وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ».
قَالَ الرَّاوِي: وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي. وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ، كَمَا قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ»، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ.
الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [بِنَصِّهِ] عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ: «إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»، وَشَبَهُهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ.
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ «إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا»، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ «لِأَجْلِ الْقَمْلِ»، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ».
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ: «أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ
عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ: أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهِ يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ».
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ».
وَفِي رِوَايَةٍ «شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ»، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ عَلِيَّ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ: «فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ». وَهَذَا نَصٌّ.
[مَسْأَلَة ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ
هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا»، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ: اتَّخَذْت أَنْمَاطًا؟ قُلْت: وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ؟ قَالَ: أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ». وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا.
[مَسْأَلَة لُبْسُ الْخَزِّ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
[مَسْأَلَة اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ».
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ».
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا»؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ»؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا.
[مَسْأَلَة إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّة أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ. وَقَالَ: «لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتَرَكَهُ.
[مَسْأَلَة أقتناء إنَاء الذَّهَب والْفِضَّة]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ.
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا.
{"ayah":"یُطَافُ عَلَیۡهِم بِصِحَافࣲ مِّن ذَهَبࣲ وَأَكۡوَابࣲۖ وَفِیهَا مَا تَشۡتَهِیهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡیُنُۖ وَأَنتُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}