الْآيَةُ الْخَامِسَةُ:
قَوْله تَعَالَى: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ شُعَيْبٌ كَثِيرُ الصَّلَوَاتِ مُوَاظِبًا لِلْعِبَادَةِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَيَّرُوهُ بِمَا رَأَوْهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الطَّاعَةِ.
[مَسْأَلَة كَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]:
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ وَالسَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الْأَمْوَالِ وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَارَضَاتِ، حَتَّى عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنْ يَقُولُوا إنَّهَا الْقَاضِي بَيْنَ الْأَمْوَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ أَوْ جَهْلِهَا، وَإِنَّ مَنْ حَبَسَهَا وَلَمْ يَصْرِفْهَا فَكَأَنَّهُ حَبَسَ الْقَاضِيَ وَحَجَبَهُ عَنْ النَّاسِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إذَا كَانَتْ صِحَاحًا قَامَ مَعْنَاهَا، وَظَهَرَتْ فَائِدَتُهَا، فَإِذَا كُسِرَتْ صَارَتْ سِلْعَةً، وَبَطَلَتْ الْفَائِدَةُ فِيهَا، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ؛ فَلِأَجْلِهِ حُرِّمَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفَسَّرَهُ بِهِ. وَمِثْلُهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56].
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانُوا يَكْسِرُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْمَعَاصِي تَتَدَاعَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ أَصْبَغُ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَالِدٍ بْنِ جُنَادَةَ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْعُتَقِيِّ: مَنْ كَسَرَهَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ اعْتَذَرَ بِالْجَهَالَةِ لَمْ يُعْذَرْ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعِ عُذْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، فَلِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً؛ وَالْكَبَائِرُ تُسْقِطُ الْعَدَالَةَ دُونَ الصَّغَائِرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ بِالْجَهَالَةِ فِي هَذَا فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ الْعُذْرُ إذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ فِيهِ أَوْ خَفِيَ وَجْهُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَكَانَ اللَّهُ أَعْلَمَ بِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
إذَا كَانَ هَذَا مَعْصِيَةً وَفَسَادًا يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
اُخْتُلِفَ فِي عُقُوبَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
[الْأَوَّلُ]: قَالَ مَالِكٌ: يُعَاقِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ هَكَذَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِلْعُقُوبَةِ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَنَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ: إنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ قَدْ جُلِدَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: رَجُلٌ كَانَ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذَا مِنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يُنْكِرْ جَلْدَهُ.
الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التُّجِيبِيُّ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَاعِدًا، وَهُوَ إذْ ذَاكَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، وَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَقْطَعُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَقْطَعَ يَدَك إلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَقَدْ تَقَدَّمْت فِي ذَلِكَ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا أَدَبُهُ بِالسَّوْطِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَأَمَّا حَلْقُهُ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كُنْت أَيَّامَ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَضْرِبُ وَأَحْلِقُ؛ وَإِنَّمَا كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُرَبِّي شَعْرَهُ عَوْنًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَطَرِيقًا إلَى التَّجَمُّلِ بِهِ فِي الْفُسُوقِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ طَرِيقَةٍ لِلْمَعْصِيَةِ أَنْ يَقْطَعَ إذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْبَدَنِ.
وَأَمَّا قَطْعُ يَدِهِ فَإِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ عُمَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ فَصْلِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ كَسْرِهَا، فَإِنَّ الْكَسْرَ إفْسَادُ الْوَصْفِ وَالْقَرْضَ تَنْقِيصُ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَخْذُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِفَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ، وَالْحِرْزُ أَصْلٌ فِي الْقَطْعِ. قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَأَى أَنَّ تَهْيِئَتَهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا حِرْزٌ لَهَا، وَحِرْزُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ.
وَقَدْ أَنْفَذَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْمَالِكِيَّةُ: إنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ خَوَاتِيمُ اللَّهِ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ وَلَوْ قُطِعَ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا لِلَّهِ لَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، إذْ مَنْ كَسَرَ خَاتَمَ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ اسْمُهُ أُدِّبَ، وَخَاتَمُ اللَّهِ تُقْضَى بِهِ الْحَوَائِجُ، فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْعُقُوبَةِ.
وَأَرَى الْقَطْعَ فِي قَرْضِهَا دُونَ كَسْرِهَا، وَقَدْ كُنْت أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيَّامَ تَوْلِيَتِي الْحُكْمَ، إلَّا أَنِّي كُنْت مَحْفُوفًا بِالْجُهَّالِ، لَمْ أُجِبْ بِسَبَبِ الْمَقَالِ لِلْحِسْدَةِ الضُّلَّالِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ يَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ فَلْيَفْعَلْهُ احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى.
{"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰشُعَیۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَاۤ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِنَا مَا نَشَـٰۤؤُا۟ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِیمُ ٱلرَّشِیدُ"}