الْآيَةُ السَّادِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] فِي لُغَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، كَالْإِصْرِ وَالْأَشَرِّ.
الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ شِدَّةٌ كَنِعْمَةٍ وَأَنْعُمٍ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ.
الثَّالِثُ: وَاحِدُهُ شَدَّ، كَقَوْلِك قَدَّ وَأَقَدَّ.
الرَّابِعُ: قَالَ يُونُسُ: وَاحِدُهُ شَدَّ، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
الْخَامِسُ: أَشُدُّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْدِيرِهِ: وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الْحُلُمِ إلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، أُمَّهَاتُهَا خَمْسٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ الْحُلُمُ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ.
الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا إلَى أَرْبَعِينَ؛ وَهُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْحُلُمَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَامًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عِشْرُونَ سَنَةً؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الرَّابِعُ: إنَّهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَرْبَعُونَ؛ يُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُلُمَ إلَى خَمْسِينَ سَنَةً؛ فَإِنَّ مِنْ الْحُلُمِ يَشْتَدُّ الْآدَمِيُّ إلَى خَمْسِينَ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْقَهْقَرَى قَالَ الشَّاعِرُ:
أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي ... وَتَجْرِيبِي مُدَارَاةُ الشُّؤُونِ
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]: الْحُكْمُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعْنَى تَرْتِيبِ " حُكْمٍ ".
وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَمَا قَبْلَهُ فِي زَمَانِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ فِيهِ مَعْدُومٌ إلَّا فِي النَّادِرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قِيلَ لَهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ: أَلَا تَذْهَبُ تَلْعَبُ؟ قَالَ: مَا خُلِقْت لِلَّعِبِ. وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ بِهِ حَالَ يُوسُفَ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ بِأَنَّهُ آتَاهُ الْعِلْمَ، وَآتَاهُ الْعَمَلَ بِمَا عَلِمَ؛ وَخَبَرُ اللَّهِ صَادِقٌ، وَوَصْفُهُ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ حَقٌّ، فَقَدْ عَمِلَ يُوسُفُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَتَحْرِيمِ خِيَانَةِ السَّيِّدِ أَوْ الْجَارِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ فِي أَهْلِهِ، فَمَا تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَلَا أَنَابَ إلَى الْمُرَاوَدَةِ [بِحُكْمِ الْمُرَاوَدَةِ]؛ بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، وَفَرَّ مِنْهَا؛ حِكْمَةٌ خُصَّ بِهَا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ وَهَذَا يَطْمِسُ وُجُوهَ الْجَهَلَةِ مِنْ النَّاسِ وَالْغَفَلَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نِسْبَتِهِمْ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَقَلُّ مَا اقْتَحَمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ هَتَكَ السَّرَاوِيلَ، وَهَمَّ بِالْفَتْكِ فِيمَا رَأَوْهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، وَحَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْت عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، بَلْ أُبَرِّئُهُ مِمَّا بَرَّأَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الَّذِينَ اسْتَخْلَصْنَاهُمْ. وَالْفَحْشَاءُ هِيَ الزِّنَا وَالسُّوءُ هُوَ الْمُرَاوَدَةُ وَالْمُغَازَلَةُ، فَمَا أَلَمَّ بِشَيْءٍ وَلَا أَتَى بِفَاحِشَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24].
قُلْنَا: قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ شَرْحِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ [سُبْحَانَهُ] مَا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى فِي جَانِبِ الْقِصَّةِ فِعْلًا بِجَارِحَةٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْهَمُّ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ، فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا، وَيَقُولُونَ: فَعَلَ، وَفَعَلَ؟ وَاَللَّهُ إنَّمَا قَالَ: هَمَّ بِهَا، لَا أَقَالَهُمْ وَلَا أَقَاتَهُمْ اللَّهُ وَلَا عَالَهُمْ.
كَانَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَأَيُّ إمَامٍ، يُعْرَفُ بِابْنِ عَطَاءٍ، تَكَلَّمَ يَوْمًا عَلَى يُوسُفَ وَأَخْبَارِهِ حَتَّى ذَكَرَ تَبْرِئَتَهُ مِنْ مَكْرُوهِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ آخِرِ مَجْلِسِهِ وَهُوَ مَشْحُونٌ بِالْخَلِيقَةِ مَنْ كَانَ طَائِفَةً، فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَإِذَنْ يُوسُفُ هَمَّ وَمَا تَمَّ. فَقَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْعِنَايَةَ مِنْ ثَمَّ. فَانْظُرْ إلَى حَلَاوَةِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، وَانْظُرْ إلَى فِطْنَةِ الْعَامِّيِّ فِي سُؤَالِهِ، وَجَوَابِ الْعَالِمِ فِي اخْتِصَارِهِ، وَاسْتِيفَائِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ: إنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ إبَّانَ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ لِتَكُونَ لَهُ سَبَبًا لِلْعِصْمَةِ
{"ayah":"وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}