فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34]: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَكْلُهَا بِالرُّشَا، وَهِيَ كُلُّ هَدِيَّةٍ قُصِدَ بِهَا التَّوَصُّلُ إلَى بَاطِلٍ، كَأَنَّهَا تُسَبِّبُ إلَيْهِ؛ مِنْ الرِّشَاءِ، وَهُوَ الْحَبْلُ؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْحُكْمِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْجَاهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»، وَالرَّائِشَ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَسَّطُ لِذَلِكَ مَعَهُمَا.
الثَّانِي: أَخْذُهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
[مَسْأَلَة الصَّدّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]: إنْ قِيلَ فِيهِ: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ صَدُّهُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، وَإِغْوَائِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، لَا يَدْفَعُهُ اللَّفْظُ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]: الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ، كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَوْ تَحْتَهَا، يُقَالُ: كَنَزَهُ يَكْنِزُهُ إذَا جَمَعَهُ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إنَّ الشَّرْعَ غَيْرُ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَهَا فِي نَفْسِهَا بِتَخْصِيصِ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، وَقَصْرِ بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهَا لِلْأَسْمَاءِ، كَالْقَارُورَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بَعْضِ الْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ النَّقْدَيْنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا دَفِينًا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُنْفَقْ وَيُهْلَكْ فِي ذَاتِ اللَّهِ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا. وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ، وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ. وَيَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ».
وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: «وَحَقُّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِفْقَارُ ظَهْرِهَا، وَحَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا».
وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِكُلِّ جَامِعٍ فِي كُلِّ مُوطِنٍ بِكُلِّ حَالٍ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَنْزَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي النَّقْدَيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ [تَحْرِيمٌ] ضُبِطَ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْحُلِيَّ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الدَّفِينُ مَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي التَّمْرِ صَدَقَتُهُ، ومَنْ دَفَنَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَدْفَعُهَا بَعْدَهَا لِغَرِيمٍ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلِمَا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّادِسِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِهَا: «وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا».
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ أَنَّ الْحُقُوقَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَالْمَسَاكِينُ لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ الزَّكَاةُ، وَرُبَّمَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ، فَكَنْزُ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ ذَنْبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ، فَقُلْت لَهُ: مَا أَنْزَلَك مَنْزِلَك هَذَا؟ قَالَ: كُنْت بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْت: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ [رِيبَةٌ] فِي ذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: حَتَّى آذَوْنِي. فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: إنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ نَسَخَتْهَا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]؛ قَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ، وَجَلَاءِ الْحَقِّ: وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ: الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُلَّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَاهَا وَقُضِيَتْ بَقِيَ الْمَالُ مُطَهَّرًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ.
الْمُدْرَكُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6] {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7].
الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ: تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَنَقُولُ: أَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ مَالٌ مَجْمُوعٌ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَالٍ دِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ، وَلَا حَقَّ لِلَّهِ سِوَى الزَّكَاةُ؛ فَإِخْرَاجُهَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ وَصْفِ الْكَنْزِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ الْكَنْزَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ تِبْرِهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً.
ثُمَّ إنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ فَيُتَنَخَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُمَا، أَوْ اُتُّخِذَتْ حُلِيًّا فَلَيْسَا بِكَنْزٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ} [التوبة: 34] الْآيَةَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبُ لِقَوْلِهِ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَذَابُ إلَّا عَلَى تَارِكِ الْوَاجِبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُلْنَا: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، أَصْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَيْءٌ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَخَذَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ، وَتَخْصِيصِ مَا عَمَّ وَشَمَلَ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ، لِبُطْلَانِهِ.
أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُفَرِّقُهَا».
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ آلَافٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابًا، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ الصَّدَقَةِ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ: أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ».
فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ الْمَالِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَاغِ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ.
وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فِي حَالَةٍ أَمْ أُخْرَى لِقَوْمٍ آخَرِينَ؟ فَقَالَ: «خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ».
[مَسْأَلَة ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي]
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]: فَذَكَرَ ضَمِيرًا وَاحِدًا عَنْ مَذْكُورَيْنِ.
وَعَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} [التوبة: 34] جَمَاعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَنْزٌ، فَمُرَجِّعُ قَوْلِهِ: " هَا " إلَى جَمَاعَةِ الْكُنُوزِ.
الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
وَهُمَا شَيْئَانِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْ ... وَدِ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
وَطَرِيقُ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُعَاصَيَا، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَة مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ]
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّمَا وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَرَجَعَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلَيْهِمْ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَخُصُوصَهُ لَا يُؤْثِرُ فِي آخَرَ الْكَلَامِ وَعُمُومِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا [بِنَفْسِهِ].
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَوْ قَالَ: وَيَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ.
أَمَا وَقَدْ قَالَ: وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَقَدْ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لَا وَصْفًا لِجُمْلَةٍ عَلَى وَصْفٍ لَهَا.
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْت إلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: " بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ ". ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ، وَجَلَسْت إلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقُلْت لَهُ: لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَرِهُوا مَا قُلْت لَهُمْ. قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي خَلِيلِي. قُلْت: مَنْ خَلِيلُك؟ قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَتُبْصِرُ أَحَدًا؟ فَنَظَرْت إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ، وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ. قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِي: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ، إنَّمَا يَجْمَعُونَ لِلدُّنْيَا، وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ».
قَالَ الْقَاضِي: الْحَلَمَةُ: طَرَفُ الثَّدْيِ، وَالنُّغْضُ، بَارِزُ عَظْمِ الْكَتِفِ الْمُحَدَّدِ.
وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ، وَتَأْوِيلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ جَامِعٍ لِلْمَالِ مُحْتَجِزٍ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ احْتَجَنَهُ وَاكْتَنَزَهُ عَنْ الزَّكَاةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُك، أَنَا كَنْزُك. ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 180]. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، يُرِيدُ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَفَّكِ الْأَسِيرِ، وَحَقِّ الْجَائِعِ، وَالْعَطْشَانِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ كَالْحُقُوقِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَعْنِي حَيَّةً.
وَهَذَا تَمْثِيلُ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الشُّجَاعَ جِسْمٌ وَالْمَالَ جِسْمٌ، فَتَغَيُّرُ الصِّفَاتِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى.
وَإِنَّمَا خَصَّ الشُّجَاعَ؛ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِنَّ: «مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ».
وَقَوْلُهُ: أَقْرَعُ، يَعْنِي الَّذِي ابْيَضَّ رَأْسُهُ مِنْ السُّمِّ.
وَالزَّبِيبَتَانِ: زُبْدَتَانِ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَانِ إذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ، قَالَتْ أُمُّ غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ: رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى تَزَبَّبَ شَدْقَايَ. ضَرَبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ كَهَيْئَةِ الْمَالِ، فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُمَا نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ الشُّجَاعُ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى شَدْقَيْهِ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّبِيبَتَيْنِ.
وَكَتَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ شُجَاعٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَءُوهُ مَنْصُوبًا لِئَلَّا يُشْكِلَ بِالْمَمْدُودِ، وَكَذَلِكَ نُظَرَاؤُهُ.
وَاللِّهْزِمَةُ: الشَّدْقَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ. وَقِيلَ: هُمَا فِي أَصْلِ الْحَنَكِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنَّهُ يَمْثُلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَتَّبِعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ».
فَأَمَّا حَبْسُهُ لِيَدِهِ فَلِأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ وَقَبَضَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِفَمِهِ فَلِأَنَّهُ أَكَلَهُ، وَأَمَّا خُرُوجُهُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إلَى نُغْضِ كَتِفِهِ فَلِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا؛ فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ وَالْعَذَابِ.
[مَسْأَلَة لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالَهُ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي]
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُ؟ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْكَنْزِ؟ قُلْنَا: إذَا لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ، وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالِهِ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي فَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَكُونُ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى.
[مَسْأَلَة وَقْت نُزُول آيَة وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة]
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفَقْرِ الصَّحَابَةِ، وَفَرَاغِ خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ كَانَتْ شُرِعَتْ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَغْنِيَاءً، وَبَعْضُهُمْ فُقَرَاءً، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيرُ مِنْهُمْ يَرْبِطُ بَطْنَهُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ الْجُوعِ، وَبُيُوتُ الصَّحَابَةِ الْأَغْنِيَاءِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الرِّزْقِ، يَشْبَعُ أُولَئِكَ، وَيَجُوعُ هَؤُلَاءِ، فَيَنْدُبَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِي الْمُوَاسَاةِ، وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ.
{"ayah":"۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَیَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِینَ یَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا یُنفِقُونَهَا فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمࣲ"}