فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نِعَمِهِ مَا شَرَحَ فِيهَا، فَمِنْهَا الظِّلَالُ تَقِي مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ الَّذِي لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَبْدَانُ، وَلَا يَبْقَى مَعَهُ، وَلَا دُونَهُ الْإِنْسَانُ، مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَغَمَامٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجِبَالُ، وَهِيَ:
[مَسْأَلَة كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: خَلَقَهَا اللَّهُ عُدَّةً لِلْخَلْقِ، يَأْوُونَ إلَيْهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا، وَيَعْتَزِلُونَ الْخَلْقَ فِيهَا، فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَبَّدُ بِغَارِ حِرَاءٍ، وَيَمْكُثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ خَرَجَ مُهَاجِرًا إلَى رَبِّهِ، هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ، فَارًّا بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْصَنَ بِغَارِ ثَوْرٍ، وَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مَعَ الصِّدِّيقِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ أَمْضَى هِجْرَتَهُ، وَأَنْفَذَ عَزْمَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ هِجْرَتِهِ».
وَقَدْ قِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّهْلَ وَالْجِبَالَ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ أَحَدَهُمَا لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا أَدْرِي إذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا مُبْتَغِيهِ ... أَمْ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي
وَكَمَا قَالَ فِي الْحَرِّ بَعْدَ هَذَا: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَرَادَ وَالْبَرْدَ، فَحُذِفَ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَحَدُهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]: وَالسِّرْبَالُ: كُلُّ مَا سَتَرَ بِاللِّبَاسِ مِنْ ثَوْبٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ خَلَقَهُ عَارِيًّا، ثُمَّ جَعَلَهُ بِنِعْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاسِيًا؛ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سَرَابِيلُهَا جُلُودُهَا أَوْ مَا يَكُونُ مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ عَلَيْهَا؛ فَشَرَّفَ الْآدَمِيَّ بِأَنْ كُسِيَ مِنْ أَجْزَاءٍ سِوَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]: يَعْنِي دُرُوعَ الْحَرْبِ؛ مَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ عُدَّةً لِلْجِهَادِ، وَعَوْنًا عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَعَلَّمَهَا، كَمَا عَلَّمَ صَنْعَةَ غَيْرِهَا، وَلَبِسَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، تُقَاةَ الْجِرَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ يَطْلُبُ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَعُدُّ السَّيْفَ وَالرُّمْحَ وَالسَّهْمَ لِلْقَتْلِ بِهَا لِغَيْرِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ يُنْفِذُ اللَّهُ مَا شَاءَ مِنْ حُكْمِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الشَّهَادَةَ بِأَنْ يَسْتَقْتِلَ مَعَ الْأَعْدَاءِ، وَلَا بِأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْحُتُوفِ، وَلَكِنَّهُ يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَأْخُذُ حِذْرَهُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، وَيُعْطِيه اللَّهُ بَعْدُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81] بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى [قِرَاءَةِ] مَنْ قَرَأَهَا كَذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تَنْقَادُونَ إلَى طَاعَتِهِ شُكْرًا عَلَى نِعْمَتِهِ.
{"ayah":"وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـٰلࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَـٰنࣰا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰبِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ"}