإنْ أُنْزِلَتْ مِرارًا فابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ المُبارَكِ، وأهْلُ مَكَّةَ كابْنِ كَثِيرٍ، وأهْلُ الكُوفَةِ كَعاصِمٍ، والكِسائِيِّ، وغَيْرِهِما، سِوى حَمْزَةَ، وغالِبِ أصْحابِ الشّافِعِيِّ والإمامِيَّةِ عَلى الثّانِي، وقالَ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ، وحَمْزَةُ ونُسِبَ لِلْإمامِ أحْمَدَ بِالثّالِثِ، وأهْلُ المَدِينَةِ ومِنهم مالِكٌ، والشّامِ ومِنهُمُ الأوْزاعِيُّ، والبَصْرَةِ ومِنهم أبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ عَلى الخامِسِ، وهو المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِنا، وعَلى المَرْءِ نُصْرَةُ مَذْهَبِهِ، والذَّبُّ عَنْهُ وذَلِكَ بِإقامَةِ الحُجَجِ عَلى إثْباتِهِ وتَوْهِينِ أدِلَّةِ نُفاتِهِ، وكُنْتُ مِن قَبْلُ أعُدُّ السّادَةَ الشّافِعِيَّةَ لِي غَزِيَّةً، ولا أعُدُّ نَفْسِي إلّا مِنها، وقَدْ مَلَكَتْ فُؤادِي غُرَّةُ أقْوالِهِمْ، كَما مَلَكَتْ فُؤادَ قَيْسٍ لَيْلى العامِرِيَّةُ، فَحَيْثُ لاحَتْ لا مُتَقَدَّمَ ولا مُتَأخَّرَ لِي عَنْها.
؎أتانِي هَواها قَبْلَ أنْ أعْرِفَ الهَوى فَصادَفَ قَلْبًا خالِيًا فَتَمَكَّنا
إلى أنْ كانَ ما كانَ فَصِرْتُ مَشْغُولًا بِأقْوالِ السّادَةِ الحَنَفِيَّةِ، وأقَمْتُ مِنها بِرِياضِ شَقائِقِ النُّعْمانِ، واسْتَوْلى عَلَيَّ مِن حُبِّها ما جَعَلَنِي أتَرَنَّمُ بِقَوْلِ القائِلِ:
؎مَحا حُبُّها حُبَّ الأُلى كُنَّ قَبْلَها ∗∗∗ وحَلَّتْ مَكانًا لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِن قَبْلُ
وقَدْ أطالَ الفَخْرُ في هَذا المَقامِ المَقالَ، وأوْرَدَ سِتَّ عَشْرَةَ حُجَّةً لِإثْباتِ أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ كَما هو نَصُّ كَلامِهِ، ولا عِبْرَةَ بِالتَّرْجَمَةِ، فَها أنا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعالى رادُّهُ، ولا فَخْرَ، وناصِرٌ مَذْهَبِيِ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعالى، ومِنهُ التَّأْيِيدُ، والنَّصْرُ، فَأقُولُ: قالَ (p-40)(الحُجَّةُ الأُولى) رَوى الشّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها قالَتْ: «(قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فاتِحَةَ الكِتابِ، فَعَدَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آيَةً، ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ آيَةً، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آيَةً، ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ آيَةً، ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ آيَةً، ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ آيَةً، ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ آيَةً)،» وهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ، (الحُجَّةُ الثّانِيَةُ) رَوى سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «(فاتِحَةُ الكِتابِ سَبْعُ آياتٍ، أُولاهُنَّ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ )» .
(الحُجَّةُ الثّالِثَةُ) رَوى الثَّعْلَبِيُّ بِإسْنادِهِ، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(ألا أُخْبِرُكَ بِآيَةٍ لَمْ تَنْزِلْ عَلى أحَدٍ بَعْدَ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ غَيْرِي؟ فَقُلْتُ: بَلى، قالَ: بِأيِّ شَيْءٍ تَسْتَفْتِحُ القُرْآنَ إذا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ؟ فَقُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قالَ: هي هِيَ)،» (الحُجَّةُ الرّابِعَةُ) رَوى الثَّعْلَبِيُّ بِإسْنادِهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِيهِ، «عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ: (كَيْفَ تَقُولُ إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ؟ قالَ: أقُولُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ: قُلْ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ )،» ورَوى أيْضًا بِإسْنادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَقْرَأُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾،» ورَوى أيْضًا بِإسْنادِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ كانَ إذا افْتَتَحَ السُّورَةَ في الصَّلاةِ يَقْرَأُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وكانَ يَقُولُ: مَن تَرَكَ قِراءَتَها فَقَدْ نَقَصَ، ورَوى أيْضًا بِإسْنادِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ قالَ: فاتِحَةُ الكِتابِ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: فَأيْنَ السّابِعَةُ؟ فَقالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبِإسْنادِهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «(إذا قَرَأْتُمْ أُمَّ القُرْآنِ فَلا تَدَعُوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإنَّها إحْدى آياتِها)،» وبِإسْنادِهِ أيْضًا، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: (قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإذا قالَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قالَ: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإذا قالَ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: هَذا بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: هَذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَألَ)،» وبِإسْنادِهِ أيْضًا «عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في المَسْجِدِ، والنَّبِيُّ يُحَدِّثُ أصْحابَهُ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فافْتَتَحَ الصَّلاةَ، وتَعَوَّذَ، ثُمَّ قالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقالَ لَهُ: (يا رَجُلُ، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاةَ، أما عَلِمْتَ أنَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ مِنَ الحَمْدِ، فَمَن تَرَكَها فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِنها، ومَن تَرَكَ آيَةً مِنها فَقَدْ قَطَعَ عَلَيْهِ صَلاتَهُ، فَإنَّهُ لا صَلاةَ إلّا بِها، فَمَن تَرَكَ آيَةً مِنها فَقَدْ بَطَلَتْ صَلاتُهُ)،» وبِإسْنادِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(مَن تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِن كِتابِ اللَّهِ)».
(الحُجَّةُ الخامِسَةُ) قِراءَةُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ واجِبَةٌ في أوَّلِ الفاتِحَةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ تَكُونَ آيَةً مِنها، (بَيانُ الأوَّلِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ الباءُ صِلَةٌ لِأنَّ الأصْلَ أنْ تَكُونَ لِكُلِّ حَرْفٍ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى فائِدَةٌ، وإذا كانَ الحَرْفُ مُفِيدًا كانَ التَّقْدِيرُ: اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ، وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ، ولَمْ يَثْبُتْ في غَيْرِ القِراءَةِ لِلصَّلاةِ، فَوَجَبَ إثْباتُهُ في القِراءَةِ فِيها صَوْنًا لِلنَّصِّ عَنِ التَّعْطِيلِ.
(الحُجَّةُ السّادِسَةُ) التَّسْمِيَةُ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ القُرْآنِ، وكُلُّ ما لَيْسَ مِنَ القُرْآنِ فَإنَّهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ بِخَطِّ القُرْآنِ، ألا تَرى أنَّهم مَنَعُوا كِتابَةَ أسامِي السُّوَرِ في المُصْحَفِ، ومَنَعُوا مِنَ العَلاماتِ عَلى الأعْشارِ، والأخْماسِ، (p-41)والغَرَضُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ أنْ يَمْنَعُوا أنْ يَخْتَلِطَ بِالقُرْآنِ ما لَيْسَ بِقُرْآنٍ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّسْمِيَةُ مِنَ القُرْآنِ لَما كَتَبُوها بِخَطِّ القُرْآنِ.
(الحُجَّةُ السّابِعَةُ) أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ ما بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كَلامُ اللَّهِ تَعالى، والبَسْمَلَةَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُما، فَوَجَبَ جَعْلُها مِنهُ.
(الحُجَّةُ الثّامِنَةُ) أطْبَقَ الأكْثَرُونَ عَلى أنَّ الفاتِحَةَ سَبْعُ آياتٍ إلّا أنَّ الشّافِعِيَّ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ، وأبُو حَنِيفَةَ قالَ: إنَّها لَيْسَتْ آيَةً، لَكِنْ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ آيَةٌ، وسَنُبَيِّنُ أنَّ قَوْلَهُ مَرْجُوحٌ ضَعِيفٌ، فَحِينَئِذٍ يَبْقى أنَّ الآياتِ لا تَكُونُ سَبْعًا إلّا بِجَعْلِ البَسْمَلَةِ آيَةً تامَّةً مِنها.
(الحُجَّةُ التّاسِعَةُ) أنْ نَقُولَ: قِراءَةُ التَّسْمِيَةِ قَبْلَ الفاتِحَةِ واجِبَةٌ، فَوَجَبَ كَوْنُها آيَةً مِنها، بَيانُ الأوَّلِ: أنَّ أبا حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ أنَّ قِراءَتَها أفْضَلُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فالظّاهِرُ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَرَأها، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلَيْنا قِراءَتُها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ وإذا ثَبَتَ الوُجُوبُ ثَبَتَ أنَّها مِنَ السُّورَةِ، لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «(كُلُّ أمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهو أبْتَرُ)،» وأعْظَمُ الأعْمالِ بَعْدَ الإيمانِ الصَّلاةُ، فَقِراءَةُ الفاتِحَةِ بِدُونِ قِراءَتِها تُوجِبُ كَوْنَ الصَّلاةِ عَمَلًا أبْتَرَ، ولَفْظُهُ يَدُلُّ عَلى غايَةِ النُّقْصانِ والخَلَلِ بِدَلِيلِ أنَّهُ ذَكَرَ ذَمًّا لِلْكافِرِ الشّانِئِ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ لِلصَّلاةِ الخالِيَةِ عَنْها في غايَةِ النُّقْصانِ والخَلَلِ، وكُلُّ مَن أقَرَّ بِذَلِكَ قالَ بِالفَسادِ، وهو يَدُلُّ عَلى أنَّها مِنَ الفاتِحَةِ.
(الحُجَّةُ العاشِرَةُ) ما رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: (ما أعْظَمُ آيَةٍ في القُرْآنِ؟ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،» فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ في قَوْلِهِ، وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا المِقْدارَ آيَةٌ تامَّةٌ، ومَعْلُومٌ أنَّها لَيْسَتْ بِتامَّةٍ في النَّمْلِ، فَلا بُدَّ أنْ تَكُونَ في غَيْرِها، ولَيْسَ إلّا الفاتِحَةُ.
(الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ) عَنْ أنَسٍ أنَّ مُعاوِيَةَ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَصَلّى بِالنّاسِ صَلاةً جَهْرِيَّةً، فَقَرَأ أُمَّ القُرْآنِ، ولَمْ يَقْرَإ البَسْمَلَةَ، فَلَمّا قَضى صَلاتَهُ، ناداهُ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ: أنَسِيتَ، أيْنَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حِينَ اسْتَفْتَحْتَ القُرْآنَ؟ فَأعادَ مُعاوِيَةُ الصَّلاةَ وجَهَرَ بِها.
(الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ) أنَّ سائِرَ الأنْبِياءِ كانُوا عِنْدَ الشُّرُوعِ في أعْمالِ الخَيْرِ يَبْتَدِئُونَ بِاسْمِ اللَّهِ، فَقَدْ قالَ نُوحٌ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها﴾ وسُلَيْمانُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿ألا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلى رَسُولِنا ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في حَقِّهِ ثَبَتَ أيْضًا في حَقِّنا لِقَوْلِهِ تَعالى: ”فاتَّبَعُوهُ“ وإذا ثَبَتَ في حَقِّنا ثَبَتَ أنَّها آيَةٌ مِن سُورَةِ الفاتِحَةِ.
(الحُجَّةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ) أنَّهُ تَعالى قَدِيمٌ والغَيْرُ مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ المُناسَبَةِ العَقْلِيَّةِ أنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ سابِقًا عَلى ذِكْرِ غَيْرِهِ، والسَّبْقُ في الذِّكْرِ لا يَحْصُلُ إلّا إذا كانَتْ قِراءَةُ البَسْمَلَةِ سابِقَةً، وإذا ثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِوُجُوبِ هَذا التَّقْدِيمِ فَما رَآهُ المُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهو عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وإذا ثَبَتَ وُجُوبُ القِراءَةِ ثَبَتَ أنَّها آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ، لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
(الحُجَّةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ) أنَّهُ لا شَكَّ أنَّها مِنَ القُرْآنِ في سُورَةِ النَّمْلِ، ثُمَّ إنّا نَراهُ مُكَرَّرًا بِخَطِّ القُرْآنِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مِنَ القُرْآنِ، كَما أنّا رَأيْنا قَوْلَهُ تَعالى: ”ويْل يَوْمئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ“، ”فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تَكْذِبانِ“ مُكَرَّرًا كَذَلِكَ، قُلْنا: إنَّ الكُلَّ مِنهُ.
(الحُجَّةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ) رُوِيَ: «(أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)» الحَدِيثَ، وهو يَدُلُّ عَلى أنَّ أجْزاءَ هَذِهِ الكَلِمَةِ كُلَّها مِنَ القُرْآنِ، مَجْمُوعُها مِنهُ، وهو مُثْبَتٌ فِيهِ، فَوَجَبَ الجَزْمُ بِأنَّهُ مِنَ القُرْآنِ، إذْ لَوْ جازَ إخْراجُهُ مَعَ هَذِهِ المُوجِباتِ، والشُّهْرَةِ لَكانَ جَوازُ إخْراجِ سائِرِ الآياتِ أوْلى، وذَلِكَ يُوجِبُ الطَّعْنَ في القُرْآنِ العَظِيمِ.
(الحُجَّةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ) قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ يُنْزِلُ هَذِهِ الكَلِمَةَ عَلى مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَأْمُرُ بِكِتابَتِها بِخَطِّ المُصْحَفِ فِيهِ، وبَيَّنّا أنَّ حاصِلَ الخِلافِ في أنَّهُ: هَلْ تَجِبُ قِراءَتُهُ؟ وهَلْ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ فَنَقُولُ: ثُبُوتُ هَذِهِ الأحْكامِ أحْوَطُ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، لِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبُكَ)،» انْتَهى كَلامُهُ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ البَعْضَ مِنهُ مُجابٌ عَنْهُ، والبَعْضَ لا يَقُومُ حُجَّةً عَلَيْنا، لِأنَّ الصَّحِيحَ مِن مَذْهَبِنا أنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وهي مِنَ القُرْآنِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الفاتِحَةِ نَفْسِها، وقَدْ أوْجَبَ الكَثِيرُ مِنّا قِراءَتَها في الصَّلاةِ، وذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ في شَرْحِ الكَنْزِ: أنَّ الأصَحَّ أنَّها واجِبَةٌ، وذَكَرَ الزّاهِدِيُّ عَنِ المُجْتَبى: أنَّ الصَّحِيحَ أنَّها (p-42)واجِبَةٌ في كُلِّ رَكْعَةٍ تَجِبُ فِيها القِراءَةُ، وهي الرِّوايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وقالَ ابْنُ وهْبانَ في مَنظُومَتِهِ:
؎ولَوْ لَمْ يُبَسْمِلْ ساهِيًا كُلَّ رَكْعَةٍ ∗∗∗ فَيَسْجُدُ إذْ إيجابُها قالَ الأكْثَرُ
وفِي غُنْيَةِ المُتَمَلِّي: وهو الأحْوَطُ، وبِهِ أقُولُ خِلافًا لِقاضِي خانْ، وصاحِبِ الخُلاصَةِ، وغَيْرِهِمْ، والحَقُّ أحَقُّ بِالِاتِّباعِ، والقَوْلُ عَنْ بَعْضِ هَذا أنَّهُ مِن طُغْيانِ القَلَمِ غايَةُ الطُّغْيانِ، ونِهايَةٌ في التَّعَصُّبِ مِن غَيْرِ إتْقانٍ، ولْنَتَكَلَّمْ عَلى ما ذَكَرَهُ هَذا العَلّامَةُ عَلى التَّفْصِيلِ، (فَنَقُولُ): أمّا ما ذَكَرَهُ في الحُجَّةِ الأُولى مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ بِالوَجْهِ الَّذِي رَواهُ مُخالِفٌ لِما في البَيْضاوِيِّ المُخالِفِ لِما في الكُتُبِ الحَدِيثِيَّةِ، فَيُجابُ عَنْهُ بِأنَّ أبا مُلَيْكَةَ لَمْ يَثْبُتْ سَماعُهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وبِتَقْدِيرِهِ لِلْمُعاصَرَةِ، يُقالُ: إنَّ هَذا اللَّفْظَ لَمْ يُوجَدْ في المَشْهُورِ، ولَعَلَّهُ نَقَلَ بِالمَعْنى لِبَعْضِ الرِّواياتِ الآتِيَةِ عَلى حَسَبِ ما يَلُوحُ لَهُ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ، وأحْمَدُ، وأبُو داوُدَ بِلَفْظِ: «(كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَطِّعُ قِراءَتَهُ آيَةً آيَةً ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ )،» وابْنُ الأنْبارِيِّ، والبَيْهَقِيُّ: «(كانَ إذا قَرَأ قَطَّعَ قِراءَتَهُ آيَةً آيَةً يَقُولُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ )،» وابْنُ خُزَيْمَةَ، والحاكِمُ بِلَفْظِ: «(أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَرَأ في الصَّلاةِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فَعَدَّها آيَةً ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ اثْنَيْنِ، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ثَلاثَ آياتٍ، ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ أرْبَعَ آياتٍ، وقالَ: هَكَذا ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وجَمَعَ خَمْسَ أصابِعِهِ)،» والدّارَقُطْنِيّ بِلَفْظِ: «(كانَ يَقْرَأُ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِها، قَطَّعَها آيَةً آيَةً وعَدَّها عَدَّ الأعْرابِ، وعَدَّ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولَمْ يَعُدَّ: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ )،» والرِّوايَةُ الأُولى والثّانِيَةُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: عَنَتْ بِهِما بَيانَ كَيْفِيَّةِ قِراءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِسائِرِ القُرْآنِ، وذَكَرَتْ بَعْضًا مِنهُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، ولَمْ تَسْتَوْعِبْ، ولَيْسَ فِيهِما سِوى إثْباتِ أنَّها آيَةٌ، وهو مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مِنَ القُرْآنِ، وأمّا أنَّها مِنَ الفاتِحَةِ فَلا، وكَذا في الرِّوايَةِ الثّالِثَةِ إثْباتُ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يَقْرَؤُها في الصَّلاةِ، ويَعُدُّها آيَةً لِوُقُوفِهِ عَلَيْها، وهو مُسَلَّمُنا أيْضًا، وهي الآيَةُ الأُولى مِنَ القُرْآنِ، والآيَةُ الثّانِيَةُ مِنهُ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وهَكَذا إلى الخامِسَةِ، وجَمَعَتِ الأصابِعَ، وانْقَطَعَ الكَلامُ، وأمّا الرِّوايَةُ الرّابِعَةُ فَلَيْسَتْ نَصًّا أيْضًا في أنَّ البَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ الفاتِحَةِ، إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: كانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ في بَعْضِ الأوْقاتِ في الصَّلاةِ أوْ غَيْرِها، ولا دَوامَ، لا وضْعًا ولا اسْتِعْمالًا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِها، أيِ الآياتُ قَطَّعَها آيَةً آيَةً، ولَمْ يُوصِلْ بَعْضَها بِبَعْضٍ، وعَدَّها عَدَّ الأعْرابِ، واحِدَةً واحِدَةً، وعَدَّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولَمْ يُسْقِطْها لِوُجُوبِها في الصَّلاةِ، ولِلِاعْتِناءِ بِها في غَيْرِها لِما فِيها مِن عَظائِمِ الأسْرارِ ودَقائِقِ الأفْكارِ، ومِن هَذا أوْجَبَ الكَثِيرُ مِن عُلَمائِنا سُجُودَ السَّهْوِ عَلى مَن تَرَكَها، وقَدْ أزالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ ظَنَّ أنَّها لَيْسَتْ مِنَ القُرْآنِ لِاسْتِعْمالِها في أوائِلِ الرَّسائِلِ، ومَبادِي الشُّؤُونِ، ولَمْ يَعُدَّ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمْ يَقِفْ عَلَيْها، بَلْ وصَلَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تِلْكَ المَرَّةَ، لِبَيانِ الجَوازِ وعَدَمِ تَخَيُّلِ شَيْءٍ يُنافِي كَوْنَها آيَةً، بَلْ هُناكَ ما يُشْعِرُ بِهِ، فَإنَّ تَقارُبَ الآيِ في الطُّولِ والقِصَرِ كَتَقارُبِ الفَقَراتِ، شَيْءٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وعَدَمُ التَّشابُهِ في المَقاطِعِ لا يَضُرُّ، فَأيْنَ أفْواجًا مِنَ الفَتْحِ، فَلُزُومُ الرِّعايَةِ غَيْرُ لازِمٍ، وكَوْنُ المَوْصُوفِ في آيَةٍ والصِّفَةِ في آيَةٍ أُخْرى مَسْبُوقٌ بِالمَثَلِ، وسابِقٌ عَلى الأمْثالِ، ومَن أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، وعَرَفَ الَّذِينَ ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وجَدَهُ تامًّا، وعَدَّ تَوَقُّفَهُ عَلى الشَّرْطِ المَفْهُومِ مِن غَيْرِ المَغْضُوبِ كَلامًا ناقِصًا، وعَلى هَذا لَمْ يَثْبُتْ في هَذِهِ (p-43)الرِّوايَةِ سِوى أنَّ البَسْمَلَةَ آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ، وهو مُسَلَّمٌ عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ، وأمّا إنَّها مِنَ الفاتِحَةِ، فَدُونَهُ خَرْطُ القَتادِ.
وأمّا ما ذَكَرَهُ في الحُجَّةِ الثّانِيَةِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: «( ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ سَبْعُ آياتٍ، ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إحْداهُنَّ، وهي السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ، وهي أُمُّ القُرْآنِ، وهي فاتِحَةُ الكِتابِ)،» وأخْرَجَهُ الدّارَقُطْنِيّ بِلَفْظِ: «(إذا قَرَأْتُمُ الحَمْدَ، فاقْرَءُوا: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إنَّها أُمُّ القُرْآنِ، وأُمُّ الكِتابِ، والسَّبْعُ المَثانِي، و﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إحْدى آياتِها)،» ومَعْنى الرِّوايَةِ الأُولى ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِ الآياتِ سَبْعُ آياتٍ، وبِهِ قالَ الحَنَفِيُّونَ، ولَمّا لاحَظَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَوَهُّمَ السّامِعِينَ مِن عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلْبَسْمَلَةِ مَعَ تِلْكَ الشُّبْهَةِ السّالِفَةِ كَوْنِها لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ أزالَ هَذا التَّوَهُّمَ بِوَجْهٍ بَلِيغٍ فَقالَ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إحْداهُنَّ، أيْ مِثْلُ إحْداهُنَّ في كَوْنِها آيَةً مِنَ القُرْآنِ، ومَعْنى الثّانِيَةِ: إذا أرَدْتُمْ قِراءَةَ الحَمْدَ إلى آخِرِ ما يَلِيهِ فاقْرَءُوا قَبْلَهُ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إنَّها أيِ الحَمْدَ إلى الآخَرِ أُمُّ القُرْآنِ، وأُمُّ الكِتابِ، والسَّبْعُ المَثانِي، وهَذا كالتَّعْلِيلِ، أوِ التَّرْغِيبِ، بِقِراءَةِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ إلى آخِرِها، وقَوْلُهُ: و﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ إحْدى آياتِها عَلى حَدِّ ما ذُكِرَ في مَعْنى الرِّوايَةِ الأُولى، وهو كالتَّعْلِيلِ، أوِ التَّرْغِيبِ أيْضًا في قِراءَةِ البَسْمَلَةِ، وما ذَكَرْناهُ، وإنْ كانَ فِيهِ ارْتِكابُ مَجازٍ، لَكِنْ دَعانا إلَيْهِ إجْراءُ صَدْرِ الكَلامِ عَلى حَقِيقَتِهِ، وإنْ أُجْرِيَ هَذا عَلى ظاهِرِهِ فَلا بُدَّ مِنِ ارْتِكابِ المَجازِ في الصَّدْرِ كَما لا يَخْفى، وهو ارْتِكابٌ خِلافُ الأصْلِ قَبْلَ الحاجَةِ إلَيْهِ، وأمّا ما ذَكَرَهُ في الحُجَّةِ الثّالِثَةِ فَلَيْسَ سِوى إثْباتِ أنَّ التَّسْمِيَةَ مِنَ القُرْآنِ كَما أقَرَّ هو بِهِ، ولَسْنا مِمَّنْ نُخالِفُهُ فِيهِ، وأمّا ما ذَكَرَهُ في الرّابِعَةِ، فالحَدِيثُ الأوَّلُ، والثّانِي، والثّالِثُ، والسّادِسُ مَعَ ضَعْفِهِ، والثّامِنُ لا تَدُلُّ عَلى المَقْصُودِ، ونَحْنُ نَقُولُ بِما تَدُلُّ عَلَيْهِ، والرّابِعُ مَوْقُوفٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ، ولا نُسَلِّمُ أنَّ حُكْمَهُ الرَّفْعُ لِجَوازِ الِاجْتِهادِ، وإنْ قُلْنا أنَّ الصَّحِيحَ أنَّ الآيَةَ إنَّما تُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الشّارِعِ كَمَعْرِفَةِ السُّورَةِ مَثَلًا، ولِذَلِكَ عَدُّوا ”الم“ آيَةً حَيْثُ وقَعَتْ، ولَمْ يَعُدُّوا ”المر“ لِأنّا لَمْ نَقُلْ: إنَّها جُزْءُ آيَةٍ، واجْتَهَدَ فَجَعَلَها آيَةً، بَلْ قُلْنا: إنَّها آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنَ القُرْآنِ، واجْتَهَدَ وجَعَلَها آيَةً مِنَ الفاتِحَةِ، أوْ نَقُولُ: إنَّهُ قالَ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ تَوْقِيفٍ، لَكِنْ عَلى ظَنِّهِ واجْتِهادِهِ أنَّهُ تَوْقِيفٌ، والخامِسُ لِي شَكٌّ في صِحَّتِهِ بِهَذا اللَّفْظِ، ولَعَلَّهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي خَرَّجَهُ بِهِ الدّارَقُطْنِيّ، وقَدْ سَلَفَ بِتَقْرِيرِهِ، ولَيْسَ لِي اعْتِمادٌ عَلى الفَخْرِ في الأحادِيثِ، ولَيْسَ مِن حُفّاظِها، وأُراهُ إذا نَقَلَ بِالمَعْنى غَيَّرَ، ولَيْسَ عِنْدِي تَفْسِيرُ الثَّعْلَبِيِّ لِأراهُ، فَإنَّ النَّقْلَ مِنهُ، والسّابِعُ لا تَلُوحُ عَلَيْهِ طَلاوَةُ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولا فَصاحَتُهُ، وهو أفْصَحُ مَن نَطَقَ بِالضّادِ بَلْ مَن مارَسَ الأحادِيثَ جَزَمَ بِوَضْعِ هَذا، ولَعَمْرِي لَوْ كانَ صَحِيحًا لاكْتَفى بِهِ الشّافِعِيَّةُ أوْ لَقَدَّمُوهُ عَلى سائِرِ أدِلَّتِهِمْ، ويالَيْتَهُ ذَكَرَ إسْنادَهُ لِنَراهُ، وأمّا الحُجَّةُ الخامِسَةُ فَفِيها أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ وُجُوبَها في أوَّلِ الفاتِحَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِها آيَةً مِنها، واسْتِدْلالُهُ في هَذا المَقامِ بِقَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ واهٍ جِدًّا مِن وُجُوهٍ أظْهَرَ مِنَ الشَّمْسِ، فَلا نُتْعِبُ البَنانَ بِبَيانِها، وأمّا الحُجَّةُ السّادِسَةُ فَهو أقْوى ما يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلى كَوْنِ البَسْمَلَةِ مِنَ القُرْآنِ، وأمّا عَلى أنَّها مِنَ الفاتِحَةِ فَلا، وتَعَرَّضَ نُفاةُ كَوْنِها قُرْآنًا لِلتَّكَلُّمِ في هَذا الدَّلِيلِ مِمّا لا يَرْضاهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ والذِّهْنُ المُسْتَقِيمُ، والإنْصافُ نِصْفُ الدِّينِ، والِانْقِيادُ لِلْحَقِّ مِن أخْلاقِ المُؤْمِنِينَ، وأمّا الحُجَّةُ السّابِعَةُ فَلَنا لا عَلَيْنا كَما لا يَخْفى، وأمّا الحُجَّةُ الثّامِنَةُ فَدُونَ إثْباتِ مَدارِها - وهو تَوْهِينُ كَلامِ مَوْلانا أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - جِبالٌ راسِياتٌ، وأمّا الحُجَّةُ التّاسِعَةُ فَهي كالحُجَّةِ الخامِسَةِ حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، واسْتِدْلالُهُ بِقَوْلِهِ: (كُلُّ أمْرٍ ذِي بالٍ) إلَخْ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ الفاتِحَةَ جُزْءٌ مِنَ الصَّلاةِ المُفْتَتَحَةِ بِالتَّكْبِيرِ المُقارِنِ لِلنِّيَّةِ الَّذِي هو رُكْنٌ مِنها، فَحَيْثُ لَمْ تُفْتَتَحْ بِالبَسْمَلَةِ عُدَّتْ بَتْراءَ، فَبَطَلَتْ، وكَذا الرُّكُوعُ والسُّجُودُ الَّذِي أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ فِيهِ إلى رَبِّهِ، كُلٌّ مِنهُما أمْرٌ ذُو بالٍ، فَإذا لَمْ يُفْتَتَحْ بِالبَسْمَلَةِ كانَ أبْتَرَ باطِلًا، فَحُسْنُ الظَّنِّ بِدِيانَةِ العَلّامَةِ وعِلْمِهِ أنَّهُ كانَ يُبَسْمِلُ أوَّلَ (p-44)صَلاتِهِ، وعِنْدَ رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ، وسائِرِ انْتِقالاتِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ، وأمّا الحُجَّةُ العاشِرَةُ فَلا تَقُومُ عَلَيْنا لِأنّا أعْلَمْناكَ بِمَذْهَبِنا، وأمّا الحُجَّةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ فَقُصارى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرٌ أبْعَدُ تَسْلِيمِها أنَّ مُعاوِيَةَ لَمّا لَمْ يَقْرَإ البَسْمَلَةَ وتَرَكَ الواجِبَ ولَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ، أعادَ الصَّلاةَ لِتَقَعَ سَلِيمَةً مِنَ الخَلَلِ، ولِهَذا أمْهَلُوهُ إلى أنْ فَرَغَ لِيَرَوْا أيَجْبُرُ الخَلَلَ بِسُجُودِ السَّهْوِ أمْ لا، واعْتِراضُهم عَلَيْهِ بِتَرْكِ واجِبٍ يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ لَيْسَ أغْرَبَ مِنِ اعْتِراضِهِمْ عَلَيْهِ في تِلْكَ الصَّلاةِ أيْضًا بِتَرْكِ هَيْئَةٍ، حَيْثُ رَوى الشّافِعِيُّ نَفْسُهُ كَما نَقَلَهُ الفَخْرُ نَفْسُهُ أنَّ مُعاوِيَةَ قَدِمَ المَدِينَةَ، فَصَلّى بِهِمْ، ولَمْ يَقْرَأْ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ولَمْ يُكَبِّرْ عِنْدَ الخَفْضِ إلى الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، فَلَمّا سَلَّمَ، ناداهُ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ: يا مُعاوِيَةُ، سَرَقْتَ مِنَ الصَّلاةِ، أيْنَ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وأيْنَ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ والسُّجُودِ؟ ثُمَّ أنَّهُ أعادَ الصَّلاةَ مَعَ التَّسْمِيَةِ، والتَّكْبِيرِ، وهَذا لا يَضُرُّنا، نَعَمْ، يَبْقى الجَهْرُ، والبَحْثُ عَنْهُ مَخْفِيٌّ الآنَ، وأمّا الحُجَّةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ فَفِيها كَما تَقَدَّمَ أنَّ الوُجُوبَ لا يَسْتَلْزِمُ الجُزْئِيَّةَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: أنَّ سائِرَ الأنْبِياءِ يَبْتَدِئُونَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِأعْمالِ الخَيْرِ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلى رَسُولِنا ذَلِكَ إلَخْ، واسْتَدَلَّ عَلى الوُجُوبِ عَلَيْهِ، إذْ وجَبَ عَلَيْهِمْ، عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ لا أدْرِي ما أقُولُ فِيهِ سِوى أنَّهُ جَهْلٌ بِالتَّفْسِيرِ، وعَدَمُ اطِّلاعٍ عَلى أخْبارِ البَشِيرِ النَّذِيرِ، وأمّا الحُجَّةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ فَلا تُجْدِيهِ نَفْعًا في مُقابَلَتِنا أيْضًا، وفِيها ما في أخَواتِها، وأمّا الحُجَجُ الباقِيَةُ فَكَكَثِيرٍ مِنَ الماضِيَةِ، لا تَنْفَعُ في البَحْثِ مَعَنا إلّا بِتَسْوِيدِ القِرْطاسِ، وتَضْيِيعِ نَفائِسِ الأنْفاسِ، عَلى أنَّ بَعْضَ ما ذَكَرَهُ مُعارَضٌ بِما أخْرَجَ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: «(قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَألَ، فَإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قالَ: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قالَ اللَّهُ تَعالى: هَذا بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَألَ، فَإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ قالَ: هَذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَألَ)،» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ البَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الفاتِحَةِ، وأنَّها سَبْعٌ بِدُونِها، حَيْثُ جَعَلَ الوُسْطى ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ والثَّلاثَ قَبْلَها لِلَّهِ تَعالى، والثَّلاثَ بَعْدَها لِلْعَبْدِ، ولَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أنَّها مِنَ القُرْآنِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ أصَحُّ مِن رِوايَةِ الثَّعْلَبِيِّ، ولا أُقَدِّمُ ثَعْلَبِيًّا عَلى مُسْلِمٍ، وكَذا مِن رِوايَةِ السِّجِسْتانِيِّ، ومَتى خالَفَ الرّاوِي الثِّقَةُ مَن هو أوْثَقُ مِنهُ بِزِيادَةٍ أوْ نَقْصٍ فَحَدِيثُهُ شاذٌّ، ولَيْسَ هَذا مِن بابِ النَّفْيِ والإثْباتِ كَما ظَنَّهُ مَن لَيْسَ لَهُ في هَذا الفَنِّ رُسُوخٌ، ولا ثَباتٌ، وحَمْلُ النِّصْفِ فِيهِ عَلى النِّصْفِ في المَعْنى أوِ الصِّنْفِ مِن عَدَمِ الإنْصافِ، إذْ ذاكَ مَجازٌ ولا حاجَةَ إلَيْهِ، ولا قَرِينَةَ عَلَيْهِ، وجَعْلُهُ حَقِيقَةً لَكِنْ بِاعْتِبارِ الدُّعاءِ والثَّناءِ يُكَذِّبُهُ العَدُّ والقَوْلُ، بِأنَّ مَدارَ الرِّوايَةِ العَلاءُ، وقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، فَهو عَلى جَلالَةِ الرَّجُلِ لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ، لِأنَّ المُوَثَّقَ كَثِيرٌ، وتَقْدِيمَ الجَرْحِ عَلى التَّعْدِيلِ لَيْسَ بِالمُطْلَقِ، بَلْ إنْ لَمْ يَكْثُرِ المُعَدِّلُونَ جِدًّا، وقَدْ كَثُرُوا هُنا، وكَوْنُ التَّقْسِيمِ لِما يَخُصُّ الفاتِحَةَ والبَسْمَلَةَ مُشْتَرِكَةً مَعَ كَوْنِهِ خِلافَ الظّاهِرِ لا تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ، إذْ هي عِنْدَ الخَصْمِ أشْرَفُ الأجْزاءِ، وكَوْنُ المُرادِ بَعْضَ قِراءَةِ الصَّلاةِ إذِ الظّاهِرُ لا يُمْكِنُ أنْ يُرادَ لِوُجُودِ الأعْمالِ، وضَمِّ السُّورَةِ، ويَتَحَقَّقُ البَعْضُ بِهَذا البَعْضِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذِ اللّائِقُ أنْ يَكُونَ البَعْضُ مُسْتَقِلًّا بِمَبْدَءٍ، ومَقْطَعٍ، والثّانِي مَوْجُودٌ، والأوَّلُ عَلى قَوْلِنا، وأيْضًا الفاتِحَةُ سُورَةٌ كالكَوْثَرِ والمُلْكِ، وقَدْ نَصَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيما رَواهُ أبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ بِأنَّ الأُولى ثَلاثُ آياتٍ، (p-45)والثّانِيَةَ ثَلاثُونَ، ووَقَفَهم عَلَيْها، ولَمْ يَعُدَّ البَسْمَلَةَ، ولَوْ عَدَّها مُسْتَقِلَّةً لَزادَ العَدَدَ أوْ جُزْءًا لَوَرَدَ، وعَلى المُثْبِتِ البَيانُ، وأنّى هُوَ، عَلى أنَّهُ يَرُدُّ عَلى الثّانِي اسْتِلْزامَهُ لِلتَّحَكُّمِ بِدَعْوى الِاسْتِقْلالِ في الفاتِحَةِ، والبَعْضِيَّةِ في غَيْرِها، وقَوْلُ الرّازِيِّ هَذا غَيْرُ بَعِيدٍ، فَـ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ آيَةٌ تارَةً، وجُزْءُ آيَةٍ أُخْرى، كَما في ﴿وآخِرُ دَعْواهُمْ﴾ الآيَةَ، بَعِيدٌ بَلْ قِياسٌ باطِلٌ لِوُجُودِ المُقْتَضِي لِلْجُزْئِيَّةِ هُناكَ، وانْتِفائِهِ هُنا، وأيْضًا نَزَلَ الكَثِيرُ مِنَ السُّوَرِ بِلا بَسْمَلَةٍ، ثُمَّ ضُمَّتْ بَعْدُ، وحَدِيثُ الصَّحِيحِ في بَدْءِ الوَحْيِ يُبْدِي صِحَّةَ ما قُلْنا، وهَذا يُبْعِدُ كَوْنَها آيَةً مِنَ السُّورَةِ أوْ جُزْءَ آيَةٍ، وكَوْنُها لَمْ تَنْزِلْ بَعْدُ يُبْعِدُ الثّانِيَ إنْ لَمْ يُبْعِدِ الأوَّلَ، وحَدِيثُ أنَّها أوَّلُ ما نَزَلَتْ، لَيْسَ بِالقَوِيِّ، بَلِ الثّابِتِ، ويُشْكِلُ عَلَيْهِ ما رُوِيَ أنَّهُ كانَ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ إلَخْ، عَلى أنَّ الأوَّلِيَّةَ إنْ سَلِمَتْ وسُلِّمَتْ لا تَضُرُّنا، وبِالجُمْلَةِ يَكادُ أنْ يَكُونَ اعْتِقادُ عَدَمِ كَوْنِ البَسْمَلَةِ جُزْءًا مِن سُورَةٍ مِنَ الفِطْرِيّاتِ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن سَلَّمَ لَهُ وِجْدانَهُ، فَهي آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ مُسْتَقِلَّةٌ، ولا يَنْبَغِي لِمَن وقَفَ عَلى الأحادِيثِ أنْ يَتَوَقَّفَ في قُرْآنِيَّتِها، أوْ يُنْكِرَ وُجُوبَ قِراءَتِها، ويَقُولَ بِسُنِّيَّتِها، فَواللَّهِ لَوْ مُلِئَتْ لِي الأرْضُ ذَهَبًا، لا أذْهَبُ إلى هَذا القَوْلِ، وإنْ أمْكَنَنِي - والفَضْلُ لِلَّهِ تَعالى - تَوْجِيهُهُ، كَيْفَ وكُتُبُ الأحادِيثِ مَلْأى بِما يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ، وهو الَّذِي صَحَّ عِنْدِي عَنِ الإمامِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ لَمْ يَنُصَّ بِشَيْءٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وكَيْفَ لا يَنُصُّ إلى آخِرِ عُمْرِهِ في مِثْلِ هَذا الأمْرِ الخَطِيرِ الدّائِرِ عَلَيْهِ أمْرُ الصَّلاةِ مِن صِحَّتِها أوِ اسْتِكْمالِها، ويُمْكِنُ أنْ يُناطَ بِهِ بَعْضُ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وأُمُورُ الدِّياناتِ، كالطَّلاقِ، والحَلِفِ، والتَّعْلِيقِ، وهو الإمامُ الأعْظَمُ، والمُجْتَهِدُ الأقْدَمُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، والإخْفاءُ بِها في الجَهْرِيَّةِ لا يَدُلُّ عَلى السُّنِّيَّةِ، فَإنَّ القَوْلَ بِوُجُوبِها لا يُنافِي إخْفاءَها اتِّباعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «(لَمْ يَجْهَرِ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالبَسْمَلَةِ حَتّى ماتَ)،» ورَوى مُسْلِمٌ، «عَنْ أنَسٍ: (صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ فَلَمْ أسْمَعْ مِنهم أحَدًا يَقْرَأُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،» ولَمْ يَرِدْ نَفْيُ القِراءاتِ بَلْ سَماعُها لِلْإخْفاءِ بِدَلِيلِ ما صُرِّحَ بِهِ عَنْهُ، فَكانُوا لا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رَواهُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ بِإسْنادٍ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ورَوى الطَّبَرانِيُّ بِإسْنادٍ عَنْهُ: «(أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأبا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، وعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ)،» ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُغَفَّلِ، ولا نُسَلِّمُ ضَعْفَهُ أنَّهُ قالَ: «سَمِعَنِي أبِي وأنا أقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقالَ: أيْ بُنَيَّ، إيّاكَ والحَدَثَ في الإسْلامِ، فَقَدْ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وخَلْفَ أبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ فابْتَدَءُوا القِراءَةَ بِـ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ فَإذا صَلَّيْتَ فَقُلِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾» أيِ اجْهَرْ بِها، وأخْفِ البَسْمَلَةَ، وهو مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ، وابْنِ المُبارَكِ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، وعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، والحَسَنِ ابْنِ أبِي الحُسَيْنِ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، وقَتادَةَ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، والأعْمَشِ، والزُّهْرِيِّ، ومُجاهِدٍ، وأحْمَدَ، وغَيْرُهم خَلْقٌ كَثِيرٌ، وأحادِيثُ الجَهْرِ لَمْ يَصِحَّ مِنها سِوى حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ الَّذِي أخْرَجَهُ الشّافِعِيُّ عَنْهُ: «(كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ (p-46)يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،» وهو مُعارَضٌ بِما تَقَدَّمَ عَنْهُ، أوْ مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ كانَ يَجْهَرُ بِها أحْيانًا لِبَيانِ أنَّهُ تُقْرَأُ فِيها كَما جَهَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِالثَّناءِ لِلتَّعْلِيمِ، وكَما شُرِعَ الجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ لِلْإعْلامِ، وحَتّى ماتَ، هُناكَ قَيْدٌ لِلْمَنفِيِّ لا لِلنَّفْيِ فَلا يَتَنافَيانِ، عَلى أنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الحُفّاظِ لَيْسَ حَدِيثٌ صَرِيحٌ في الجَهْرِ إلّا وفي إسْنادِهِ مَقالٌ، وعَنِالدّارَقُطْنِيّ أنَّهُ صَنَّفَ كِتابًا في الجَهْرِ، فَأقْسَمَ عَلَيْهِ بَعْضُ المالِكِيَّةِ لِيُعَرِّفَهُ الصَّحِيحَ فَقالَ: لَمْ يَصِحَّ في الجَهْرِ حَدِيثٌ، والقَوْلُ بِأنَّ الرِّوايَةَ عَنْ أنَسٍ سِتٌّ مُتَعارِضَةٌ، فَتارَةً يُرْوى عَنْهُ الجَهْرُ وأُخْرى الإخْفاءُ، لِلْخَوْفِ مِن بَنِي أُمَيَّةَ المُخالِفِينَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، إذْ مَذْهَبُهُ الجَهْرُ لا يَضُرُّنا، إذْ يُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعارُضِ الأقْوى إسْنادًا، وهو هُنا ما يُوافِقُنا، إذْ هو عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وتُهْمَةُ الرّاوِي المُخالِفِ بِالكَذِبِ عَلى أنَسٍ أهْوَنُ عِنْدِي مِن تُهْمَةِ أنَسٍ صاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالكَذِبِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومُقَدَّمِي أصْحابِهِ.
* * *
(ومِن عَجائِبِ الرّازِيِّ ) كَيْفَ يُبْدِي احْتِمالَ التُّهْمَةِ، ويَرْوِي اعْتِراضَ أهْلِ المَدِينَةِ عَلى سَيِّدِ مُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الشَّنِيعِ، والمَحَلِّ الرَّفِيعِ، فَهَلّا خافُوا، وسَكَتُوا، وصافَوْا، والأعْجَبُ مِن هَذا أنَّهُ ذَكَرَ سِتَّ حُجَجٍ لِإثْباتِ الجَهْرِ هي أخْفى مِنَ العَدَمِ، (الأُولى) أنَّ البَسْمَلَةَ مِنَ السُّورَةِ، فَحُكْمُها حُكْمُها سِرًّا وجَهْرًا، وكَوْنُ البَعْضِ سِرِّيًّا، والبَعْضِ جَهْرِيًّا مَفْقُودٌ، ويَرُدُّهُ ما عَلِمْتَهُ في الرُّدُودِ، وبِفَرْضِ تَسْلِيمِ أنَّها مِنَ السُّورَةِ، أيُّ مانِعٍ مِن إسْرارِ البَعْضِ، والجَهْرِ بِالبَعْضِ، وقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ”فاتْبَعُوهُ“ ولَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ كالسِّرِّ في الجَهْرِ والإخْفاءِ في رَكَعاتِ صَلاةٍ واحِدَةٍ، أوْ يُقالُ: إنَّ حالَ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ القُرْآنُ كانَ خَلْوَةً أوَّلًا، وجَلْوَةً ثانِيًا، ناسَبَ حالُهُ حالَهُ بَلْ إذا تَأمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ الثّابِتِ عِنْدَ أهْلِ اللَّهِ: «(كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا)» إلَخْ، ظَهَرَ لَكَ سَرٌّ أعْظَمُ، فَرَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنِ المُجْتَهِدِ الأقْدَمِ، (الثّانِيَةُ) أنَّها ثَناءٌ وتَعْظِيمٌ، فَوَجَبَ الإعْلانُ بِها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكم آباءَكم أوْ أشَدَّ ذِكْرًا﴾ ويَرُدُّهُ أنَّ غالِبَ مُشْتَمَلاتِ الصَّلاةِ كَذَلِكَ أفَيُجْهَرُ بِها.
(الثّالِثَةُ) إنَّ الجَهْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلى الِافْتِخارِ بِهِ، وعَدَمِ المُبالاةِ بِمُنْكِرِهِ، وهو مُسْتَحْسَنٌ عَقَلًا، فَيَكُونُ كَذَلِكَ شَرْعًا، ولا يَخْفى إلّا ما فِيهِ عَيْبٌ، ثُمَّ قالَ: وهَذِهِ الحُجَّةُ قَوِيَّةٌ في نَفْسِي، راسِخَةٌ في عَقْلِي، لا تَزُولُ البَتَّةَ، بِسَبَبِ كَلِماتِ المُخالِفِينَ، ويَرُدُّهُ ما رَدَّ سابِقَهُ، وقَدْ يَخْفى الشَّرِيفُ.
؎لَيْسَ الخُمُولُ بِعارِ
؎عَلى امْرِئٍ ذِي جَلالِ
؎فَلَيْلَةُ القَدْرِ تَخْفى
؎وتِلْكَ خَيْرُ اللَّيالِي
ويالَيْتَ شِعْرِي أكانَ تَسْبِيحُهُ اللَّهَ تَعالى في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ مَعِيبًا فَيُخْفِيهِ، أوْ جَيِّدًا فَيَجْهَرُ بِهِ ويُبْدِيهِ، ولا أظُنُّ بِالرَّجُلِ إلّا خَيْرًا، فَإنَّ الحُجَّةَ قَوِيَّةٌ في نَفْسِهِ راسِخَةٌ في عَقْلِهِ (الرّابِعَةُ) ما أخْرَجَهُ الشّافِعِيُّ عَنْ أنَسٍ أنَّ مُعاوِيَةَ صَلّى بِأهْلِ المَدِينَةِ، ولَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فاعْتَرَضَ عَلَيْهِ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، فَأعادَ الحَدِيثَ بِمَعْناهُ، ويَرُدُّهُ مُعارِضُوهُ، أوْ يُقالُ: لَمْ يُقْرَأْ عَلى ظاهِرِهِ، وعَلِمُوا ذَلِكَ بِبَعْضِ القَرائِنِ وما راءٍ كَمَن سَمِعا.
(الخامِسَةُ) ما رَوى البَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: «(كانَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْهَرُ في الصَّلاةِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،» وهو المَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وابْنِهِ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، وأمّا عَلِيٌّ فَقَدْ تَواتَرَ عَنْهُ، ومَنِ اقْتَدى في دِينِهِ بِعَلِيٍّ فَقَدِ اهْتَدى، ويَرُدُّهُ المُعارِضُ وبِتَقْدِيرِ نَفْيِهِ يُقالُ: إنَّ الجَهْرَ كانَ أحْيانًا لِغَرَضٍ، وفي الأخْبارِ الَّتِي ذَكَرْناها ما يُعارِضُ أيْضًا نِسْبَتَهُ إلى عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ، وما زُعِمَ مِن تَواتُرِ نِسْبَتِهِ إلى عَلِيٍّ مَمْنُوعٌ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، نَعَمِ ادَّعَتْهُ الشِّيعَةُ، فَذَهَبُوا إلى الجَهْرِ في السِّرِّيَّةِ والجَهْرِيَّةِ، ولَوْ عَمِلَ أحَدٌ بِجَمِيعِ ما يَزْعُمُونَ (p-47)تَواتُرَهُ عَنِ الأمِيرِ كَفَرَ، فَلَيْسَ إلّا الإيمانُ بِبَعْضٍ والكُفْرُ بِبَعْضٍ، وما ذَكَرَهُ مِن أنَّ مَنِ اقْتَدى في دِينِهِ بِعَلِيٍّ فَقَدِ اهْتَدى مُسَلَّمٌ، لَكِنْ إنْ سَلَّمَ لَنا خَبَرَ ما كانَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ودُونَهُ مَهامُّهُ، فَيُحْمَلُ عَلى أنَّ الشّائِعَ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ تَقْدِيمُ ما عَلَيْهِ الشَّيْخانِ، وإذا اخْتَلَفا فَما عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ، حَيْثُ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَرَقّى في التَّخْصِيصِ إلَيْهِ، فَقالَ أوَّلًا: «(أصْحابِي كالنُّجُومِ، بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ)،» وثانِيًا: «(عَلَيْكم بِسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ بَعْدِي)،» وثالِثًا: «(اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ )،» ورابِعًا: «(إنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أبا بَكْرٍ )».
(السّادِسَةُ) أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ نَحْوِ: بِإعانَةِ بِسْمِ اللَّهِ اشَرَعُوا، ولا شَكَّ أنَّ اسْتِماعَ هَذِهِ الكَلِمَةِ يُنَبِّهُ العَقْلَ عَلى أنَّهُ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، ولا قُوَّةَ عَلى طاعَةِ اللَّهِ إلّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، ويُنَبِّهُهُ عَلى أنَّهُ لا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنَ الخَيْراتِ إلّا إذا وقَعَ الِابْتِداءُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وبِإظْهارِها أمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، ويَرُدُّهُ مَعَ رَكاكَةِ هَذا التَّقْدِيرِ وعَدَمِ قائِلٍ بِهِ أنَّ انْفِهامَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ يَحْتاجُ إلى فِكْرٍ، لَوْ صَرَفَ عُشْرَ مِعْشارِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لَحَصَلَ ضِعْفُ أضْعافِهِ مِن دُونِ غائِلَةٍ كَثِيرَةٍ، فَيُغْنِي عَنْهُ، ثُمَّ أنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ذَكَرَ كَلامًا لا يَنْفَعُ إلّا في تَكْثِيرِ السَّوادِ وإرْهابِ ضُعَفاءِ الطَّلَبَةِ بِجُيُوشِ المِدادِ.
(البَحْثُ الثّالِثُ في مَعْناها) فالباءُ إمّا: لِلِاسْتِعانَةِ، أوِ المُصاحَبَةِ، أوِ الإلْصاقِ، أوِ الِاسْتِعْلاءِ، أوْ زائِدَةٌ، أوْ قَسَمِيَّةٌ، والأرْبَعَةُ الأخِيرَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وإنِ اسْتُؤْنِسَ لِبَعْضٍ بِبَعْضِ الآياتِ، واخْتُلِفَ في الأرْجَحِ مِنَ الأوَّلَيْنِ، فالَّذِي يُشْعِرُ بِهِ كَلامُ البَيْضاوِيِّ أرْجَحِيَّةُ الأوَّلِ، وأُيِّدَ بِأنَّ جَعْلَهُ لِلِاسْتِعانَةِ يُشْعِرُ بِأنَّ لَهُ زِيادَةُ مَدْخَلٍ في الفِعْلِ حَتّى كَأنَّهُ لا يَتَأتّى ولا يُوجَدُ بِدُونِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، ولا يَخْلُو عَنْ لُطْفٍ، وما يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ أرْجَحِيَّةُ الثّانِي، وأُيِّدَ بِأنَّ باءَ المُصاحَبَةِ أكْثَرُ في الِاسْتِعْمالِ مِن باءِ الِاسْتِعانَةِ لا سِيَّما في المَعانِي، وما يَجْرِي مَجْراها مِنَ الأفْعالِ، وبِأنَّ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى تَأدُّبٌ مَعَهُ، وتَعْظِيمٌ لَهُ، بِخِلافِ جَعْلِهِ لِلْآلَةِ، فَإنَّها مُبْتَذَلَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِذاتِها، وأنَّ ابْتِداءَ المُشْرِكِينَ بِأسْماءِ آلِهَتِهِمْ كانَ عَلى وجْهِ التَّبَرُّكِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ، وأنَّ الباءَ إذا حُمِلَتْ عَلى المُصاحَبَةِ كانَتْ أدَلَّ عَلى مُلابَسَةِ جَمِيعِ أجْزاءِ الفِعْلِ لِاسْمِ اللَّهِ تَعالى مِنها إذا جُعِلَتْ داخِلَةً عَلى الآلَةِ، ويُناسِبُهُ ما رُوِيَ في الحَدِيثِ: «(تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعالى في قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ يُسَمِّي أوْ لَمْ يُسَمِّ)،» وأنَّ التَّبَرُّكَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى مَعْنًى ظاهِرٌ يَفْهَمُهُ كُلُّ أحَدٍ، مِمَّنْ يَبْتَدِئُ بِهِ، والتَّأْوِيلُ المَذْكُورُ في كَوْنِهِ آلَةً لا يُهْتَدى إلَيْهِ إلّا بِنَظَرٍ دَقِيقٍ، وإنَّ كَوْنَ اسْمِ اللَّهِ تَعالى آلَةً لِلْفِعْلِ لَيْسَ إلّا بِاعْتِبارِ أنَّهُ يُوَصِّلُ إلَيْهِ بِبَرَكَتِهِ، فَقَدْ رَجَعَ بِالآخِرَةِ إلى مَعْنى التَّبَرُّكُ، فَلْنَقُلْ بِهِ أوَّلًا، وإنَّ جَعْلَ اسْمِهِ تَعالى آلَةً لِقِراءَةِ الفاتِحَةِ لا يَتَأتّى عَلى مَذْهَبِ مَن يَقُولُ: إنَّ البَسْمَلَةَ مِنَ السُّورَةِ، وإنَّ قَوْلَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ)،» مِمّا يُسْتَأْنَسُ بِهِ لَهُ، وإنَّ في الأوَّلِ جَعْلُ المَوْجُودِ حِسًّا كالمَعْدُومِ، وإنَّ بِسْمِ اللَّهِ مَوْجُودٌ في القِراءَةِ، فَإذا جُعِلَتِ الباءُ لِلِاسْتِعانَةِ كانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ القَلَمِ، فَلا يَكُونُ مَقْرُوءًا، وهو مَقْرُوءٌ، وإنَّ فِيهِ الإيجازَ والتَّوَصُّلَ بِتَقْلِيلِ اللَّفْظِ إلى تَكْثِيرِ المَعْنى لِتَقْدِيرِ: مُتَبَرِّكًا، وهو لِكَوْنِهِ حالًا، فِيهِ بَيانُ هَيْئَةِ الفاعِلِ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ لا بُدَّ لِكُلِّ فِعْلٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى مِن إعانَتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، فَدَلَّ الحالُ عَلى زائِدٍ، وعِنْدِي أنَّ الِاسْتِعانَةَ أوْلى، بَلْ يَكادُ أنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً، إذْ فِيها مِنَ الأدَبِ والِاسْتِكانَةِ وإظْهارِ العُبُودِيَّةِ ما لَيْسَ في دَعْوى المُصاحَبَةِ، ولِأنَّ فِيها تَلْمِيحًا مِن أوَّلِ وهْلَةٍ إلى إسْقاطِ الحَوْلِ والقُوَّةِ، ونَفْيِ اسْتِقْلالِ قَدْرِ العِبادِ، وتَأْثِيرِها، وهو اسْتِفْتاحٌ لِبابِ الرَّحْمَةِ، وظَفَرٌ بِكَنْزِ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، ولِأنَّ هَذا المَعْنى أمَسُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ولِأنَّهُ كالمُتَعَيِّنِ في قَوْلِهِ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ لِيَكُونَ جَوابًا لِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لَسْتُ بِقارِئٍ)» عَلى أتَمِّ وجْهٍ وأكْمَلِهِ، وما ذَكَرُوهُ في تَأْيِيدِ المُصاحَبَةِ كُلُّهُ مَرْدُودٌ، (أمّا الأوَّلُ) فَلِأنَّ دُونَ إثْباتِ الأكْثَرِيَّةِ خَرْطُ القَتادِ، (وأمّا الثّانِي) فَلِأنَّهُ تَوَهُّمٌ نَشَأ مِن تَمْثِيلِهِمْ في الآلَةِ بِالمَحْسُوساتِ، ولَيْسَتْ كُلُّ اسْتِعانَةٍ بِآلَةٍ مُمْتَهَنَةٍ، ولا شَكَّ في صِحَّةِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ، وقَدْ ورَدَ في الشَّرْعِ قالَ تَعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا﴾ فَهو إذَنْ عَلى أنَّ جِهَةَ الِابْتِذالِ مِمّا لا تَمُرُّ (p-48)بِبالٍ، والقَلْبُ قَدْ أحاطَ بِجِهاتِهِ جِهَةٌ أُخْرى، وأيْضًا في تَخْصِيصِ الِاسْتِعانَةِ بِالآلَةِ نَظَرٌ، لِأنَّها قَدْ تَكُونُ بِها، وبِالقُدْرَةِ، ولَوْ سُلِّمَ فَأيُّ مانِعٍ مِنَ الإشارَةِ بِها هُنا إلى أنَّهُ كَما هو المَقْصُودُ بِالذّاتِ، فَهو المَقْصُودُ بِالعَرَضِ، إذْ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِهِ.
(وأمّا الثّالِثُ) فَلِأنَّ المُشْرِكِينَ إلى الِاسْتِعانَةِ بِآلِهَتِهِمْ أقْرَبُ، إذْ هم وسائِطُهم في التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَعالى، وهي أشْبَهُ بِالآلَةِ.
(وأمّا الرّابِعُ) فَلِأنَّ الآلَةَ لا بُدَّ مِن وُجُودِها في كُلِّ جُزْءٍ إلى آخِرِ الفِعْلِ، وإلّا لَمْ يَتِمَّ، ولا نُسَلِّمُ اللُّزُومَ بَيْنَ مُصاحَبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، ومُلابَسَتِهِ لِجَمِيعِ أجْزائِهِ، وما ذَكَرَهُ مِنَ الحَدِيثِ فَهو بِالِاسْتِعانَةِ أنْسَبُ، لِأنَّها مُشْعِرَةٌ بِتَبَرِّي العَبْدِ مِن حَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، وإثْباتِ الحَوْلِ والقُوَّةِ لِلَّهِ تَعالى، وهَذا مِن بابِ العَقائِدِ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْها قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ يُسَمِّي أوْ لَمْ يُسَمِّ.
(وأمّا الخامِسُ) فَلِأنَّهُ إنْ أرادَ أنَّ مَعْنى المُصاحَبَةِ التَّبَرُّكُ، فَظاهِرُ البُطْلانِ، وقَدْ رَجَعَ بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ، وإنْ أرادَ أنَّهُ يُفْهَمُ مِنها بِالقَرِينَةِ، فَنَدَّعِيهِ نَحْنُ بِها، إذا قَصَدَ الآلِيَّةَ لِتَوَقُّفِ الِاعْتِدادِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْها، وأمّا كَوْنُ التَّبَرُّكِ مَعْنًى ظاهِرًا لِكُلِّ أحَدٍ، فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ مِن خُصُوصِ المُصاحَبَةِ، (وأمّا السّادِسُ) فَلِأنَّ الِانْحِصارَ فِيهِ مَمْنُوعٌ، وأمّا السّابِعُ فَلِأنَّ ما يُفْتَتَحُ بِهِ الشَّيْءُ لا مانِعَ مِن كَوْنِهِ جُزْءًا، فالفاتِحَةُ مُفْتَتَحُ القُرْآنِ وجُزْؤُهُ، ولَوْ سَلَّمَ فَجَعَلَها مُفْتَتَحًا بِالنِّسْبَةِ إلى ما عَداها، قالَهُ الشِّهابُ، ولا يَضُرُّ الحَنَفِيَّ ما فِيهِ.
(وأمّا الثّامِنُ) فَلِأنَّ مَعْنى الحَدِيثِ: أفْعَلُ كَذا مُسْتَعِينًا بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّنِي مَعَ ذِكْرِ اسْمِهِ مُسْتَعِينًا بِهِ شَيْءٌ، إذْ مَنِ اسْتَعانَ بِجَنابِهِ أعانَهُ، ومَن لاذَ بِبابِهِ حَفِظَهُ، وصانَهُ، وإنِ اسْتَبْعَدَتُ هَذا، ورَدَدْتُ ما قِيلَ في الرَّدِّ مِن أنَّ المُرادَ بِالحَدِيثِ الإخْبارُ بِأنَّهُ لا يَضُرُّ مَعَ ذِكْرِ اسْمِهِ شَيْءٌ مِن مَخْلُوقٍ، والمُصاحَبَةُ تَسْتَدْعِي أمْرًا حاصِلًا عِنْدَها، نَحْوَ: جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ، والقِراءَةُ لَمْ تَحْصُلْ بَعْدُ، فَتَعَذَّرَتْ حَقِيقَةُ المُصاحَبَةِ، بِأنَّ المُصاحَبَةَ هُنا لَيْسَتْ مَحْسُوسَةً، وكَوْنُها إخْبارًا بِنَفْيِ صُحْبَةِ الضَّرَرِ يُفْهَمُ مِنهُ صُحْبَةُ النَّفْعِ والبَرَكَةِ، وهي دَفْعُ الوَسْوَسَةِ عَنِ القارِئِ مَعَ جَزِيلِ الثَّوابِ، فَلا ضَيْرَ أيْضًا، لِأنَّهُ مُجَرَّدُ اسْتِئْناسٍ، ولا يُوحِشُنا، إذْ ما نَسْتَأْنِسُ بِهِ كَثِيرٌ، (وأمّا التّاسِعُ) فَلِأنَّ جَعْلَ المَوْجُودِ كالمَعْدُومِ لِلْجَرْيِ لا عَلى المُقْتَضى مِنَ المُحَسِّناتِ، والنُّكْتَةُ هاهُنا أنْ شَبَّهَ اسْمَ اللَّهِ بِناءً عَلى يَقِينِ المُؤْمِنِ بِما ورَدَ مِنَ السُّنَّةِ والقَطْعِ بِمُقْتَضاها بِالأمْرِ المَحْسُوسِ، وهو حُصُولُ الكُتُبِ بِالقَلَمِ، وعَدَمٌ بِعَدَمِهِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ التَّبَعِيَّةِ لِوُقُوعِها في الحَرْفِ.
(وأمّا العاشِرُ) فَلِأنَّهُ لا يَخْفى حالُ التَّشْبِيهِ بِالقَلَمِ، (وأمّا الحادِيَ عَشَرَ) فَلِأنَّهُ لا نُسَلِّمُ أنَّ التَّبَرُّكَ مَعْنى المُصاحَبَةِ أوْ لازِمُ مَعْناهُ، بَلْ هو مَعْلُومٌ مِن أمْرٍ خارِجٍ، هو أنَّ مُصاحَبَةَ اسْمِهِ سُبْحانَهُ يُوجَدُ مَعَها ذَلِكَ، وهو جارٍ في الِاسْتِعانَةِ بِاسْمِهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلى أنَّ في الِاسْتِعانَةِ مِنَ اللُّطْفِ ما لا يَخْفى، ويُمْكِنُ عَلى بُعْدٍ أنْ يَكُونَ عَدَمُ اخْتِيارِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَها لِنَزَغاتِ الشَّيْطانِ الِاعْتِزالِيَّةِ مِنِ اسْتِقْلالِ العَبْدِ بِفِعْلِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ هو وأصْحابُهُ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى رَدُّهُ، وقَدِ اخْتُلِفَ في مُتَعَلِّقِ الجارِّ، فَذَهَبَ الإمامُ ابْنُ جَرِيرٍ إلى تَقْدِيرِهِ: أتْلُو، لِأنَّ تالِيَهُ مَتْلُوٌّ، وهَكَذا يُضْمَرُ الخاصُّ الفِعْلِيُّ كُلُّ فاعِلٍ فِعْلًا، يَجْعَلُ التَّسْمِيَةَ مَبْدَأً لَهُ، وهو مِنَ المَعانِي القُرْآنِيَّةِ، كَنَظائِرِهِ لِلُزُومِها في مُتَعارَفِ اللِّسانِ، وبِهِ يَنْدَفِعُ كَلامُ الصّادِقِيِّ، ولَيْسَ المَقْصُودُ هُنا مُتَكَلِّمًا مَخْصُوصًا، فَهو عَلى حَدٍّ، ولَوْ تَرى فَيَنْوِي كُلٌّ بِالضَّمِيرِ نَفْسِهِ، فَلا يَضُرُّ تَقَدُّمُها عَلى قِراءَةِ هَذا القارِئِ، بَلْ عَلى وُجُودِهِ، ويَتَأتّى القَوْلُ بِجُزْئِيَّتِها مِنَ الكُلِّ أوِ الجُزْءِ بِلا خَفاءٍ، ولَمّا خَفِيَ ذَلِكَ عَلى البَعْضِ جَعَلَ المُقَدَّرَ فِعْلَ أمْرٍ مُتَوَجِّهٍ إلى العِبادِ، لِيَتَّحِدَ قائِلُ المَلْفُوظِ والمُقَدَّرِ، واخْتارَهُ الفَرّاءُ عَنِ اخْتِيارٍ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لِأنَّهُ تَعالى قَدَّمَ (p-49)التَّسْمِيَةَ حَثًّا لِلْعِبادِ عَلى فِعْلِ ذَلِكَ، وهو المُناسِبُ لِلتَّعْلِيمِ، وذَهَبَ النَّحْوِيُّونَ إلى تَقْدِيرِهِ عامًّا نَحْوَ: أبْتَدِئُ وأُيِّدَ بِوُجُوهٍ مِنها: أنَّ فِعْلَ الِابْتِداءِ يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ في كُلِّ تَسْمِيَةٍ دُونَ فِعْلِ القِراءَةِ، وتَقْدِيرُ العامِّ أوْلى، ألا تَراهم يُقَدِّرُونَ مُتَعَلِّقَ الجارِّ الواقِعِ خَبَرًا، أوْ صِفَةً، أوْ حالًا، أوْ صِلَةً، بِالكَوْنِ والِاسْتِقْرارِ حَيْثُما وقَعَ، ويُؤْثِرُونَهُ لِعُمُومِ صِحَّةِ تَقْدِيرِهِ.
(ومِنها) أنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِالغَرَضِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، وهو وُقُوعُها مُبْتَدَأً، فَتَقْدِيرُهُ أوْقَعُ بِالمَحَلِّ، وأنْتَ إذا قَدَّرْتَ: أقْرَأُ، قَدَّرْتَ: أبْتَدِئُ بِالقِراءَةِ، لِأنَّ الواقِعَ في أثْنائِها قِراءَةٌ أيْضًا، والبَسْمَلَةُ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِيهِ، ومِنها ظُهُورُ فِعْلِ الِابْتِداءِ في قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(كُلُّ أمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهو أقْطَعُ)،» وأمّا ظُهُورُ القِراءَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فَلِأنَّ الأهَمَّ ثُمَّ هو القِراءَةُ غَيْرُ مَنظُورٍ فِيهِ إلى ابْتِدائِها، ولِذا قُدِّمَ الفِعْلُ، ولا كَذَلِكَ في التَّسْمِيَةِ.
وما ذَهَبَ إلَيْهِ الإمامُ أمَسُّ وأخَصُّ بِالمَقْصُودِ، وأتَمُّ شُمُولًا، فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ القِراءَةَ واقِعَةٌ بِكَمالِها، مَقْرُونَةٌ بِالتَّسْمِيَةِ، مُسْتَعانًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْها كُلِّها بِخِلافِ تَقْدِيرِ: أبْتَدِئُ، إذْ لا تَعَرُّضَ لَهُ لِذَلِكَ، وما ذُكِرَ أوَّلًا مِنَ الِاسْتِشْهادِ بِتَقْدِيرِ النُّحاةِ الكَوْنَ والِاسْتِقْرارِ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّهم فَعَلُوهُ تَمْثِيلًا، حَيْثُ لا يَقْصِدُونَ عامِلًا بِعَيْنِهِ بَلْ يُرِيدُونَ الكَلامَ عَلى العامِلِ مِن حَيْثُ هُوَ، فَهو كَتَمْثِيلِهِمْ بِزَيْدٍ، وعَمْرٍو، لا لِخُصُوصِيَّتِهِما، بَلْ لِيَقَعَ الكَلامُ عَلى مِثالٍ، فَيَكُونَ أقْرَبَ إلى الفَهْمِ، ولا يُقالُ إذا أُبْهِمَ الفاعِلُ يُقَدَّرُ بِهِما عَلى أنَّ الِابْتِداءَ هُنا لَيْسَ أعَمَّ مِنَ القِراءَةِ، لِأنَّ المُرادَ بِهِ ابْتِداءُ القِراءَةِ، وهو أخَصُّ مِنَ القِراءَةِ لِصِدْقِها عَلى قِراءَةِ الأوَّلِ، والوَسَطِ، والآخِرِ، واخْتِصاصِ ابْتِداءِ القِراءَةِ بِالأوَّلِ، فَلَيْسَ هَذا هو الكَوْنُ والِاسْتِقْرارُ الَّذِي قَدَّرَهُما النُّحاةُ فِيما تَقَدَّمَ، ودَعْوى عُمُومِ أبْتَدِئُ، بِاعْتِبارِ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ لَكِنَّهُ يُعْلَمُ بِقَرِينَةِ المَقامِ أنَّ المُبْتَدَأ بِهِ هو القِراءَةُ، أوْ بِاعْتِبارِ أصْلِ العامِلِ في الجَمِيعِ، لا يَخْفى فَسادُها، فَإنَّهُ إذا دَلَّ المَقامُ عَلى إرادَتِهِ فَما مَعْنى تَنْزِيلِهِ مَنزِلَةَ اللّازِمِ حِينَئِذٍ، وكَوْنُهُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ والأصْلِ لا يَدْفَعُ السُّؤالَ في حالٍ، فاْفْهَمْ، (وأمّا ما ذُكِرَ ثانِيًا) مِن أنَّ رَدَّ فِعْلِ البُداءَةِ مُسْتَقِلٌّ بِالغَرَضِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ القِراءَةَ أمَسُّ وأشْمَلُ، والوُقُوعَ في الِابْتِداءِ بِالبِدايَةِ فِعْلًا لا بِإضْمارِ الِابْتِداءِ، فَمَتى ابْتَدَأ بِالبَسْمَلَةِ حَصَلَ لَهُ المَقْصُودُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلى شَيْءٍ، كَمَن صَلّى فَبَدَأ بِتَكْبِيرَةِ الإحْرامِ، لا يَحْتاجُ في كَوْنِهِ بادِئًا إلى الإضْمارِ، لَكِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلى بَرَكَتِها وشُمُولِها لِجَمِيعِ ما فَعَلَهُ، ومِن هَذا يَظْهَرُ ما في باقِي الكَلامِ مِنَ الوَهَنِ، (وأمّا ما ذُكِرَ ثالِثًا) فَفِيهِ أنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مُبْتَدَأً بِها حاصِلٌ بِالفِعْلِ لا بِإضْمارِ الفِعْلِ، ولَمْ يَرِدِ الحَدِيثُ بِأنَّ كُلَّ أمْرٍ ذِي بالٍ لَمْ يَقُلْ أوْ لَمْ يُضْمِرْ فِيهِ أبَدًا بِبِسْمِ اللَّهِ، فَهو كَذا عَلى أنَّ المُحافَظَةَ عَلى مُوافَقَةِ لَفْظِ الحَدِيثِ إنَّما يَلِيقُ أنْ يُجْعَلَ نُكْتَةً في كَلامِ المُصَنِّفِينَ، ومَن يَنْخَرِطُ في سِلْكِهِمْ، لا في كَلامِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ، كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ، وأيْضًا البَحْثُ إنَّما هو في تَرْجِيحِ تَقْدِيرِ الفِعْلِ العامِّ، كَأبْدَأُ أوْ أشْرَعُ، وما شاكَلَهُما لا في تَرْجِيحِ خُصُوصِ أقْرَأُ، أعْنِي فِعْلًا مَصْدَرُهُ القِراءَةُ عَلى خُصُوصِ أبْدَأُ، أعْنِي فِعْلًا مَصْدَرُهُ البُداءَةُ، فَفِيما ذُكِرَ خُرُوجٌ عَنْ قانُونِ الأدَبِ ومَوْضِعِ النِّزاعِ.
وذَهَبَ البَعْضُ إلى تَقْدِيرِ: ابْتِدائِي، مَثَلًا، وفِيهِ زِيادَةُ إضْمارٍ، لِوُجُوبِ إضْمارِ الخَبَرِ حِينَئِذٍ، فَيَكُونُ المُضْمَرُ ثَلاثُ كَلِماتٍ، ودِلالَةُ الِاسْمِيَّةٍ عَلى الثُّبُوتِ مُعارَضَةٌ بِدِلالَةِ المُضارِعِ عَلى الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ المُناسِبِ لِلْمَقامِ، إلّا أنَّهُ تَبْقى المُخالَفَةُ بَيْنَ جُمْلَتَيِ البَسْمَلَةِ والحَمْدِ، ولَعَلَّ الأمْرَ فِيهِ سَهْلٌ، وجَعَلَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ هَذا الجارَّ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مُضْمَرٍ، هو ابْتِداءُ العالَمِ، وظُهُورُهُ، لِأنَّ سَبَبَ وُجُودِهِ الأسْماءُ الإلَهِيَّةُ، وهي المُسَلَّطَةُ عَلَيْهِ كَجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِما بَعْدَهُ، إذْ لا يُحْمَدُ اللَّهُ تَعالى إلّا بِأسْمائِهِ مِن بابِ الإشارَةِ، فَلا يُنْظَرُ فِيهِ إلى الظّاهِرِ، ولا يُتَقَيَّدُ بِالقَواعِدِ، ولا أرى الِاعْتِراضَ عَلَيْهِ مِنَ الإنْصافِ، وقَدْ ذَهَبَ الكَثِيرُ إلى أنَّ تَقْدِيرَ المُتَعَلِّقِ هُنا مُؤَخَّرًا أحْرى، لِأنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعالى مُقَدَّمٌ عَلى الفِعْلِ ذاتًا، فَلْيُقَدَّمْ عَلى الفِعْلِ (p-50)ذِكْرًا، وفِيهِ إشارَةٌ إلى البُرْهانِ اللَّمِّيِّ وهو أشْرَفُ مِنَ البُرْهانِ الأنِّيِّ، ولِذا قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: ما رَأيْتُ شَيْئًا إلّا ورَأيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ، وتَحْنِيكُ طِفْلِ الذِّهْنِ بِحَلاوَةِ هَذا الِاسْمِ يُعِينُ عَلى فِطامِهِ عَنْ رَضْعِ ضَرْعِ السَّوِيِّ بِدُونِ وضْعِ مَرارَةِ الحُدُوثِ، عَلى أنَّ بَرَكَةَ التَّبَرُّكِ طافِحَةٌ بِالأهَمِّيَّةِ، وإنْ قُلْنا بِأنَّ في التَّقْدِيمِ قَطْعَ عِرْقِ الشَّوْكَةِ رَدًّا عَلى مَن يَدَّعِيها ناسَبَ مَقامَ الرِّسالَةِ، وظَهَرَ سِرُّ تَقْدِيمِ الفِعْلِ في أوَّلِ آيَةٍ نَزَلَتْ، إذِ المَقامُ إذْ ذاكَ مَقامُ نُبُوَّةٍ، ولا رَدَّ، ولا تَبْلِيغَ فِيها، ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، والبَلاغَةُ: مُطابَقَةُ الكَلامِ لِمُقْتَضى الحالِ، وقَدِ اعْتَرَكَتِ الأفْهامُ هُنا في تَوْجِيهِ القَصْرِ لِظَنِّهِ مِن ذِكْرِ الِاخْتِصاصِ، حَتّى ادَّعاهُ بَعْضُهم بِأنْواعِهِ الثَّلاثَةِ، وأفْرَدَ البَعْضُ البَعْضَ، فَمُقْتَصِرٌ عَلى قَصْرِ الإفْرادِ، وقائِلٌ بِهِ، وبِالقَلْبِ، وفي القَلْبِ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وعِنْدِي هُنا يُقَدَّرُ مُقَدَّمًا، وبِهِ قالَ الأكْثَرُونَ، وإنَّ تَقْدِيرَهُ مُؤَخَّرًا مُؤَخَّرٌ عَنْ ساحَةِ التَّحْقِيقِ، لِأنَّهُ إمّا أنْ يُقَدَّرَ بَعْدَ الباءِ، أوْ بَعْدَ اسْمٍ، أوْ بَعْدَ اسْمِ اللَّهِ، أوْ بَعْدَ البَعْدِ، أمّا تَقْدِيرُهُ بَعْدَ الباءِ فَلا يَقُولُهُ مَن عَرَفَ الباءَ.
وأمّا بَعْدَ الِاسْمِ فَلِاسْتِلْزامِهِ الفَصْلَ، ولَوْ تَعَقُّلًا، حَيْثُ أوْجَبُوا الحَذْفَ هُنا بَيْنَ المُتَضايِفَيْنِ، وأمّا بَعْدَ اسْمِ اللَّهِ فَلِاسْتِلْزامِهِ الفَصْلَ كَذَلِكَ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، وأمّا بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَيَتَّسِعُ الخُرْقُ، وأمّا بَعْدَ التَّمامِ فَيَظْهَرُ نَقْصٌ دَقِيقٌ، لِأنَّ في الجُمْلَةِ تَعْلِيقَ الحُكْمِ بِما يُشْعِرُ بِالعِلِّيَّةِ، فَكانَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ عِلَّةً لِلْقِراءَةِ المُقَيَّدَةِ بِاسْمِ اللَّهِ، فَإذا تَأخَّرَ العامِلُ المُقَيَّدُ المَعْلُولَ وتَقَدَّمَتْ عِلَّتُهُ، أشْعَرَ بِالِانْحِصارِ، ولا يَظْهَرُ وجْهُهُ، وإذا قَدَّرْنا العامِلَ مُقَدَّمًا كَما هو الأصْلُ أمْنًا مِنَ المَحْذُورِ، ويَحْصُلُ اخْتِصاصٌ أيْضًا، إذْ كَأنَّهُ قِيلَ مَثَلًا: أقْرَأُ مُسْتَعِينًا، أوْ مُتَبَرِّكًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وانْتِفاءُ العِلَّةِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفاءَ المَعْلُولَ في المَقامِ الخِطابِيِّ، إذا لَمْ تَظْهَرْ عِلَّةٌ أُخْرى، فَيُفِيدُ الِاخْتِصاصَ لا سِيَّما عِنْدَ القائِلِ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، فَيُشْعِرُ بِأنَّ مَن لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ خارِجٌ عَنِ الدّائِرَةِ، والِاقْتِصارُ هُنا لَيْسَ كالِاقْتِصارِ هُناكَ، والتَّخَلُّصُ بِتَقْدِيرِ التَّرْكِيبِ: مُسْتَعِينًا بِاسْمِ اللَّهِ، لِأنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أقْرَأُ فِيهِ ما لا يَخْفى عَلى الطَّبْعِ السَّلِيمِ، وفي تَقْدِيمِ الحادِثِ تَعَقُّلًا، وحَذْفُهُ ذِكْرًا، وعَدَمُ وُجُودِ شَيْءٍ في الظّاهِرِ مُسْتَقِلًّا سِوى الِاسْمِ القَدِيمِ رَمْزٌ خَفِيٌّ إلى تَقْدِيمِ الأعْيانِ الثّابِتَةِ في العِلْمِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى وُجُودِ اللَّهِ تَعالى، إذْ لَهُ جَلَّ شَأْنُهُ التَّقَدُّمُ المُطْلَقُ، وعَدَمُ ظُهُورِ شَيْءٍ سِواهُ، وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ، ولِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ لا ضَرَرَ في ذَلِكَ ارْتُكِبَ، والتَّبَرُّكُ كالوُجُوبِ يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ بِالذِّكْرِ مَكْسُورًا، لا مَضْمُومًا، وها هو كَما تَرى، ومِنَ الأكابِرِ مَن قالَ: ما رَأيْتُ شَيْئًا إلّا ورَأيْتُ اللَّهَ تَعالى فِيهِ، ولا حُلُولَ، وقَدْ عُدَّ أكْمَلَ مِنَ الأوَّلِ، والمَراتِبُ أرْبَعٌ، وتَحْنِيكُ الرَّحْمَةِ يُغْنِي عَنْ كُلِّ دَرٍّ، ويَفْطِمُ طِفْلَ الذِّهْنِ عَنْ ثَدْيِ جَوارِي الفِكْرِ، وكَأنَّ مَن قَدَّرَ العامِلَ مُؤَخَّرًا رَأى ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها﴾، «(وبِاسْمِكَ رَبِّي وضَعْتُ جَنْبِي)،» وأمْثالَهُما، فَجَرى مَجْراها، والفَرْقُ ظاهِرٌ لِلنّاظِرِ، وهَذا مِن نَسائِمِ الأسْحارِ فَتَيَقَّظْ لَهُ، ونَمْ عَنْ غَيْرِهِ.
والظَّرْفُ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ بَعْضٍ، ولَغْوٌ عِنْدَ آخَرِينَ، وقَدِ اخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهِما، فَقِيلَ: اللَّغْوُ ما يَكُونُ عامِلُهُ مَذْكُورًا، والمُسْتَقِرُّ ما يَكُونُ عامِلُهُ مَحْذُوفًا مُطْلَقًا، وقِيلَ: المُسْتَقِرُّ ما يَكُونُ عامِلُهُ عامًّا كالحُصُولِ، والِاسْتِقْرارِ، وهو مُقَدَّرٌ، واللَّغْوُ بِخِلافِهِ، وقِيلَ: اللَّغْوُ ما يَكُونُ عامِلُهُ خارِجًا عَنِ الظَّرْفِ غَيْرَ مَفْهُومٍ مِنهُ، سَواءٌ ذُكِرَ أوْ لا، والمُسْتَقِرُّ ما فُهِمَ مِنهُ مَعْنى عامِلِهِ المُقَدَّرِ الَّذِي هو مِنَ الأفْعالِ العامَّةِ، وكُلُّ ذَلِكَ اصْطِلاحٌ، وحَيْثُ لا مُشاحَّةَ فِيهِ، أخْتارُ الأوَّلَ، فَيَكُونُ الظَّرْفُ هُنا مُسْتَقِرًّا، كَيْفَما قُدِّرَ العامِلُ، وإنَّما كُسِرَتِ الباءُ وحَقُّ الحُرُوفِ المُفْرَدَةُ أنْ تُفْتَحَ لِأنَّها مَبْنِيَّةٌ، والأصْلُ في البِناءِ لِثِقَلِهِ، وكَوْنِهِ مُقابِلًا لِلْإعْرابِ الوُجُودِيِّ السُّكُونُ لِخِفَّتِهِ، وكَوْنِهِ عَدَمِيًّا، إلّا أنَّها مِن حَيْثُ كَوْنِها كَلِماتٍ بِرَأْسِها مَظِنَّةٌ لِلِابْتِداءِ، وهو بِالسّاكِنِ مُتَعَذِّرٌ أوْ مُتَعَسِّرٌ، كانَ حَقُّها الفَتْحَ إذْ هو أخُو السُّكُونِ في الخِفَّةِ المَطْلُوبَةِ في كَثِيرِ الدَّوْرِ عَلى الألْسِنَةِ لِامْتِيازِها مِن بَيْنِ الحُرُوفِ بِلُزُومِ الحَرْفِيَّةِ، والجَرِّ، وكُلٌّ مِنهُما يُناسِبُ الكَسْرَ، أمّا الحَرْفِيَّةُ فَلِأنَّها تَقْتَضِي عَدَمَ الحَرَكَةِ (p-51)والكَسْرِ لِقِلَّتِهِ، إذْ لا يُوجَدُ في الفِعْلِ، ولا في غَيْرِ المُنْصَرِفِ، ولا في الحُرُوفِ إلّا نادِرًا، يُناسِبُ العَدَمَ، وأمّا الجَرُّ، فَلِمُوافَقَةِ حَرَكَةِ الباءِ أثَرُها، ولا نَقْضَ بِواوِ العَطْفِ اللّازِمَةِ لِلْحَرْفِيَّةِ، ولا بِكافِ التَّشْبِيهِ اللّازِمَةِ لِلْجَرِّ، لِأنَّ المَجْمُوعَ سَبَبُ الِامْتِيازِ، ولَمْ يُوجَدْ في كُلٍّ، لَكِنْ يَبْقى النَّقْضُ واوَ القَسَمِ وتائِهِ، ويُجابُ بِأنَّ عَمَلَها بِالنِّيابَةِ عَنِ الباءِ الَّتِي هي الأصْلُ في حُرُوفِهِ، فَكَأنَّ الجَرَّ لَيْسَ أثَرًا لَهُما، وهَذِهِ عِلَلٌ نَحْوِيَّةٌ مُسْتَخْرَجَةٌ بَعْدَ الوُقُوعِ لِإبْداءِ مُناسَبَةٍ، فَلا تَتَحَمَّلُ مُناقَشَةً لِضَعْفِها كَما قِيلَ:
؎عَهْدُ الَّذِي أهْوى ومِيثاقُهُ ∗∗∗ أضْعَفُ مِن حُجَّةِ نَحْوِيٍّ
فَلا نُسْهِرُ جَفْنَ الفِكْرِ فِيما لَها وعَلَيْها، وقالَ بَعْضُهم مِن بابِ الإشارَةِ: كُسِرَتِ الباءُ في البَسْمَلَةِ تَعْلِيمًا لِلتَّوَصُّلِ إلى اللَّهِ تَعالى والتَّعَلُّقِ بِأسْمائِهِ بِكَسْرِ الجَنابِ والخُضُوعِ وذُلِّ العُبُودِيَّةِ، فَلا يُتَوَصَّلُ إلى نَوْعٍ مِن أنْواعِ المَعْرِفَةِ إلّا بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ الذُّلِّ، والكَسْرِ، كَما أشارَ إلى ذَلِكَ سَيِّدِي عُمَرُ بْنُ الفارِضِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى سِرَّهُ الفائِضُ بِقَوْلِهِ:
؎ولَوْ كُنْتَ لِي مِن نُقْطَةِ الباءِ خَفْضَةً ∗∗∗ رُفِعْتَ إلى ما لَمْ تَنَلْهُ بِحِيلَةِ
؎بِحَيْثُ تَرى أنْ لا تَرى ما عَدَدْتَهُ ∗∗∗ وأنَّ الَّذِي أعْدَدْتَهُ غَيْرُ عُدَّةِ
فَإنَّ الخَفْضَ يُقابِلُ الرَّفْعَ، فَمَن خَفَضَهُ النَّظَرُ إلى ذُلِّ العُبُودِيَّةِ، رَفَعَهُ القَدَرُ إلى مُشاهَدَةِ عِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، ولا يُنالُ هَذا الرَّفْعُ بِحِيلَةٍ، بَلْ هو بِمَحْضِ المَوْهِبَةِ الإلَهِيَّةِ الجَلِيلَةِ، ومَن تَنَزَّلَ لِيَرْتَفِعَ، فَتَنَزُّلُهُ مَعْلُولٌ، وسَعْيُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، انْتَهى.
وهُوَ أمْرٌ مَخْصُوصٌ بِباءِ البَسْمَلَةِ، لا يُمْكِنُ أنْ يَجْرِيَ في باءِ الجَرِّ مُطْلَقًا، كَما لا يَخْفى، وعِنْدِي في سِرِّ ذَلِكَ أنَّ الباءَ هي المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الألِفِ البَسِيطَةِ المُجَرَّدَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلى سائِرِ المَراتِبِ، فَهي إشارَةٌ إلى الوُجُودِ الحَقِّ، والباءُ إمّا إشارَةٌ إلى صِفاتِهِ الَّتِي أظْهَرَتْها نُقْطَةُ الكَوْنِ، ولِذَلِكَ لَمّا قِيلَ لِلْعارِفِ الشِّبْلِيِّ: أنْتَ الشِّبْلِيُّ؟ فَقالَ: أنا النُّقْطَةُ تَحْتَ الباءِ، وقالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ:
؎الباءُ لِلْعارِفِ الشِّبْلِيِّ مُعْتَبَرٌ ∗∗∗ وفي نُقَيْطَتِها لِلْقَلْبِ مُدَّكَرُ
؎سِرُّ العُبُودِيَّةِ العَلْياءِ مازَجَها ∗∗∗ لِذاكَ نابَ مَنابَ الحَقِّ فاعْتَبِرُوا
؎ألَيْسَ يُحْذَفُ مِن بِسْمِ حَقِيقَتُهُ ∗∗∗ لِأنَّهُ بَدَلٌ مِنهُ فَذا وِزْرُ
والصِّفاتُ إمّا جَمالِيَّةٌ أوْ جَلالِيَّةٌ، ولِلْأُولى السَّبْقُ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ حَدِيثُ: «(سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)،» وباءُ الجَرِّ إشارَةٌ إلَيْها، لِأنَّها الواسِطَةُ في الإضافَةِ، والإفاضَةِ، فَناسَبَها الكَسْرُ وخَفْضُ الجَناحِ لِيَتِمَّ الأمْرُ ويَظْهَرَ السِّرُّ، وفي الِابْتِداءِ بِها هُنا تَعْجِيلٌ لِلْبِشارَةِ، ورَمْزٌ إلى أنَّ المَدارَ هو الرَّحْمَةُ كَما قالَ ﷺ: «(لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمُ الجَنَّةَ عَمَلُهُ، قِيلَ: حَتّى أنْتَ يا رَسُولُ اللَّهِ؟ قالَ: حَتّى أنا، إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)،» وقَدْ تَدَرَّجَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِإظْهارِها، فَرَمَزَ بِالباءِ وأشارَ بِاللَّهِ، وصَرَّحَ أتَمَّ تَصْرِيحٍ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأمّا إشارَةٌ إلى الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، والتَّعَيُّنِ الأوَّلِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «(أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ نُورُ نَبِيِّكَ يا جابِرُ )،» وبِواسِطَتِهِ حَصَلَتِ الإفاضَةُ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ: لَوْلاكَ ما خَلَقْتُ الأفْلاكَ، ولِكَوْنِ الغالِبِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لا سِيَّما عَلى مُؤْمِنِي الأُمَّةِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ناسَبَ ظُهُورَ الكَسْرِ فِيما يُشِيرُ إلى مَرْتَبَتِهِ، وفي الِابْتِداءِ بِهِ هُنا رَمْزٌ إلى صِفَةِ مَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ الكِتابُ والدّاعِي إلى اللَّهِ، وفي ذَلِكَ مَعَ بَيانِ صِفَةِ المَدْعُوِّ إلَيْهِ بِأنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ تَشْوِيقٌ تامٌّ، وتَرْغِيبٌ عَظِيمٌ، وقَدْ تَدَرَّجَ أيْضًا جَلَّ شَأْنُهُ في وصْفِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ في القُرْآنِ إلى أنْ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ واكْتَفى بِالرَّمْزِ هَهُنا لِعَدَمِ ظُهُورِ الآثارِ بَعْدُ، وأوَّلُ الغَيْثِ قَطْرٌ، ثُمَّ يَنْهَمِلُ، وما مِن سُورَةٍ إلّا افْتَتَحَها (p-52)الرَّبُّ بِالرَّمْزِ إلى حالِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَعْظِيمًا لَهُ، وبِشارَةً لِمَن ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، ولَمّا كانَ الجَلالُ في سُورَةِ بَراءَةٌ ظاهِرًا، تَرَكَ الإشارَةَ بِالبَسْمَلَةِ، وأتى بِباءٍ مَفْتُوحَةٍ لِتَغَيُّرِ الحالِ، وإرْخاءِ السِّتْرِ عَلى عَرائِسِ الجَمالِ، ولَمْ يَتْرُكْ سُبْحانَهُ وتَعالى الرَّمْزَ بِالكُلِّيَّةِ إلى الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، ولا يَسَعُنا الإفْصاحُ بِأكْثَرَ مِن هَذا في هَذا البابِ خَوْفًا مِن قالِ أرْبابِ الحِجابِ، وخَلْفَهُ سِرٌّ جَلِيلٌ، واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ.
والِاسْمُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ مِنَ الأسْماءِ العَشَرَةِ الَّتِي بُنِيَتْ أوائِلُها عَلى السُّكُونِ، وهِيَ: ابْنٌ، وابْنَةٌ، وابْنُمٌ، واسْمٌ، واسْتٌ، واثْنانِ، واثْنَتانِ، وامْرُؤٌ، وامْرَأةٌ، وايْمُنُ اللَّهِ، وايْمُ اللَّهِ مِنهُ، وإلّا فَأحَدَ عَشَرَ إنِ اعْتُدَّ بِابْنِمٍ، فَإذا نَطَقُوا بِها زادُوا هَمْزَةً لِبَشاعَةِ الِابْتِداءِ بِالسّاكِنِ غَيْرِ المَدّاتِ عِنْدَهُمْ، وفِيها يَمْتَنِعُ، والأمْرُ ذَوْقِيٌّ، وهو مِمّا حُذِفَ عَجُزُهُ، كَيَدٍ، وما عَدا الثَّلاثَةَ الأخِيرَةَ مِمّا تَقَدَّمَ.
وأصْلُهُ سُمُوٌّ، حُذِفَتِ الواوُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، ولِتَعاقُبِ الحَرَكاتِ، وسُكِّنَ السِّينُ وحُرِّكَ المِيمُ، واجْتُلِبَتْ ألِفُ الوَصْلِ فَوَزْنُهُ افْعٌ، وتَصْرِيفُهُ إلى أسْماءٍ، وسُمَيٍّ وسُمِّيَتْ دُونَ أوْسامٍ ووَسِيمٍ، ووَسَمْتُ يَشْهَدُ لَهُ، والجَرْحُ بِالقَلْبِ لا يُقْبَلُ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ، كالعُلُوِّ، لِأنَّهُ لِدِلالَتِهِ عَلى مُسَمّاهُ يُعْلِيهِ مِن حَضِيضِ الخَفاءِ إلى ذُرْوَةِ الظُّهُورِ والجَلاءِ.
وقالَ الكُوفِيُّونَ: هو مِنَ السِّمَةِ، لِأنَّهُ عَلامَةٌ عَلى مُسَمّاهُ، وأصْلُهُ وسْمٌ، فَحُذِفَتِ الواوُ وعَوَّضَتْ عَنْها هَمْزَةُ الوَصْلِ، وكَفى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتالَ، فَوَزْنُهُ اعْلٌ، ويَرُدُّ عَلَيْهِمْ أنَّ الهَمْزَةَ لَمْ تُعْهَدْ داخِلَةً عَلى ما حُذِفَ صَدْرُهُ، وزِيادَةُ الإعْلالِ أقْيَسُ مِن عَدَمِ النَّظِيرِ، وأيْضًا كَوْنُها عِوَضًا يَقْتَضِي كَوْنَها مَقْصُودَةً لِذاتِها ووَصْلًا كَوْنُها مَقْصُودَةً تَبَعًا، والعِوَضُ كَجُزْءِ أصْلٍ دُونَ الوَصْلِ، فَما هو إلّا جَمْعٌ بَيْنَ الضَّبِّ والنُّونِ، فَلِذا قِيلَ: لا حَذْفٌ ولا تَعْوِيضٌ وإنَّما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةِ كَإعاءٍ وإشاحٍ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ فَجُعِلَتْ هَمْزَتَهُ هَمْزَةَ وصْلٍ، وقَدْ تُقْطَعُ لِلضَّرُورَةِ، ورَجَحَ الأوَّلُ لِهاتَيِكَ الشَّهادَةِ، وفِيهِ لُغاتٌ أوْصَلَها البَعْضُ إلى ثَمانِيَ عَشْرَةَ، ونَظَمَها فَقالَ:
؎لِلِاسْمِ عَشْرُ لُغاتٍ مَعَ ثَمانِيَةْ ∗∗∗ بِنَقْلِ جَدِّي شَيْخِ النّاسِ أكْمَلِها
؎سْمٌ سِماتٌ سَمًا واسْمٌ وزِدْ سِمَةً ∗∗∗ كَذا سَماءٌ بِتَثْلِيثٍ لِأوَّلِها
هَذا، وقَدْ طالَ التَّشاجُرُ في أنَّ الِاسْمَ هَلْ هو عَيْنُ المُسَمّى أوْ غَيْرُهُ؟ فالأشاعِرَةُ عَلى الأوَّلِ، والمُعْتَزِلَةُ عَلى الثّانِي، وقَدْ تَحَيَّرَ نَحارِيرُ الفُضَلاءِ في تَحْرِيرِ مَحَلِّ البَحْثِ عَلى وجْهٍ يَكُونُ حَرِيًّا بِهَذا التَّشاجُرِ، حَتّى قالَ مَوْلانا الفَخْرُ في التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ: إنَّ هَذا البَحْثَ يَجْرِي مَجْرى العَبَثِ، وذَكَرَ وجْهًا ادَّعى لُطْفَهُ ودِقَّتَهُ، وقَدْ كَفانا الشِّهابُ مُؤْنَةَ رَدِّهِ، وقَدْ أرادَ السَّيِّدُ النِّحْرِيرُ في شَرْحِ المَواقِفِ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ، ولِلسُّهَيْلِيِّ في ذَلِكَ كَلامٌ ادَّعى أنَّهُ الحَقُّ (p-53)وصَنَّفَ في رَدِّهِ ابْنُ السَّيِّدِ رِسالَةً مُسْتَقِلَّةً وادَّعى الشِّهابُ أنَّهُ إلى الآنَ لَمْ يَتَحَرَّرْ، وأنَّهُ لَمْ يَرَ مَعَ سَعَةِ اطِّلاعِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ ما فِيهِ ثَلْجُ الصُّدُورِ ولا شِفاءُ الغَلِيلِ، ولَمْ يَأْتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في حَواشِيهِ عَلى البَيْضاوِيِّ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ يُزِيحُ الإشْكالَ، ويُرِيحُ البالَ، وها أنا مِن فَضْلِ اللَّهِ تَعالى ذاكِرٌ شَيْئًا إذا قُبِلَ فَهو غايَةُ ما أتَمَنّاهُ، وقَدْ يُوجَدُ في الإسْقاطِ ما لا يُوجَدُ في الإسْقاطِ، وإنْ رُدَّ فَقَدْ رُدَّ قَبْلِي كَلامُ أُلُوفٍ كُلٌّ مِنهم فَرْدٌ يُقابَلُ بِصُفُوفٍ.
؎وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ∗∗∗ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق