فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ.
يَعْنِي نَقَضُوا الْعَهْدَ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي شِقٍّ، أَيْ جِهَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُخْرَى، وَذِكْرُ اللَّهِ مَعَ رَسُولِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ، وَكَانَ نَقْضُهُمْ الْعَهْدَ لِخَبَرٍ؛ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّضِيرَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةٍ، فَقَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَارٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يُلْقُوا عَلَيْهِ رَحًى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ؛ وَبِذَلِكَ اسْتَحَلَّهُمْ وَأَجَلَاهُمْ إلَى خَيْبَرَ، وَصَفِيَّةُ مِنْهُمْ سَبَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ. قَالَ: فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجَلَاهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَالصَّفْرَاءِ، وَالْبَيْضَاءِ، وَالْحَلْقَةِ، وَالدِّنَانِ، وَمِسْكِ الْجَمَلِ».
فَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. وَالْحَلْقَةُ: السِّلَاحُ. وَالدِّنَانُ: الْفَخَّارُ. وَمِسْكُ الْجَمَلِ: جُلُودٌ يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ بِشَعْرِهَا.
«فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَجَعَ إلَيْهِمْ: يَا أَخَابِثَ خَلْقِ اللَّهِ، يَا إخْوَةَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: فَقَالُوا: مَهْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَمَا كُنْت فَحَّاشًا. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إضْمَارَ الْخِيَانَةِ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ قَوْلًا [فَيَنْتَقِضُ قَوْلًا]، وَالْعَقْدُ إذَا ارْتَبَطَ بِالْقَوْلِ انْتَقَضَ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَإِذَا ارْتَبَطَ بِالْفِعْلِ لَمْ يَنْتَقِضْ إلَّا بِالْفِعْلِ، كَالنِّكَاحِ يَرْتَبِطُ بِالْقَوْلِ وَيَنْحَلُّ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَبِالْفِعْلِ، وَهُوَ الرَّضَاعُ. وَعِتْقُ الْمِدْيَانِ يَنْعَقِدُ بِالْقَوْلِ، وَيُنْقِضُهُ الْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُنْقِضُهُ الْقَوْلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ كَيْفِيَّةَ نَقْضِ الْعَهْدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا تَحَقَّقَ نَقْضُ الْعَهْدِ فَلِمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ اُخْرُجُوا مِنْ بِلَادِي؟ وَلِمَ لَمْ يَأْخُذْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
فَإِنَّ قِيلَ: هَذَا مَا خَانَهُ، وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ بِخَبَرِ اللَّهِ عَنْهُ. قُلْنَا: الْخَوْفُ هَاهُنَا الْوُقُوعُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ عَاقِدٍ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَحْدَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مَشْهُورًا، وَسَاقَهُ اللَّهُ إلَى مَا كَتَبَ مِنْ الْجَلَاءِ.
{"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَاۤقُّوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۖ وَمَن یُشَاۤقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}