الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إلاَّ خَبالًا ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ ۝﴾ [التوبة: ٤٧]. كان النبيُّ ﷺ يُعامِلُ المُنافِقِينَ بما يُظهِرونَهُ ولو كان يَعلَمُ مِن باطنِهم ـ بالوحيِ، ولَحْنِ القولِ، وببَعْضِ ما يُظهِرونَهُ ـ الكُفْرَ، وقد كان يأذَنُ لهم بالخروجِ إلى الجهادِ، كما خرَجُوا معه في أُحُدٍ وتَبُوكَ وغيرِهما. شرورُ المُنافِقِينَ في صَفِّ المؤمِنينَ: بيَّن اللهُ نِعْمَتَهُ في عدمِ خروجِ المُنافِقينَ في صفِّ المُسلِمينَ للقتالِ، وأنّهم يَضُرُّونَ أكثرَ ممّا يَنْفَعونَ، ولو كان في خروجِهم نفعٌ، فهو في تكثيرِ السوادِ، فيَراهُم العدوُّ كثيرًا، وأمّا ضرَرُهم، فقد ذكَرَ اللهُ في خروجِ المُنافِقينَ في صفِّ المؤمِنينَ شرورًا ثلاثةً: الأوَّلُ: أنّهم أصحابُ رأيٍ سَوْءٍ، لا رأيٍ سديدٍ، وذلك في قولِهِ تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إلاَّ خَبالًا﴾، والخَبالُ: هو مَرَضُ العقولِ بالهَوى، وما يخلُصُ عنه مِن رأيٍ مُفسِدٍ، فإذا تنازَعَ المؤمِنونَ في نازلةٍ وتَشاوَرُوا فيها، لم يَكُنْ رأيُ المُنافِقينَ إلاَّ في صالِحِهمْ مِن أمرِ دنياهم، لأنّ غايتَهم تحقُّقُ أطماعِهم، وسلامةُ معيشتِهِمْ، وهزيمةُ المؤمنينَ. الثاني: أنّهم أصحابُ قالاتِ سَوْءٍ بالنَّمِيمةِ والغِيبةِ، وشَقِّ الصفِّ بالفتنةِ، كالتخويفِ مِن العدوِّ والترهيبِ منه، ليَفُتُّوا في عَضُدِ المؤمنينَ وعزيمتِهم، وهذا في قولِهِ تعالى: ﴿ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾، والإيضاعُ هو الإسراعُ، ومِن ذلك لمّا دفَعَ النبيُّ ﷺ مِن مِنًى، وسَمِعَ وراءَهُ زجرًا شديدًا وضَرْبًا وصوتًا للإبلِ، فأشارَ بسَوْطِهِ إليهم، وقال: (أيُّها النّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإيضاعِ)، يَعني: الإسراعَ، رواهُ البخاريُّ[[أخرجه البخاري (١٦٧١).]]. ومنه قولُ امرِئِ القَيْسِ: أُرانا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بِالطَّعامِ وبِالشَّرابِ يعني: أنّ المُنافِقينَ أصحابُ مُبادَرةٍ للفِتْنةِ يَسْعَوْنَ إليها ويَطلُبونَها، ليَفتَعِلوها بأنفُسِهم، لا يَنفُخُونَ فيها إنْ أوْقَدَها غيرُهُمْ فحَسْبُ، لأنّهم يُسارِعونَ إلى الإيقادِ، وأمّا النَّفْخُ في الفتنةِ، فقد يقَعُ مِن مسلمٍ عن جهلٍ وحَمِيَّةٍ وفِسْقٍ، وأمّا إيقادُ الفتنِ وإشعالُها، فلا يكونُ إلاَّ مِن منافِقٍ أو عدوٍّ ظاهرٍ. وشَقُّ صفِّ المؤمِنِينَ عندَ القتالِ خاصَّةً أشَدُّ عليهم مِن ضَعْفِ السِّلاحِ، لأنّ في اجتماعِهم قُوَّةً أعظَمَ مِن قُوَّةِ السِّلاحِ، فيُهزَمُ المؤمِنونَ بإضعافِ أقْوى ما فيهم، بسببِ المنافِقينَ. الثالثُ: استخدامُهُمْ للغافِلِينَ مِن المُسلِمينَ، الذين يَنْشُرونَ قالَةَ السُّوءِ بحُسْنِ قصدٍ، فتَختَلِطُ الصفوفُ بدخولِ غيرِهم في صفِّهم، ولا يُفرِّقُ الناسُ بينَ ناقلِ السوءِ ومُختلِقِ السوءِ، وبينَ مُوقِدِ الفتنةِ والنافخِ فيها عن جهلٍ وحَمِيَّةٍ، وذلك في قولِهِ تعالى: ﴿وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾. وهؤلاءِ السَّمّاعونَ ليسوا مُنافِقينَ، وإنّما هم أحسَنُوا الظَّنَّ بقصدِ المُنافِقينَ وحَسِبُوهُمْ صادِقينَ، فنقَلُوا كلامَهُمْ، وسارُوا مَسارَهُمْ. وقد قال مجاهدٌ في هؤلاء: «مُحدِّثونَ عُيونٌ غيرُ المُنافِقينَ»[[«تفسير الطبري» (١١/٤٨٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٠٨).]]. وقال قَتادةُ: «وفيكم مَن يَسمَعُ كلامَهم ويُطيعُهم»[[«تفسير الطبري» (١١/٤٨٦).]]. وقد يكونُ في المؤمِنِينَ مَن تُغيِّبُ نفسُهُ عَلاماتِ النِّفاقِ عن المُنافِقِ، فلا يَرى إلاَّ قرابَتَهُ إنْ كان قريبًا، أو وطَنِيَّتَهُ إنْ كان بَلَدِيًّا له، أو يتأثَّرُ بما يُظهِرُهُ مِن حَمِيَّةٍ وغَيْرةٍ على المُسلِمينَ وهو يُبطِنُ غيرَها، وقد قال ابنُ إسحاقَ: «في المُسلِمِينَ قومٌ أهلُ مَحَبَّةٍ للمُنافِقينَ وطاعةٍ فيما يَدْعُونَهم إليه، لِشَرَفِهم فيهم»[[«تفسير الطبري» (١١/٤٨٦).]]. وهذه الفئةُ مِن المؤمنينَ يَصْلُحُ أمرُهم، ولا مَضَرَّةَ منهم لو غابَ المنافِقونَ عنهم، وقد امتَنَّ اللهُ على المُسلِمينَ بغِيابِ المُنافِقينَ عن صفِّهم، حتّى لا يَجِدُوا مِثْلَ هؤلاءِ، فيُؤثِّروا فيهم، فيُضِرُّوا بلُحْمةِ المؤمنينَ وجماعتِهم. وقد بيَّن اللهُ أنّ في المؤمنينَ مَن هم مُنقادونَ بلا تفكُّرٍ، فإنْ سَمِعوا المُنافِقينَ، انقادُوا لهم، وإنْ سَمِعوا المؤمنينَ، انقادُوا لهم، وليس الشَّرُّ متأصِّلًا فيهم، وهؤلاء يُرفَقُ بهم، ولا يُجعَلونَ كحالِ المُنافِقينَ، فتَحْمِلَهم الجهالةُ وحميَّةُ الشيطانِ، فيَتمسَّكوا بالشرِّ فيَصيروا حَمَلَةً له. وقولُهُ تعالى: ﴿وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾، يَعني: قابِلينَ لكَلامِهم مُنصِتينَ له، والسَّماعُ للشيءِ: القابلُ له، كما في قولِهِ تعالى: ﴿سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ [المائدة: ٤١]، يعني: قابِلينَ له، وقد جعَلَهُمُ اللهُ في المؤمِنِينَ بقَوْلِه: ﴿وفِيكُمْ﴾، فلَم يَجعَلْهم مِن المُنافِقينَ. وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرينَ مِن السَّلَفِ: أنّ أولئك عيونٌ للمنافِقينَ، يَنقُلُونَ الكلامَ إليهم، كما قالهُ مجاهِدٌ وابنُ زيدٍ والطبريُّ[[«تفسير الطبري» (١١/٤٨٦، و٤٨٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٠٩)، و«تفسير ابن كثير» (٤/١٦٠).]]، والأوَّلُ أظهَرُ وأشبَهُ. اختلاطُ المُنافِقِ بالفاسِقِ عندَ بعضِ المُسلِمينَ: ولا بدَّ أن يكونَ في صفِّ المؤمِنِينَ مَن يُحسِنُ الظنَّ بالمُنافِقينَ، لِما يُظهِرونَهُ مِن خيرٍ، ويَخْفى عليهم ما يُبطِنونَهُ مِن شرٍّ، وهذا يَغلِبُ في أهلِ الغَفْلةِ والغَرارَةِ مِن أهلِ الإيمانِ الذين لا يُحسِنونَ رَبْطَ الحوادثِ المُتباعِدةِ بعضِها ببعضٍ، وسَبْرَ الأحوالِ، ومعرفةَ لَحْنِ القولِ والغايةِ منه، مع الجهلِ بِصِفاتِهم في القرآنِ وطريقتِهم في العَداءِ للمؤمنينَ، وحَمْلِ ما يبدُرُ منهم مِن شرٍّ على أنّه خطأٌ وفِسْقٌ، لا نِفاقٌ، وهؤلاء الذين لا يُفرِّقونَ بينَ الفاسقِ والمنافقِ، كما روى البخاريُّ، عن زيدِ بنِ وهبٍ، قال: «كنّا عندَ حُذَيْفةَ، فقال: ما بَقِيَ مِن أصْحابِ هَذِهِ الآيَةِ إلاَّ ثَلاثَةٌ، ولا مِنَ المُنافِقِينَ إلاَّ أرْبَعَةٌ، فَقالَ أعْرابِيٌّ: إنَّكُمْ ـ أصْحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ ـ تُخْبِرُونا فَلا نَدْرِي، فَما بالُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنا ويَسْرِقُونَ أعْلاقَنا؟ قالَ: أُولَئِكَ الفُسّاقُ، أجَلْ، لَمْ يَبْقَ مِنهُمْ إلاَّ أرْبَعَةٌ، أحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَوْ شَرِبَ الماءَ البارِدَ، لَما وجَدَ بَرْدَهُ»[[أخرجه البخاري (٤٦٥٨).]]. وهذا الأعرابيُّ لم يُفرِّقْ بينَ المنافقِ والفاسقِ، فاستنكَرَ على حُذَيْفةَ قِلَّةَ عدَدِهم المذكورِ مع كثرةِ الفُسّاقِ مِن السُّرّاقِ وقُطّاعِ الطريقِ، فبَيَّنَ له حذيفةُ أنّ أولئك فُسّاقٌ، وفَرْقٌ بينَ المنافقِ والفاسقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب