الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6] {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]: فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَّا " عَادٌ " فَمَعْلُومَةٌ قَدْ جَرَى ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَعَظُمَ أَمْرُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: إرَمَ فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمُ جَدِّ عَادٍ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. الثَّانِي: إرَمُ: أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ عَادٍ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ وَهُوَ: الرَّابِعُ هُوَ إرَمُ بْنُ عَوْصِ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. الْخَامِسُ أَنَّ إرَمَ الْهَلَاكُ: يُقَالُ: أَرَمَ بَنُو فُلَانٍ أَيْ هَلَكُوا. السَّادِسُ أَنَّهُ اسْمُ الْقَرْيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الْقَاضِي: لَوْ أَنَّ قَوْلَهُ: إرَمَ يَكُونُ مُضَافًا إلَى عَادٍ لَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إلَى جَدِّهِ أَوْ إلَى إرَمَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ عَادٌ مُنَوَّنٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ جَدِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا زَائِدًا لِعَادٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا أُمَّةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَبِيلَةً مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ اسْمَ الْقَرْيَةِ. وَيُحْتَمَلُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْهَلَاكِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، لَوْلَا أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهَا إرْمٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ. فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنْ الْخَفَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7]: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ يَنْتَجِعُونَ الْقَطْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ الطُّولُ، كَانُوا أَطْوَلَ أَجْسَامًا وَأَشَدَّ قُوَّةً. وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّ طُولَ الرَّجُلِ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي الْهَوَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ إلَى الْآنَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِمَادَ الْقُوَّةُ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ. الرَّابِعُ أَنَّهُ ذَاتُ الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، يُقَالُ: إنَّ فِيهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ عَمُودٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي تَعْيِينِهَا: وَفِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ أَنَّ أَشْهَبَ قَالَ عَنْ مَالِكٍ: هِيَ دِمَشْقُ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ: هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَتَحْقِيقُهَا أَنَّهَا دِمَشْقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ فِي الْبِلَادِ مِثْلُهَا وَقَدْ ذَكَرْت صِفَتَهَا وَخَبَرَهَا فِي كِتَابِ تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْمِلَّةِ، وَإِلَيْهَا أَوَتْ مَرْيَمُ، وَبِهَا كَانَ آدَم، وَعَلَى الْغُرَابِ جَبَلِهَا دَمُ هَابِيلَ فِي الْحَجَرِ جَارٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ اللَّيَالِي، وَلَا أَثَّرَتْ فِيهِ الْأَيَّامُ، وَلَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، بَاطِنُهَا كَظَاهِرِهَا، مَدِينَةٌ بِأَعْلَاهَا، وَمَدِينَةٌ بِأَسْفَلِهَا، تَشُقُّهَا تِسْعَةُ أَنْهَارٍ؛ لِلْقَصَبَةِ نَهْرٌ، وَلِلْجَامِعِ نَهْرٌ، وَبَاقِيهَا لِلْبَلَدِ، وَتَجْرِي الْأَنْهَارُ مِنْ تَحْتِهَا كَمَا تَجْرِي مِنْ فَوْقِهَا، لَيْسَ فِيهَا كِظَامَةٌ وَلَا كَنِيفٌ، وَلَا فِيهَا دَارٌ، وَلَا سُوقٌ، وَلَا حَمَّامٌ، إلَّا وَيَشُقُّهُ الْمَاءُ لَيْلًا وَنَهَارًا دَائِمًا أَبَدًا، وَفِيهَا أَرْبَابُ دُورٍ قَدْ مَكَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ سَعَةِ الْأَحْوَالِ بِالْمَاءِ، حَتَّى إنَّ مُسْتَوْقَدَهُمْ عَلَيْهِ سَاقِيَةٌ، فَإِذَا طُبِخَ الطَّعَامُ وُضِعَ فِي الْقَصْعَةِ، وَأُرْسِلَ فِي السَّاقِيَةِ؛ فَيُجْرَفُ إلَى الْمَجْلِسِ فَيُوضَعُ فِي الْمَائِدَةِ، ثُمَّ تُرَدُّ الْقَصْعَةُ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى إلَى الْمُسْتَوْقَدِ فَارِغَةً، فَتُرْسَلُ أُخْرَى مَلْأَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَتِمَّ الطَّعَامُ. وَإِذَا كَثُرَ الْغُبَارُ فِي الطُّرُقَاتِ أَمَرَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَنْ يُطْلَقَ النَّهْرُ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالْأَرْبَاضِ فَيَجْرِي الْمَاءُ عَلَيْهَا، حَتَّى يَلْجَأَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ إلَى الدَّكَاكِينِ، فَإِذَا كُسِحَ غُبَارُهَا سَكَّرَ السَّاقِيَانِيُّ أَنْهَارَهَا، فَمَشَيْت فِي الطُّرُقِ عَلَى بَرْدِ الْهَوَاءِ وَنَقَاءِ الْأَرْضِ، وَلَهَا بَابُ جَيْرُونِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ؛ وَعِنْدَهُ الْقُبَّةُ الْعَظِيمَةُ والمِيقَاتَاتُ لِمَعْرِفَةِ السَّاعَاتِ، عَلَيْهَا بَابُ الْفَرَادِيسِ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ، عِنْدَهُ كَانَ مَقَرِّي، وَإِلَيْهِ مِنْ الْوَحْشَةِ كَانَ مَفَرِّي، وَإِلَيْهِ كَانَ انْفِرَادِي لِلدَّرْسِ وَالتَّقَرِّي. وَفِيهَا الْغُوطَةُ مَجْمَعُ الْفَاكِهَاتِ، وَمَنَاطُ الشَّهَوَاتِ، عَلَيْهَا تَجْرِي الْمِيَاهُ، وَمِنْهَا تُجْنَى الثَّمَرَاتُ؛ وَإِنَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة لَعَجَائِبَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْمَنَارُ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الْعُمُدِ، وَلَكِنْ لَهَا أَمْثَالٌ، فَأَمَّا دِمَشْقُ فَلَا مِثَالَ لَهَا.
وَقَدْ رَوَى مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ كِتَابًا وُجِدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَلَمْ يُدْرَ مَا هُوَ، فَإِذَا فِيهِ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ الَّذِي رَفَعَ الْعِمَادَ، بَنَيْتهَا حِينَ لَا شَيْبَ وَلَا مَوْتَ قَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ لَتَمُرُّ بِهِمْ مِائَةُ سَنَةٍ لَا يَرَوْنَ بِهَا جِنَازَةً.
وَذُكِرَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، أَنَا الَّذِي رَفَعْت الْعِمَادَ، أَنَا الَّذِي كَنَزْت كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، لَا يُخْرِجُهُ إلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[مَسْأَلَة التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَحْكَامِ التَّحْذِيرُ مِنْ التَّطَاوُلِ فِي الْبُنْيَانِ، وَالتَّعَاظُمِ بِتَشْيِيدِ الْحِجَارَةِ، وَالنَّدْبُ إلَى تَحْصِيلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ التَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ، «وَقَدْ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُنْيَانُ مَسْجِدِهِ، فَقَالَ: عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى». وَالْبُنْيَانُ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَقَدْ تُوُفِّيَ وَمَا وَضَعَ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، ثُمَّ تَطَاوَلْنَا فِي بُنْيَانِنَا، وَزَخْرَفْنَا مَسَاجِدَنَا، وَعَطَّلْنَا قُلُوبَنَا وَأَبْدَانَنَا. وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ"}