الباحث القرآني
سورةُ بَراءةَ مدَنيَّةٌ، وهي كاشفةٌ لأحوالِ المُنافِقينَ الظّاهِرةِ والباطِنةِ، ولم يَكُنْ في مَكَّةَ قبلَ الهجرةِ نِفاقٌ، فهو إمّا كفرٌ، وإمّا إيمانٌ، وذلك لِضَعْفِ المُسلِمينَ وقوَّةِ الكُفْرِ، لأنّ النِّفاقَ إخفاءُ الإنسانِ ما لا يُظهِرُه، ودافِعُ ذلك الخوفُ، فإذا أمِنَ المُنافِقُ مِن تَبِعَةِ قولِهِ وفِعلِهِ، أظهَرَه، وكلَّما كان المُسلِمونَ أقْوى، كان النِّفاقُ أخْفى، ولذا قال حُذَيْفةُ بنُ اليَمانِ: «إنَّ المُنافِقِينَ اليَوْمَ شَرٌّ مِنهُمْ عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، كانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ، واليَوْمَ يَجْهَرُونَ»، رواهُ البُخاريُّ[[أخرجه البخاري (٧١١٣).]].
سببُ النِّفاقِ:
وسببُ النِّفاقِ: هو حبُّ الدُّنيا، ولهذا لم يَكُنْ في المهاجِرينَ مُنافِقٌ، لأنّهم خرَجُوا مِنَ الدُّنيا وترَكُوها، وكان النِّفاقُ في أهلِ المدينةِ، لأنّ الإسلامَ أتاهُم وهم على دُنياهم ولم يَخرُجُوا إليه كالمُهاجِرِين، فأَخرَجَتْ مكَّةُ أصْفى أهلِها وأَزْكاهم قلوبًا، وهم المُهاجِرون، وكان في أهلِ المدينةِ مُؤمِنون، وهم الأكثرُ، وفيهم مُنافِقون، يتَفاوَتونَ في نِفاقِهم وشَرِّهم.
نُزُولُ بَراءةَ وأسماؤُها وإحكامُها:
وسورةُ بَراءةَ مِن أواخِرِ ما نزَلَ على النَّبيِّ ﷺ، قال البَراءُ: «آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: بَراءَةُ، وآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦]»، رواهُ الشَّيْخانِ[[أخرجه البخاري (٤٦٠٥)، ومسلم (١٦١٨).]].
وقد كان نزولُها متأخِّرًا، وليس جميعُها آخِرَ ما نزَلَ، وإنّما بعضُ آياتِها، فقد كان نُزولُ أوَّلِها في فتحِ مَكَّةَ، وبعضُ آياتِ المائدةِ في حَجَّةِ الوَداعِ، وهو قولُهُ تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣].
وقد قال عُثْمانُ بنُ عفّانَ: «كانَتْ بَراءَةُ مِن آخِرِ القُرْآنِ»، رواهُ أحمدُ وأهلُ السُّنَنِ[[أخرجه أحمد (١ /٥٧)، وأبو داود (٧٨٦)، والترمذي (٣٠٨٦)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٧٩٥٣).]].
واختَصَّتْ سورةُ براءةَ بالتمييزِ بينَ الصفوفِ وعَقْدِ الوَلاءِ لأهلِ الإيمانِ، والبَراءِ مِن أهلِ الكُفْرِ والنِّفاقِ، وكشَفَتْ دَخِيلَ الأفعالِ والأقوالِ، وعلاماتِ الدُّخَلاءِ على صفِّ المُسلِمينَ، ولهذا كان ابنُ عبّاسٍ يُسمِّيها الفاضِحةَ، كما رَوى الشَّيْخانِ، عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: «قلتُ لابنِ عبّاسٍ: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قالَ: التَّوْبَةُ هِيَ الفاضِحَةُ، ما زالَتْ تَنْزِلُ: ومِنهُمْ ومِنهُمْ، حَتّى ظَنُّوا أنَّها لَنْ تُبْقِيَ أحَدًا مِنهُمْ إلاَّ ذُكِرَ فِيها»[[أخرجه البخاري (٤٨٨٢)، ومسلم (٣٠٣١).]].
وكان عمرُ بنُ الخَطّابِ وحُذَيْفةُ يُسمِّيانِها سورةَ العَذابِ، لِما فيها مِن تشديدٍ على أهلِ الزَّيْغِ، ووعيدٍ بالعَذابِ العاجِلِ والآجِلِ لهم، كما رَوى سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه، قال: «قيلَ لعُمَرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه: سورةُ التَّوْبةِ؟ فقال: أيَّة سورةُ التَّوْبةِ؟! قالوا: بَراءَةُ، قال: هي إلى أنْ تَكُونَ سورةَ العَذابِ أدنى مِن أنْ تَكُونَ سورةَ التَّوْبةِ، ما أقلَعَتْ حتّى ما كادَتْ تَترُكُ منّا أحدًا»، رواهُ المُستغفِرِيُّ[[أخرجه المستغفري في «فضائل القرآن» (٢ /٥٥٤).]].
وروى زِرٌّ أنّ حُذَيْفةَ، قال: «تَقُولُونَ: سُورَةُ التَّوْبَةِ، وهِيَ سُورَةُ العَذابِ، يَعْنِي: بَراءةَ»، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ والطَّبرانيُّ والحاكمُ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٠٢٦٩)، والطبراني في «الأوسط» (١٣٣٠)، والحاكم في «المستدرك» (٢ /٣٣٠).]].
وكان ثابتُ بنُ الحارثِ الأنصاريُّ يُسمِّيها المُبعثِرةَ[[«أحكام القرآن» لابن العربي (٢ /٤٤٤ ـ العلمية).]]، لأنّها تُبعثِرُ أخبارَ المنافِقينَ، ورُوِيَ عنِ ابنِ عُمرَ، أنّه كان يسمِّيها: المُقَشقِشَةَ[[«أحكام القرآن» لابن العربي (٢ /٤٤٤).]]، أنّها تُبرِّئُ مِن الشِّرْكِ، ويُقالُ: قَشْقَشَ البَعيرُ: إذا رَمى بِجِرَّتِه.
وهذه السُّورةُ مِن أقلِّ سُوَرِ القُرآنِ الطِّوالِ منسوخًا، لتأخُّرِ نزولِها، فجُلُّها مُحْكَمٌ، والمتأخِّرُ يَقْضي على المتقدِّمِ، وقد حكى بعضُهم أنّ أعرابيًّا سَمِعَ قارئًا يَقرَأُ هذه السُّورةَ، فقال الأعرابيُّ: إنِّي لَأَحْسَبُ هذه مِن آخِرِ ما نزَلَ مِن القُرآنِ، قيلَ له: ومِن أينَ عَلِمْتَ؟ فقال: إنِّي لَأَسْمَعُ عُهودًا تُنْبَذ، ووَصايا تُنَفَّذ[[«تفسير ابن عطية» (٣ /٣)، و«زاد المسير في علم التفسير» (٢ /٢٣٠).]].
الحِكْمةُ مِن تأخُّرِ سُوَرِ فَضْحِ المنافِقِينَ:
وقد كان القرآنُ مِن أوَّلِ البَعْثةِ بَيَّنَ حالَ الكُفْرِ والكافرينَ، وفَصَّلَ وبيَّنَ وفرَّق، وحذَّرَ وتوعَّدَ وخوَّف، ولم يكُنْ للنِّفاقِ ذِكْرٌ كذِكْرِ الكُفْرِ والشِّرْكِ، معَ وجودِهِ مِن أوَّلِ يومٍ في المدينةِ.
والسببُ في تأخُّرِ بيانِ المنافِقينَ وفَضْحِهم، وتقدُّمِ التحذيرِ مِن المشرِكينَ ودِينِهم: أمورٌ، مِنها:
أوَّلًا: أنّ النِّفاقَ بلاءٌ وعدوٌّ في داخلِ المُسلِمينَ، وقوَّةُ العدوِّ الداخليِّ بقوةِ العدوِّ الخارجيِّ، فإذا قَوِيَ الكفرُ، قويَ النِّفاقُ، فأرادَ النبيُّ ﷺ كَسْرَ شوكةِ المنافِقِينَ بكَسْرِ شَوْكةِ مَن يَستَقْوُونَ به، وهذا إضعافٌ لهم بطريقِ اللزومِ، وعادةُ المنافقينَ في كلِّ أمَّةٍ: أنّهم يُحِبُّونَ قوَّةَ كلِّ عدوٍّ للمُسلِمينَ، ولا يَنظُرونَ إلى دِينِه، فحُبُّهم ليس لِذاتِه، وإنّما لأنّه عدوٌّ لعدوِّهم، فيَستنصِرونَ به ويَعتمِدونَ عليه، وسمعُهم وبصرُهم إليه.
ثـانيًـا: أنّ النِّفاقَ باطنٌ مستتِرٌ، وأهلَهُ يتخفَّوْنَ به، وقد قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ وهو غريبٌ على أكثرِ أهلِها، ولمّا يتمكَّنوا مِن معرِفةِ دِينِه، ولَمّا يَرسَخِ الإيمانُ في قلوبِ كثيرٍ منهم، والنِّفاقُ لا يُعرَفُ حتّى يُعرَفَ الإيمانُ، فلو نزَلَتْ عليه آياتُ النِّفاقِ أوَّلَ مَقْدَمِه، لكان في ذلك مَدخَلٌ لِمَرْضى القلوبِ لتُهَمَتِه بتفريقِ صفِّهم وقد كانوا يَرجُونَ جمعًا ونصرًا وعِزَّةً.
ثـالثًـا: أنّ النِّفاقَ له قرائنُ خفيَّةٌ وقرائنُ قويَّةٌ، ولم يَكُنِ النفاقُ في أولِ مَقْدَمِهِ قد اكتمَلَتْ قرائنُ ظهورِه، وما كلُّ أحدٍ يُبصِرُ ما خَفِيَ وبطَنَ مِن صفاتِهم، فمِثْلُها لا يُدرَكُ إلاَّ بتتبُّعٍ طويلٍ للأحوالِ، فلمّا اكتمَلَتْ قرائنُه، وأطَلَّ بقرونِه، وبدَتْ علاماتُه جليَّةً، نزَل القرآنُ ببيانِ أوصافِ أهلِهِ وأفعالِهم وأقوالِهم وتعابيرِ وجوهِهم، حتّى يراهُم كلُّ أحدٍ، ولا يشُكَّ فيهم صاحبُ بصيرةٍ ونظَرٍ.
ومِن هذا يُعلَمُ أنّه لا ينبَغي للمُصلِحينَ الاشتغالُ بدقائقِ النفاقِ في بلدٍ حديثِ عهدٍ بإسلامٍ واتِّباعٍ، لأنّ مِثْلَهم لا يُدرِكُ ذلك، أو تَبدو منه أفعالُ النفاقِ بجهلٍ ويَرتفِعُ بعِلْمٍ، أو بهوًى عارضٍ لا متمكِّنٍ، فإنّ الاشتغالَ بها قد يمكِّنُها في أقوامٍ عنادًا، ولم تَكُنْ متمكِّنةً مِن قبلُ.
رابعًا: أنّ الاشتغالَ بدفعِ الشرِّ الظاهرِ أولى مِن دفعِ الشرِّ الباطنِ، مع عدمِ الغفلةِ عمّا بَطَنَ مِن الشرورِ، حتّى لا يُؤتى المُسلِمونَ على غِرَّةٍ، ودفعُ الشرِّ الظاهرِ كافٍ في إضعافِ النفاقِ بطريقِ اللزومِ.
وأمّا تركُ دفعِ الشَّرَّيْنِ جميعًا، فليس ذلك مِن السِّياسةِ، بل مِن تعطيلِ الحقِّ والتمكينِ للباطلِ.
قال تعالى: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ واعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ وأَذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ فَإنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ ألِيمٍ إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: ١ ـ ٤].
أمَرَ النبيُّ ﷺ أصحابَهُ بالجَهْرِ بهذه الآياتِ قبلَ حَجَّتِهِ بعامٍ في مَوْسِمِ الحجِّ، فَيْصَلًا بينَ المؤمِنِينَ والكافِرِينَ في كلِّ مَوْسِمٍ قابِلٍ، فكان أبو بكرٍ وعليٌّ وأبو هُرَيْرةَ وغيرُهم يَطوفُونَ على الناسِ في الحجِّ فيَتْلُونَ عليهم هذه الآياتِ، ففي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي هُرَيْرةَ، أنَّ أبا بَكْرٍ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أمَّرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَيْها قَبْلَ حَجَّةِ الوَداعِ، فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النّاسِ: ألاَّ يَحُجَّنَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ[[أخرجه البخاري (٤٦٥٧)، ومسلم (١٣٤٧).]].
وكان أبو هريرةَ يَقولُ: «فَأَذَّنَ مَعَنا عَلِيٌّ فِي أهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَراءَةَ»[[أخرجه البخاري (٤٦٥٦).]].
أحوالُ المشرِكِينَ قبلَ نُزُولِ بَراءةَ:
وقد كان المشرِكونَ مع النبيِّ ﷺ على ثلاثِ فئاتٍ:
الـفـئـةُ الأُولـى: فئةٌ مُحارِبةٌ مُفاصِلةٌ في أصلِها، ليس لها عَهْدٌ قائمٌ ولا عهدٌ منقوضٌ، وإنّما مُحارِبةٌ بنَفْسِها أو مُعِينةٌ لعدوِّ المُسلِمينَ عليهم، فهذه جعَلَ النبيُّ ﷺ عهدَها أربعةَ أشهُرٍ أجَلًا تتدبَّرُ فيه أمْرَها، فتَتَّبِعُ الحقَّ، وإلاَّ اتَّبَعَها المُسلِمونَ بالقتالِ.
والفئةُ الثانيةُ: فئةٌ ليس بينَها وبينَ النبيِّ ﷺ شيءٌ، لا عهدٌ ولا نقضٌ، ولا قتلٌ ولا سَلْمٌ، تارِكةٌ ومتروكةٌ، وإنّما جاءَها البلاغُ فأعرَضَتْ، فهؤلاءِ جعَلَ لهم الأجَلَ خَمْسِينَ يومًا، كما قال ابنُ عبّاسٍ: «حَدَّ اللهُ لِمَن ليس له عهدٌ انسِلاخَ الأشهُرِ الحُرُمِ مِن يومِ النَّحْرِ إلى انسلاخِ المُحَرَّمِ خَمْسِينَ ليلةً»، رواهُ ابنُ جَريرٍ والطَّحاويُّ[[أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ /٣٠٦)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (١٢ /٣٨٨).]].
وذلك عِشرونَ مِن ذي الحِجَّةِ، وهو يومُ البَراءَةِ، وشهرُ المُحرَّمِ كاملًا، وهو انسلاخُ الأشهُرِ الحرُمِ، وهذا لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥].
والـفـئـةُ الثـالثةُ: فئةٌ مُوادِعةٌ مُهادِنةٌ، وهم طائفتانِ:
طائفةٌ: نقَضَتْ عَهْدَها، كقُرَيْشٍ، وبَنِي بَكْرٍ.
وطائفةٌ: بَقِيَتْ على عَهْدِها وحَفِظَتْهُ مستقيمًا، ولم تَنقُضْهُ، كخُزاعةَ ومُدْلِجٍ وبني ضَمْرَةَ.
فجعَلَ اللهُ للناقِضينَ للعهدِ والميثاقِ حُكْمًا، وهو الإمهالُ أربعةَ أشهُرٍ يتَدبَّرونَ أمْرَهم ويُراجِعونَ أنفُسَهم لِيَتوبُوا، وإلاَّ فالقِتالُ لهم.
وأمّا الطائفةُ التي حَفِظَتْ عَهْدَها، فإن كان عَهْدُها يَنتهي بانتهاءِ الأشهُرِ الحُرُمِ أو دُونَه، فمُدَّتُها تمامُ الأشهُرِ الحُرُمِ، يُزادُ المدَّةُ القاصرةُ، كما قال ابنُ عبّاسٍ، وتَبقى المدَّةُ المنسلِخةُ بانسِلاخِ الأشهُرِ الحُرُمِ.
وأمّا مَن حَفِظَتْ عَهْدَها، ومُدَّتُهُ محدودةٌ، لكنَّها فوقَ الأربعةِ الأشهُرِ ويُجاوِزُ الأشهُرَ الحرُمَ، ففيه قولانِ للعلماءِ:
قيل: إنّ عهدَهُمْ يُمْضى إلى مُدَّتِهم مطلَقًا ولو كان فوقَ الأربعةِ الأشهُرِ، وذلك لعمومِ قولِه تعالى: ﴿فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾.
وقيل: يُمضى لهم ما لم يَزِدْ على الأربعةِ الأشهُرِ، فإنْ زادَ، قُصِرَ ليكونَ أربعةَ أشهُرٍ، لظاهرِ قولِ اللَّهِ تعالى: ﴿فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ واعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ ﴾، وصحَّ هذا عن ابنِ عبّاسٍ.
وفي قولِه تعالى: ﴿إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ دليلٌ على أنّ عهدَ الإمامِ عهدٌ لِرَعِيَّتِه، فقد كان المُعاهِدُ رسولَ اللهِ ﷺ، فجعَلَهُ اللهُ عهدًا للمُسلِمينَ كافَّةً.
العهدُ المُطلَقُ بينَ المُسلِمِينَ والمُشرِكِينَ:
ومَن كان له عهدٌ وأمانٌ مُطلَقٌ لم يُقيَّدْ بمُدَّةٍ، فإنّه يُحَدُّ بأربعةِ أشهُرٍ، وفي هذا دليلٌ على جوازِ مُعاهَدةِ فِئَةٍ معيَّنةٍ مِن الكفّارِ ـ لا جَمِيعِهم ـ بعهدٍ مُطلَقٍ غيرِ مقيَّدٍ، عندَ قيامِ الحاجةِ والضرورةِ إلى ذلك، وعندَ قوَّةِ المُسلِمينَ وتمكُّنِهم، فإنّهم يجبُ عليهم جعلُ العهدِ المطلَقِ مقيَّدًا إلى مدَّةٍ معلومةٍ، ولا يجوزُ لهم نقضُ العهدِ ومبادَرَةُ الكافرينَ بالقتالِ، فإنّ ذلك غَدْرٌ لا يَحِلُّ، وإذا أرادُوا نَقْضَ العهدِ المطلَقِ، فيجبُ عليهم تقييدُهُ بزمنٍ يتمكَّنُ فيه الكافرونَ مِن معرِفتِه، وتدبُّرِ أمرِهم للدخولِ في الإسلامِ أو رفضِه.
زَمَنُ النِّداءِ ببَراءةَ في المَوْسِمِ:
نزلَتْ آياتُ براءةَ على النبيِّ ﷺ، ثمَّ بعَثَ أصحابَهُ إلى الحجِّ: أبا بكرٍ وعليًّا وأبا هُرَيْرةَ وغيرَهم، وذلك قبلَ حَجَّةِ الوداعِ بعامٍ، وأَمَرَهم أنْ يُنادُوا في الناسِ بالبَراءةِ بتلاوةِ آياتِها مِن أوَّلِ السُّورةِ، على خلافٍ عندَ العلماءِ في عددِ الآياتِ المتلوَّةِ منها، فرَوى عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ، مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أنّها عَشْرُ آياتٍ[[«زوائد المسند» (١ /١٥١).]]، وروى محمدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظيُّ مرسَلًا، أنّها ثلاثونَ أو أربعونَ آيةً[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٠٩).]]، وروى ابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أنّها أربعونَ آيةً[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢١).]].
ولَمّا كان نزولُ براءةَ سابقًا للنِّداءِ بها بزَمنٍ أقَلُّهُ مَسِيرُ الصحابةِ مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ، وقَعَ خِلافٌ عندَ السلفِ في بَدْءِ المُدَّةِ التي جعَلَها اللهُ أجَلًا للمشركينَ، وهي الأربعةُ الأشهُرِ: هل كانَتْ مِن ابتداءِ نزولِها على النبيِّ ﷺ، أو كانَتْ مِن وقتِ النِّداءِ بها؟ وفي المسألةِ خلافٌ كثيرٌ، للاختلافِ في يومِ النِّداءِ بها، وفي المرادِ بالأشهُرِ الحُرُمِ، وقد اختَلَفَ السَّلفُ في مدَّةِ الإمهالِ على أقوالٍ:
فقيل: كان بَدْءُ النداءِ بها في يومِ النَّحْرِ، وتَنتهي بتَمامِ شهرِ اللهِ المحرَّمِ، وتمامُ ذلك خمسونَ ليلةً، رواهُ عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٠٦).]].
وظاهرُ قولِ ابنِ عبّاسٍ: أنّه اعتَدَّ بما قبلَ النِّداءِ مِن زمنِ الإمهالِ الفائتِ، وذلك أنّه لو تعلَّقَتْ كلُّ أمَّةٍ ببَدْءِ بلاغِها، لَما كان لذلك ضابطٌ عندَ المُسلِمينَ، لاختلافِ زَمَنِ بلوغِ العهدِ الجديدِ وتفاوُتِ المشرِكِينَ فيه، ويكونُ المنتهى مجهولًا، لاختلافِ العِلْمِ بيومِ المبتدى، فجُعِلَ المُبتدى معلومًا والمنتهى مِثلَهُ للجميعِ، ومَن فاتَهُ العِلْمُ بأوَّلِه يَكْفِيهِ ما تَبَقّى مِن آخِرِه، لأنّ الأشهُرَ الأربعةَ لم تكُنْ مقصودةً لِذاتِها وتمامِها، وإنّما المرادُ أنْ يكونَ هناك فترةُ إمهالٍ يَشترِكُ فيها الجميعُ.
وصحَّ عن ابنِ شهابٍ الزُّهْريِّ، أنّ البدءَ مِن شَوّالٍ، والمنتهى إلى تمامِ شهرِ اللهِ المحرَّمِ، واستغرَبَ ابنُ كَثِيرٍ هذا القولَ[[«تفسير ابن كثير» (٤ /١٠٣).]]، لأنّهم لا يُحاسَبونَ بمُدَّةٍ لا يَعلَمونَ بها، ولم يَبلُغْهُمْ حُكْمُها، ولو كانتِ الأيامُ معتبَرةً بتمامِها، فإنّ الذي يُجزَمُ به أنّ جميعَ العرَبِ لم يَسمَعوا البَراءةَ في يومٍ واحدٍ، فقد قَدِمَ أبو بكرٍ وعليٌّ وأبو هريرةَ المَوْسِمَ وبَدَؤُوا النداءَ، ومِن العربِ مَن لم يَصِلْهُ البلاغُ أوَّلَ يومٍ، ومِنهم مَن لم يَصِلِ المَوْسِمَ بعدُ، ولو كان العِلْمُ التامُّ بالأشهُرِ معتبَرًا، لكان لكلِّ واحدٍ منهم أجَلٌ يَبدَأُ مِن يومِ عِلْمِه.
وكأنّ المقصودَ بالآياتِ التأكيدُ على المنتهى أكثَرَ مِن العِلْمِ بالمبتَدَأِ، وذلك في قولِهِ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وهذا ما بلَغَ الجميعَ.
وقد يَجعَلُ اللهُ أجَلًا لا يتَعلَّقُ الحُكْمُ بمجرَّدِ العِلْمِ به، كأَجَلِ المتوفّى عنها زوجُها، يَبدَأُ مِن يومِ الوفاةِ، لا مِن يومِ العِلْمِ، ولكنَّ اللهَ أمَرَ بالجهرِ بالعهدِ والبَراءةِ في المَوْسِمِ، لأنّ الأمرَ أعظَمُ، وهو يتعلَّقُ بعهودٍ ومواثيقَ واستباحةِ دماءٍ، فكان لا بُدَّ مِن العِلْمِ ولو ذهَبَ مِن المُدَّةِ زمنٌ لا يُخِلُّ بأصلِ الإمهالِ والإنظارِ، وبلوغِ المأمَنِ، وتدبُّرِ الأمرِ، واللهُ أعلَمُ.
وقيل: إنّها تبتدِئُ مِن عَشْرِ ذي الحِجَّةِ، وتنتهي بعَشْرٍ مِن ربيعٍ الآخِرِ، وصحَّ هذا عن مجاهِدٍ وقتادةَ، وبه قال السُّدِّيُّ والضَّحّاكُ ومحمدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٠٨ ـ ٣١٠).]].
وهذا القولُ اعتَبَرَ الأشهُرَ الأربعةَ مِن تاريخِ البلاغِ والنداءِ بالبراءةِ.
وقيل: تبتدِئُ مِن عشرِ ذي القَعْدَةِ وتنتهي بمحرَّمٍ، وبه قال الضَّحّاكُ في روايةٍ أخرى عنه[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /١٧٥٢).]].
وقيل: هي الأشهُرُ الحرُمُ الثلاثةُ السَّرْدُ، وهي ذو القَعْدةِ وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ، ومَعَها الفَرْدُ، وهو رجَبٌ، رواهُ جعفرُ بنُ محمدٍ عن أبيه[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦ /١٧٥٢).]].
معنى الحجِّ الأكبرِ:
قال تعالى: ﴿وأَذانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ﴾.
اختُلِفَ في يومِ الحجِّ الأكبرِ في قولِه تعالى: ﴿يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ﴾:
فذهَبَ عليٌّ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٤).]]، وابنُ عمرَ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٣٣).]]، وابنُ أبي أوْفى[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٥).]]، وحُمَيْدٌ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٣١)، وأخرجه البخاري (٤٦٥٧)، ومسلم (١٣٤٧).]]: إلى أنّه يومُ النَّحْرِ، وقال مالكٌ: لا نَشُكُّ بذلك[[«أحكام القرآن» لابن العربي (٢ /٤٥٢).]].
وأصَحُّ ما ورَد في ذلك عن الصحابةِ: ما ورَدَ عن ابنِ عُمرَ، رواهُ البُخاريُّ[[أخرجه البخاري (١٧٤٢).]]، وعن عليٍّ مِن وجوهٍ فيها لِينٌ، لكنَّها تَتَعاضَدُ.
وقال قومٌ: إنّه يومُ عرَفةَ، وهو قولُ عطاءٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٢).]]، ومجاهدٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٤).]]، وطاوسٍ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٤).]]، وقال به الشافعيُّ.
وصحَّ عن أبي إسحاقَ: سَأَلْتُ أبا جُحَيْفةَ عن يومِ الحجِّ الأكبرِ؟ قال: يومُ عرَفةَ، فقلتُ: أمِن عِندِك أم مِن أصحابِ محمدٍ ﷺ؟ قال: كلُّ ذلك[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٢٢).]].
ورُوِيَ عن عمرَ وابنِ عمرَ، وفيه جَهالةٌ.
وعن ابنِ عبّاسٍ قولان.
وذهَبَ بعضُهم: إلى أنّ يومَ الحجِّ الأكبرِ هي أيامُ الحَجِّ كاملةً، وبه قال مجاهدٌ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٣٥).]]، وابنُ عُيَيْنةَ[[«تفسير الطبري» (١١ /٣٣٦).]]، وذلك أنّ العرَبَ تسمِّي الأيامَ المُشترَكةَ بحُكْمٍ وعِلَّةٍ واحدةٍ بيومِ كذا، كقَوْلِهم: يومُ الجَمَلِ، ويومُ صِفِّينَ، وهي أيّامٌ لا يومٌ.
قال تعالى: ﴿إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ﴾:
وفي الآيةِ بيانٌ لحالِ أصحابِ العهودِ المُطلَقةِ أنّه تمَّ تقييدُها بأربعةِ أشهُرٍ، على ما تقدَّمَ بيانُه.
ومَن نقَضَ عهدَهُ في أثناءِ الأشهُرِ الأربعةِ فيُقاتَلُ، وهذا في دليلِ الخطابِ مِن قولِه: ﴿إلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾، وفي صريحِ الخِطابِ مِن قولِهِ بعدَ ذلك: ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهُمْ مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٢].
وفي قولِه تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا﴾ دليلٌ على أنّ العهدَ المنقوصَ كالعهدِ المنقوضِ، فمَن نقَصَ مِن العهدِ شرطًا، فكأنّما نقَضَهُ كلَّه.
أنواعُ نقضِ العهودِ:
وفي الآيةِ دليلٌ على أنّ نقضَ العهدِ على نوعَيْنِ:
الـنَّـوعُ الأولُ: نقضٌ مباشرٌ، وهو أنْ يَتِمَّ نقضُهُ مِن العدوِّ بنفسِه في حقِّ المُسلِمينَ أنفُسِهم بلا وسيطٍ، كأنْ يُقاتِلَ المُسلِمينَ بنفسِهِ، أو يُعلِنَ إبطالَهُ أو إبطالَ شرطٍ مِن شُروطِهِ، وهذا ظاهرٌ في قولِه تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾.
النوعُ الثاني: نقضٌ بواسطةٍ، وهو غيرُ المباشِرِ، وهذا ظاهرٌ في قولِه تعالى: ﴿ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدًا﴾، وهو على صورَتَيْنِ:
الأُولـى: أن يقومَ العدوُّ بإعانةِ عدوٍّ آخَرَ للمُسلِمينَ، فيُريدُ الإضرارَ بالمُسلِمينَ بوجهِ غيرِهِ وقُوَّتِه.
الثانيةُ: أن يقومَ العدوُّ بإعانةِ عدوٍّ آخَرَ للمُسلِمينَ، ويقومَ هذا العدوُّ الآخَرُ بمُعاداةِ حليفٍ للمُسلِمينَ لا المُسلِمينَ أنفُسِهم، كما فعَلَتْ قريشٌ حينَما وقعَتْ حربٌ بينَ بني خُزاعةَ، وهم حُلَفاءُ النبيِّ ﷺ، وبينَ بني بكرٍ، وهم حُلَفاءُ قُرَيْشٍ، فقامَتْ قريشٌ بإعانةِ بني بكرٍ على خُزاعةَ، وقتَلُوا رجلًا منهم، فجاءَتْ خُزاعةُ إلى النبيِّ ﷺ، فانتصَر لهم، كما رَوى ابنُ إسحاقَ، قال: كان بينَ بني بكْرٍ وخُزاعةَ حروبٌ وقَتْلى في الجاهليَّةِ، فتَشاغَلُوا عن ذلك لَمّا ظهَرَ الإسلامُ، فلمّا كانتِ الهُدْنةُ، خرَجَ نَوْفَلُ بنُ مُعاويةَ الدِّيلِيُّ مِن بني بكرٍ في بني الدِّيلِ حتّى بَيَّتَ خُزاعةَ على ماءٍ لهم يُقالُ له: الوَتِيرُ، فأصابَ منهم رجلًا يُقالُ له: مُنَبِّهٌ، واستَيقَظَتْ لهم خُزاعةُ، فاقتَتَلُوا إلى أنْ دخَلُوا الحَرَمَ ولم يَترُكُوا القتالَ، وأَمَدَّتْ قريشٌ بني بَكْرٍ بالسِّلاحِ وقاتَلَ بعضُهُمْ معَهُمْ ليلًا في خُفْيَةٍ، فلمّا انقَضَتِ الحربُ، خرَجَ عمرُو بنُ سالمٍ الخُزاعيُّ حتّى قَدِمَ على رسولِ اللهِ ﷺ وهو جالسٌ في المسجدِ، فقال:
يا رَبِّ إنِّي ناشِدٌ مُحَمَّدا
حِلْفَ أبِينا وأَبِيهِ الأَتْلَدا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وكُنّا والِدا
ثُمَّتَ أسْلَمْنا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدا
فانْصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْرًا أيِّدا
وادْعُ عِبادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وجْهُهُ تَرَبَّدا
فِي فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدا
إنَّ قُرَيْشًا أخْلَفُوكَ المَوْعِدا
ونَقَضُوا مِيثاقَكَ المُؤَكَّدا
وجَعَلُوا لِي فِي كَداءٍ رُصَّدا
وزَعَمُوا أنْ لَسْتَ تَدْعُو أحَدا
وهُمْ أذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدا
هُمْ بَيَّتُونا بِالوَتِيرِ هُجَّدا
فَقَتَلُونا رُكَّعًا وسُجَّدا
قال ابنُ إسحاقَ: فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: (نُصِرْتَ يا عَمْرَو بْنَ سالِمٍ)، فكان ذلك ما هاجَ فَتْحَ مَكَّةَ[[«سيرة ابن هشام» (٢ /٣٩٠ ـ ٣٩٥).]].
وقد أسنَد الرِّوايةَ البيهقيُّ[[«السنن الكبرى» للبيهقي (٩ /٢٣٣)، و«دلائل النبوة» (٥ /٦).]]، وأبو نُعَيْمٍ في «معرفةِ الصحابةِ»[[«معرفة الصحابة» لأبي نعيم (٤ /٢٠١٢).]]، والبَزّارُ في «مُسنَدِه»[[«مسند البزار» (البحر الزخار) (٨٠١٣).]]، والطَّبرانيُّ[[«المعجم الكبير» (١٠٥٢)، و«المعجم الصغير» (٩٦٨).]]، وهي جيِّدةٌ، ورواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[«مصنف ابن أبي شيبة» (٣٦٩٠٠) و(٣٦٩٠٢).]]، والطحاويُّ[[«شرح معاني الآثار» (٣ /٢٩١، و٣١٥).]]، مِن وجوهٍ مُرسَلةٍ.
القُوَّةُ والظُّهورُ وأثَرُها على مَواثِيقِ الحربِ:
وفي قولِ اللَّهِ تعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الكافِرِينَ ﴾، وقولِه: ﴿فَإنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإنْ تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾: ظهورُ القُوَّةِ والوعيدِ الدالُّ على السُّلْطانِ والقوةِ التي كان عليها النبيُّ ﷺ، ولم يَضرِبِ اللهُ الأَجَلَ للنبيِّ ﷺ مع الكفارِ إلاَّ لَمّا ظهَرَتْ قوَّتُه، وكان في هذا الأَجَلِ العامِّ إظهارٌ للكافرينَ أنّه قادرٌ عليهم بعَوْنِ اللهِ ونَصْرِه.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على أنّ المُعاداةَ الكاملَةَ لأُمَمِ الكُفْرِ لا تكونُ إلاَّ في زمَنِ القُوَّةِ والظهورِ والتمكُّنِ، وقد كان النبيُّ ﷺ قبلَ ذلك يُهادِنُ قومًا، ويُقاتِلُ آخَرينَ، بحسَبِ قُدْرَتِهِ وتمكينِه، فلمّا قدَرَ على الجميعِ، قاتَلَ الجميع، ومُعاداةُ جميعِ الكُفّارِ زمَنَ الضعفِ هلَكةٌ، ولم يَفعَلْها النبيُّ ﷺ إلاَّ زمَنَ ظهورِه.
وفي هذه الآيةِ: ما يدلُّ على ما تقدَّمَ تقريرُهُ في سورةِ الأنفالِ وغيرِها، أنّه يجوزُ للإمامِ أن يكتُبَ عهدًا وميثاقًا سلميًّا عامًّا مقيَّدًا بزمَنٍ للأُمَمِ كلِّها، ولا يكونُ مطلَقًا، حتّى لا يتعطَّلَ به الجهادُ، وذلك المقدارُ بحَسَبِ ما يَراهُ المُسلِمونَ مُناسِبًا لقوَّتِهم في مُقابِلِ قوَّةِ عدوِّهم.
وفي الآياتِ: رحمةُ اللهِ ونبيِّه بالناسِ، فلم يأمُرِ النبيُّ ﷺ أصحابَهُ بقتلِ الكافرينَ فَوْرَ القُدْرةِ عليهم، وإنّما كان إمهالُهُمْ لِيَتحقَّقَ بذلك الإعذارُ وقيامُ الحُجَّةِ، وإنْ دخَلُوا الإسلامَ، فيَدخُلُونَهُ عن يقينٍ وبصيرةٍ، لا عن خوفٍ مجرَّدٍ فيُنافِقونَ ويتَربَّصونَ بالمُسلِمينَ الدوائرَ ويكيدونَ بهم، ويَرتَدُّونَ عندَ القُدْرةِ على الرِّدَّةِ، فيعظُمُ شرُّهم، وتستطيرُ فِتْنَتُهم.
وقد تقدَّمَ الكلامُ على الوفاءِ بالعهودِ وأنواعِها وشروطِها ونَقْضِها في مَواضِعَ مفرَّقةٍ، منها عندَ قولِهِ تعالى: ﴿أوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهُمْ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: ١٠٠]، وقولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨]، وقولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ إلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ﴾ [المائدة: ١]، وقولِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: ٥٦]، وقولِهِ تعالى: ﴿وإنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: ٧٢].
{"ayahs_start":1,"ayahs":["بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","فَسِیحُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرࣲ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخۡزِی ٱلۡكَـٰفِرِینَ","وَأَذَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤءࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ فَإِن تُبۡتُمۡ فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّكُمۡ غَیۡرُ مُعۡجِزِی ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ","إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَحَدࣰا فَأَتِمُّوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ"],"ayah":"إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ثُمَّ لَمۡ یَنقُصُوكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَمۡ یُظَـٰهِرُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَحَدࣰا فَأَتِمُّوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق