الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ:
قَوْله تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنَّهُ يَفْتَحُ قُصُورَ الشَّامِ وَحُصُونَهَا، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ فَحَلَفُوا: مَا كُنَّا إلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَكَانَ مِمَّنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ: أَسْمَعُ آيَةً تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَجِثُّ الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك، لَا يَقُلْ أَحَدٌ أَنَا غَسَّلْت، أَنَا كَفَّنْت، أَنَا دَفَنْت. قَالَ: فَأُصِيبُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَقَدْ وُجِدَ غَيْرُهُ».
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَشْتَدُّ قُدَّامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحِجَارَةُ تَنْكُبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لَا تَعْتَذِرُوا».
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَزَلَ فِيمَا كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ.
[مَسْأَلَة الْهَزْلُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، لَا خُلْفَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَخُو الْحَقِّ وَالْعِلْمِ، وَالْهَزْلَ أَخُو الْبَاطِلِ وَالْجَهْلِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: نَظَرُوا إلَى قَوْلِهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67].
فَإِنْ كَانَ الْهَزْلُ فِي سَائِرٍ الْأَحْكَامِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقَاوِيلَ، جِمَاعُهَا ثَلَاثَةٌ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.
الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ الْهَزْلُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ.
فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُ نِكَاحُ الْهَازِلِ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: يُفْسَخُ قَبْلُ وَبَعْدُ.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ قَوْلَانِ؛ وَكَذَلِكَ يَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا فِيهِ الْقَوْلَانِ.
قَالَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا: إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْهَزْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَا غَلَبَ الْجَدُّ الْهَزْلَ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَيَلْزَمُ هَزْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْقُرْبَةِ، فَيَغْلِبُ اللُّزُومُ فِيهِ عَلَى الْإِسْقَاطِ.
{"ayah":"وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُمۡ لَیَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ"}