الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿قُلْ أنْفِقُوا طَوْعًا أوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فاسِقِينَ ۝﴾ [التوبة: ٥٣]. عُرِفَ المُنافِقونَ بالشُّحِّ، ولكنْ قد يقَعُ منهم نَفَقةٌ، إمّا كَرْهًا، خوفًا مِن لائمةِ المؤمنينَ، أو خشيةَ الدَّوائِرِ، أو طَوْعًا، رغبةً في غنيمةٍ، أو حبًّا لجاهٍ وسُمْعةٍ، وإنّ نفَقتَهم تلك لن يَقبَلَها اللهُ منهم في الآخِرةِ، وإنْ نَفَعَتْهم في الدُّنيا، فهو نفعٌ عاجلٌ منقطِعٌ، لا آجِلٌ دائمٌ. قَبُولُ نَفَقةِ المُنافِقِ: وتدُلُّ الآيةُ بدَلالةِ الخِطابِ على جَوازِ قَبُولِ نفقةِ المُنافِقينَ، ولم يَكُنِ النبيُّ ﷺ يَمنَعُ عطيَّتَهُمْ وهديَّتَهم ونفقتَهم، وذلك لأنّهم يُؤاخَذونَ بما ظهَرَ منهم وأعلَنُوهُ، لا بما يُخْفُونَهُ أو يَكذِبونَهُ ولو قالوه، ويَظهَرُ قَبولُها منهم بقولِهِ تعالى بعدَ ذلك: ﴿ولا يُنْفِقُونَ إلاَّ وهُمْ كارِهُونَ ۝﴾ [التوبة: ٥٤]، يعني: أنّهم أنفَقوا وأُخِذَتْ منهم عن كُرْهٍ. وتُقبَلُ صَدَقةُ المنافِقِ، بشرطِ ألاَّ تكونَ يدُهُ العُلْيا فيها، فيقودَ المؤمنينَ إلى ما لا يَرْضَوْنَ مِن عداوةٍ وقتالٍ، وسَلْمٍ أو حربٍ، فإنْ كان كذلك، لم يَجُزْ، وأمّا إنْ كانتْ حالُ المؤمنينَ كحالِ النبيِّ ﷺ وخلفائِه، يَدُهُمْ هي العُلْيا الآمِرةُ، ولم تَكُنْ نَفَقةُ المُنافِقينَ تجعَلُهم يَسُودُونَ ويأمُرونَ ويَنهَوْنَ، ويُقدِّمونَ ويُؤخِّرونَ، فإنّ ذلك جائزٌ، بل قد يكونُ ذلك مستحَبًّا إن كان فيه دفعٌ لعَداوتِهم الباطنةِ، وتأليفٌ لقلوبِهم، وإشعارُهُمْ بالأمانِ على أنفُسِهم، حتّى لا يَكِيدُوا بالمؤمنينَ، فإنّ الاحتواءَ وعدمَ الاستعداءِ سياسةٌ نبويَّةٌ، لا تُناقِضُ عقيدةَ الوَلاءِ والبَراءِ. وظاهرُ قولِه تعالى: ﴿أنْفِقُوا طَوْعًا﴾ إشارةٌ إلى النَّفَقةِ عندَ رجاءِ المصلَحةِ والنفعِ وظهورِ اليدِ وعُلُوِّها على المؤمِنِينَ، فإنْ رجَوْا ذلك، أنفَقُوا بنفسٍ طيِّبةٍ، وقولُهُ: ﴿أوْ كَرْهًا﴾ إشارةٌ إلى أصلِ إنفاقِهم، وهو عندَ نفعِ المؤمنينَ بمالِهم وعلوِّ الإسلامِ به، ولا حَظَّ لهم فيه، فإنّهم لا يُنفِقونَ إلاَّ وهم كارِهونَ، لأنّ إيمانَهُمْ بثوابِ الآخِرةِ ضعيفٌ أو معدومٌ. ثوابُ الكافرِ على أعمالِهِ الحَسَنةِ في الدُّنْيا: ولا خِلافَ عندَ العلماءِ: أنّ الكافرَ لا تَنفعُهُ نفقتُهُ في الآخِرةِ، بل لا يَنتفِعُ بشيءٍ مِن عمَلِه الصالحِ في الدُّنيا، وقد بيَّن اللهُ بعدَ ذلك: أنّ سببَ عدمِ قَبُولِ نفقةِ أولئك المنافِقينَ هو كُفْرُهم الباطنُ باللهِ، كما قال تعالى: ﴿وما مَنَعَهُمْ أنْ تُقْبَلَ مِنهُمْ نَفَقاتُهُمْ إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٥٤]، وفي مسلمٍ، مِن حديثِ عائشةَ، قالتْ: يا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعانَ كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهَلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: (لا يَنْفَعُهُ، إنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[[أخرجه مسلم (٢١٤).]]. واللهُ عَدْلٌ لا يَظلِمُ الناسَ شيئًا، فإنْ كان للكافرِ حَسَنةٌ في الدُّنيا، عَجَّلَها له، فيَنتفِعُ منها في دُنْياه، حتّى إذا كان في الآخِرةِ، لم يَجِدْ مِن ذلك شيئًا، فإمّا أنْ تكونَ مُجازاتُهُ العاجِلةُ باطِنةً، فيَجِدُ لها لذَّةً ونعيمًا نفسيًّا، أو ظاهرةً، فيُنعَّمُ في الدُّنيا بالمآكِلِ والمَشارِبِ والملابسِ والذُّرِّيَّةِ والزَّوْجاتِ وغيرِ ذلك. وقد يَجتمِعُ النعيمُ الظاهرُ والباطنُ له، وقد قال تعالى: ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ [الأحقاف: ٢٠]، وفي مسلمٍ، مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطى بِها فِي الدُّنْيا، ويُجْزى بِها فِي الآْخِرَةِ، وأَمّا الكافِرُ، فَيُطْعَمُ بِحَسَناتِ ما عَمِلَ بِها للهِ فِي الدُّنْيا، حَتّى إذا أفْضى إلى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزى بِها)[[أخرجه مسلم (٢٨٠٨).]]. وقد بيَّنّا الكلامَ على هذه المسألةِ في (العقيدةِ الخُراسانيَّةِ) مفصَّلًا، فلْيُنظَرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب