الْآيَةُ الثَّانِيَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ - قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 16 - 17].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، وَمِنْ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ حَكِيمٌ:
إذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ ... تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ مُشْتَبِهٌ، وَأَنَّ مِنْ الْخَلْقِ فِي الْأَكْثَرِ مَنْ يَقْدِرُ مِنْ التَّطَبُّعِ عَلَى مَا يُشْبِهُ الطَّبْعَ.
[مَسْأَلَة هَلْ الْمُسَابَقَةَ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17]
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَخَصْلَةٌ بَدِيعَةٌ، وَعَوْنٌ عَلَى الْحَرْبِ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ؛ فَرُوِيَ «أَنَّهُ سَابَقَ عَائِشَةَ فَسَبَقَهَا، فَلَمَّا كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَهَا فَسَبَقَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: هَذِهِ بِتِلْكَ».
وَرُوِيَ «أَنَّهُ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنْيَةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ الْخَيْلَ الَّتِي لَا تُضْمَرُ مِنْ الثَّنْيَةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا».
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْعَضْبَاءِ وَغَيْرِهَا، فَسَبَقَتْ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إلَّا وَضَعَهُ».
وَفِي ذَلِكَ فِي الْفَوَائِدِ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَالدَّوَابِّ، وَتَدْرِيبُ الْأَعْضَاءِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلَا مُسَابَقَةَ إلَّا بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ خَاصَّةً الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
يَجُوزُ الِاسْتِبَاقُ مِنْ غَيْرِ سَبَقٍ يُجْعَلُ، وَيَجُوزُ بِسَبَقٍ، فَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقِينَ سَبَقًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْآخَرُ إنْ سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ هُوَ أَخَذَهُ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ. وَرَوَى ابْنُ مَزِيدٍ عَنْ مَالِكٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ حَضَرَ، فَذَلِكَ أَيْضًا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْخَارِجُ إنْ سَبَقَ فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: كَرِهَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا خَيْرَ فِيهِ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَبِهِ أَقُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ يُحَرِّمُهُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُحَلَّلٌ، عَلَى أَنَّهُ إنْ سَبَقَ أَخَذَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ جَازَ، جَوَّزَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَمَنَعَهُ فِي الْآخَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَحَدٍ بِحَالِ فَرَسِ صَاحِبِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَى الْجَهَالَةِ وَلَهُمَا حُكْمُ الْقَدَرِ، وَمَسَائِلُ السِّبَاقِ فِي الْفُرُوعِ مُسْتَوْفَاةٌ.
{"ayah":"وَجَاۤءُوۤ أَبَاهُمۡ عِشَاۤءࣰ یَبۡكُونَ"}