{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَقَوْلُهُ: {إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34]: يَعْنِي الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْيَتِيمِ، وَذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْيَتِيمِ، لَا لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ: اتَّجَرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ، وَقَدْ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْحَسَنَ فِيهِ يَعْنِي التِّجَارَةَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] يَعْنِي قُوَّتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَشُدِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَسَرَدْنَا الْأَقْوَالَ فِيهِ، وَالْأَشُدُّ كَمَا قُلْنَا فِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الْأَشُدَّ هَاهُنَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً، وَجَاءَ بَيَانُ الْيَتِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدًا قَالَ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّةِ الْبَدَنِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَمْكِينَ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ وَبَعْدَ حُصُولِ قُوَّةِ الْبَدَنِ لَأَذْهَبَهُ فِي شَهَوَاتِهِ، وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَالَ لَهُ. وَخَصَّ الْيَتِيمَ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الذِّكْرِ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَافْتِقَادِ الْآبَاءِ لِبَنِيهِمْ، فَكَانَ الْإِهْمَالُ لِفَقِيدِ الْأَبِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] يَعْنِي مَسْئُولًا عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ فِي مَوَاضِعَ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء: 35] يُرِيدُ أَعْطُوهُ بِالْوَفَاءِ، وَهُوَ التَّمَامُ، لَا بَخْسَ فِيهِ، بِالْقِسْطِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35] يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَبَّانُ يَعْنِي بِهِ مَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] وَقَالَ: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8] لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنُقْصَانٍ. وَمِنْ نَوَادِرِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ مَا أَنْبَأَنَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاعِظُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَكْت عَلَّاقَةَ الْمِيزَانِ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ، وَارْتَفَعَتْ سَائِرُ الْأَصَابِعِ كَانَ تَشَكُّلِهَا مَقْرُوءًا بِقَوْلِك اللَّهُ، فَكَأَنَّهَا إشَارَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي تَسْيِيرِ الْوَزْنِ كَذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْك، فَاعْدِلْ فِي وَزْنِك.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الإسراء: 35]: أَيْ عَاقِبَةً. مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ مِنْ طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
{"ayah":"وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا"}