{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140] فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى قَوْله تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140].
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْقَاصِرَةِ فِي تَنْوِيعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَفَاهَةً بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا عَدْلٍ؛ وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ أَعْظَمَ جَهْلًا وَأَكْبَرَ جُرْمًا؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَاحِدٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَبْيَنُ وَأَوْضَحُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولِكُمْ وَوُفُورِ أَحْلَامِكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْحَجَرَ. فَقَالَ عَمْرٌو: تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا بَارِيهَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ سَخَافَةِ الْعَرَبِ وَجَهْلِهَا أَمْرٌ أَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، وَأَبْطَلَهُ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مِنْ الظَّاهِرِ لَنَا أَنْ نُمِيتَهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ، وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَرَ [إلَّا] أَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ، وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ، كَمَا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ بِهِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ، وَحُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ، بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّخْلِيطَ لَا يَنْقَطِعَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يَصُدَّ كَافِرٌ عَنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ، وَلَا مُبْتَدِعٌ عَنْ تَغْيِيرِ الدِّينِ، قَصَدَهُ بِبَيَانِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ وَفَّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الْخَيْرُ فَيَسَّرَ لَهُ مَعْرِفَتَهَا، فَآمَنَ وَأَطَاعَ، وَخَذَلَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّرُّ فَصَدَفَهُ عَنْهَا، فَكَفَرَ وَعَصَى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى بَسْطِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ} [الأنعام: 136] أَيْ: أَظْهَرَ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَجَمِيعُهُ لَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي خَلْقِهِ، فَكَيْفَ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الْقُرْبَانِ بِهِ مِنْ الْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا لِلْعِبَادَةِ مَعَهُ، وَشَرُّ الْعَبِيدِ كَمَا يَأْتِي [بَيَانُهُ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ بِنِعْمَةٍ فَجَعَلَ يَشْكُرُ غَيْرَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي لِلْأَوْثَانِ جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنْ الْحَرْثِ مَصْرُوفًا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِهَا، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا قُرْبَانًا لِلْآلِهَةِ.
وَقِيلَ: كَانَ لِلَّهِ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ، وَكَانَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إذَا اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَإِذَا اخْتَلَطَ مَا لِلْأَوْثَانِ بِهَا رَدُّوهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] الْآيَةَ.
وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يَغْرَمُوهُ، وَإِذَا هَلَكَ مَا جُعِلَ لِلْأَوْثَانِ غَرِمُوهُ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَذْكُرُونَ اسْمَ الْأَوْثَانِ عَلَى نَصِيبِ اللَّهِ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نَصِيبِ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ تَرْكَهُمْ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مَذْمُومٌ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] يَعْنِي: فِي الْوَأْدِ لِلْبَنَاتِ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَا حُرِمْنَ مِنْ النُّصْرَةِ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ.
وَقِيلَ: كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ عَبْدَ اللَّهِ.
وَحَقِيقَةُ التَّزْيِينِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ، وَقَدْ يَتَغَلَّبُ بِخِذْلَانِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ. وَمِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ تَصْوِيرَهُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ أَكْلِ الذُّكُورِ مِنْ الْقَرَابِينِ، وَمَنْعُ الْإِنَاثِ مِنْ أَكْلِهَا، كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ، وَكَانَ تَفْضِيلُهُمْ لِلذُّكُورِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا:
إمَّا لِفَضْلِ الذَّكَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِمَّا لِأَنَّ الذُّكُورَ كَانُوا سَدَنَةَ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ؛ فَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا جُعِلَ لَهُمْ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ تَعَدٍّ فِي الْأَفْعَالِ، وَابْتِدَاءٌ فِي الْأَقْوَالِ، وَعَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ جُمْهُورٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَقَالُوا: إنَّهُ يُحَرِّمُ وَيُحَلِّلُ بِالْهَوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعُلَمَاؤُنَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ: الْقِيَامُ كَذَا فِي مَسْأَلَةٍ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَذَا، وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
نُكْتَتُهُ الْمُجْزِئَةُ هَاهُنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إذَا اطَّرَدَ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَيَرَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعَ إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصًا، وَلَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمَصْلَحَةِ وَلَا رَأَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ رَامَ الْجُوَيْنِيُّ رَدَّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي هِيَ نُخْبَةُ عَقِيدَتِهِ وَنَخِيلَةُ فِكْرَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْهُ، وَفَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي ذَلِكَ وَرَاجَعْته حَتَّى وَقَفَ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا فِي تَحْصِيلِهِ شِفَاءٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: فَقَدْ تَاخَمْتُمْ هَذِهِ الْمَهْوَاةَ، وَأَشْرَفْتُمْ عَلَى التَّرَدِّي فِي الْمَغْوَاةِ؛ فَإِنَّكُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْيَمِينَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَقْلِبَ الْأَوْصَافَ الشَّرْعِيَّةَ، وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: هَيْهَاتَ، مَا حَرَّمْنَا إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَلَا قُلْنَا إلَّا مَا قَالَ اللَّهُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَسَنُبَيِّنُهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
{"ayah":"وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلۡحَرۡثِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ نَصِیبࣰا فَقَالُوا۟ هَـٰذَا لِلَّهِ بِزَعۡمِهِمۡ وَهَـٰذَا لِشُرَكَاۤىِٕنَاۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَاۤىِٕهِمۡ فَلَا یَصِلُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ یَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَاۤىِٕهِمۡۗ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ"}