الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَمُقَابِلَتَهَا الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ
وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْوِلَايَةَ هِيَ الْقُرْبُ، وَأَنَّ الْعَدَاوَةَ هِيَ الْبُعْدُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ يَكُونَانِ حَقِيقَةً بِالْمَسَافَةِ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَيَكُونَانِ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هَاهُنَا بُعْدُ الْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَرِيبٌ، وَالْوَلَدَ قَرِيبٌ، بِحُكْمِ الْمُخَالَطَةِ، وَالصُّحْبَةِ، وَلَكِنَّهُمَا قَدْ يَقْرُبَانِ بِالْأُلْفَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعِشْرَةِ الْجَمِيلَةِ، فَيَكُونَانِ وَلِيَّيْنِ، وَقَدْ يَبْعُدَانِ بِالنَّفْرَةِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، فَيَكُونَانِ عَدُوَّيْنِ، وَعَنْ هَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ حَذَّرَ، وَبِهِ أَنْذَرَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَوْا النَّاسَ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذَا يُبَيِّنُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِفِعْلِهِ، فَإِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فِعْلَ الْعَدُوِّ كَانَ عَدُوًّا، وَلَا فِعْلَ أَقْبَحَ مِنْ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ فِي طَرِيقِ الْإِيمَانِ. فَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ وَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك، فَخَالَفَهُ فَآمَنَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُهَاجِرُ وَتَتْرُكُ أَهْلَك وَمَالَك؛ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ؛ فَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَتُجَاهِدُ فَتَقْتُلُ نَفْسَك وَتُنْكَحُ نِسَاؤُك، وَيُقْسَمُ مَالُك، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقُتِلَ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ».
وَقُعُودُ الشَّيْطَانِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا يَكُونُ بِالْوَسْوَسَةِ.
وَالثَّانِي: بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ وَالْوَلَدَ وَالصَّاحِبَ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25]. فِي حِكْمَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ اتَّخَذَ أَهْلًا وَمَالًا وَوَلَدًا كَانَ لِلدُّنْيَا عَبْدًا.
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالُ الْعَبْدِ؛ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ فَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَفَشَ»، وَلَا دَنَاءَةَ أَعْظَمَ مِنْ عِبَادَةِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَلَا هِمَّةَ أَخَسَّ مِنْ هِمَّةٍ تَرْتَفِعُ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ وَلَدُهُ وَزَوْجُهُ عَدُوًّا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا وَلَدُهَا وَزَوْجُهَا عَدُوًّا بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ.
وَعُمُومُ قَوْلِهِ: {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [التغابن: 14] يُدْخِلُ فِيهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَدُخُولِهِمَا فِي كُلِّ آيَةٍ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَاحْذَرُوهُمْ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]؛ مَعْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ.
وَالْحَذَرُ عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْبَدَنِ، وَإِمَّا لِضَرَرٍ فِي الدِّينِ. وَضَرَرُ الْبَدَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَضَرَرُ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. فَحَذَّرَ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُ بِهِ.
[مَسْأَلَة تَفْسِير قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَئِنْ رَجَعْت لَأَقْتُلَنَّهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَئِنْ رَجَعْت لَا يَنَالُونَ مِنِّي خَيْرًا أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجِكُمۡ وَأَوۡلَـٰدِكُمۡ عَدُوࣰّا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُوا۟ وَتَصۡفَحُوا۟ وَتَغۡفِرُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ"}