الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ ﴾ [التوبة: ٢٩].
في الآيةِ: قتالُ أهلِ الكتابِ، وأخذُ الجِزْيةِ منهم عندَ عَدَمِ قَبُولِهم الإسلامَ، وإذا أعطَوْها فيُمْسَكُ عنهم، وقد نزَلَتْ في غزوةِ تبوكَ، كما قاله غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ[[«تفسير الطبري» (١١/٤٠٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٧٧٨).]].
تأخُّرُ نزولِ الجِزْيةِ:
ولم يأمُرِ اللهُ نبيَّه بأخذِ الجِزْيةِ إلاَّ متأخِّرًا، وذلك بعدَ شدَّةِ التمكُّنِ وظهورِ القُوَّةِ والغَلَبةِ، وذلك شبيهٌ بأمرِ الأَسْرى، فقد كان اللَّوْمُ في أوَّلِ الأمرِ على فِدائِهم، حتّى لا يَركَنَ الناسُ إلى الدُّنيا والدَّعَةِ والتلذُّذِ بالعَبِيدِ والإماءِ والمالِ، فلِلدُّنيا طَعْمٌ إنْ بدَأَ بأخذِهِ السالِكونَ ولم يَذُوقُوا أمْرَ الشِّدَّةِ، فقد يُصيبُهم الرُّكونُ والوَهْنُ وحبُّ الدُّنيا، وهذا مِن أسبابِ تأخيرِ أخذِ الجزيةِ على المؤمِنِينَ، مع أنّ اللهَ أحَلَّ لهم قبلَ ذلك الغنائمَ والخَراجَ، لكنَّ المالَ معَ شِدَّةٍ ليس كالمالِ معَ الراحةِ، وكثرةُ المالِ ليسَتْ كقِلَّتِه.
ومِن ذلك: أنّ النبيَّ ﷺ كان مُنشغِلًا باستئصالِ المشرِكينَ بمَكَّةَ، وهم أشَدُّ كفرًا مِن أهلِ الكتابِ، وإنزالُ أهلِ الكتابِ على الجِزْيةِ ومنعُ المشرِكِينَ مِن ذلك: يُورِثُهم عِنادًا فوقَ عِنادِهم، فيَظُنُّونَ أنّه يُرِيدُ بهم استصغارًا واحتقارًا لِمِلَّتِهم، فهم يَزْعُمونَ أنّهم على دِينِ إبراهيمَ وليسوا عليه، فلمّا ارتفَعَ عامَّةُ الشِّرْكِ مِن جزيرةِ العربِ أو أكثرِها نزَلَتْ آيةُ الجِزْيةِ.
وهذه الآيةُ مخصِّصةٌ لعمومِ الآياتِ الآمِرةِ بالقتالِ بإطلاقٍ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على بعضِ أحكامِ الجِزْيةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلاَّ عَلى الظّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وأحكامِ أخذِ العُشُورِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ بِهِ وتَبْغُونَها عِوَجًا﴾ [الأعراف: ٨٦].
وإذا بذَلَ أهلُ الكتابِ الجِزْيةَ، لَزِمَ الإمساكُ عن قتالِهم، وليس أخذُ الجزيةِ والقتالُ محلَّ تخييرٍ عندَ قتالِ المُسلِمينَ لهم، ففي «الصحيحِ»، مِن حديثِ بُرَيْدةَ، قال ﷺ: (إذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعُهُمْ إلى ثَلاثِ خِصالٍ)، ثمَّ قال: (فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإنْ هُمْ أجابُوكَ، فاقْبَلْ مِنهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فَإنْ هُمْ أبَوْا، فاسْتَعِنْ بِاللهِ وقاتِلْهُمْ) [[أخرجه مسلم (١٧٣١).]]، فأمَرَ بالإمساكِ بعدَ بَذْلِ الجِزْيةِ.
وأمّا وضعُ عيسى للجزيةِ، وعَدَمُ قَبُولِهِ لها مِن أهلِ الكتابِ، كما في «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (ويَضَعَ الجِزْيَةَ) [[أخرجه البخاري (٢٢٢٢)، ومسلم (١٥٥).]]، يعني: لا يَقْبَلُها ـ: فذلك مخصوصٌ به، وينتهي التخييرُ، مع أنّ عيسى يقضي بدِينِ محمَّدٍ ﷺ، لأنّه بنزولِ عيسى يَنقطِعُ إيمانُهُمْ به، لأنّه يَدْعوهم إلى الإسلامِ والإيمانِ بمحمَّدٍ ﷺ، وبعدَ ظهورِ عيسى وأمرِهِ فإنّ مَن لم يُجِبْهُ ليس مؤمِنًا لا بمحمَّدٍ ﷺ ولا بعيسى عليه السلام، فتَعلُّقُهُمْ أنّهم مُؤمِنونَ بكتابٍ قديمٍ يَنقطِعُ بخروجِ نبيِّ بني إسرائيلَ فيهم.
خَصُوصيَّةُ أهلِ الكتابِ بالجِزْيةِ:
ولا خلافَ عندَ العلماءِ في أخذِ الجزيةِ مِن أهلِ الكتابِ، لظاهرِ الآيةِ، وإنّما الخلافُ عندَهم في غيرِ الكتابيِّينَ مِن الوثنيِّينَ والمَلاحِدةِ، على أقوالٍ:
الأوَّلُ: ذهَبَ الشافعيُّ، وأحمدُ في روايةٍ عنه: إلى أنّها خاصَّةٌ بأهلِ الكتابِ، وهي سُنَّةٌ فيهم لا تتَجاوَزُهم إلى غيرِهم إلاَّ بدليلٍ، وذلك لقولِهِ ﷺ في المجوسِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١/٢٧٨)، وعبد الرزاق في «المصنف» (١٠٠٢٥)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٧٦٥).]]، فدَلَّ ذلك على تخصيصِهم، والأصلُ: عدمُ دخولِ المَجُوسِ حتّى ألحَقَهُمْ بهم.
واختَلَفَ هؤلاءِ في العِلَّةِ التي أُلحِقَ لأَجْلِها المجوسُ بأهلِ الكتابِ، وتبعًا لذلك اختَلَفُوا في بقيَّةِ المنسوبينَ إلى كتابٍ، كالسّامِرةِ وأَتْباعِ صُحُفِ إبراهيمَ والزَّبُورِ وغيرِهم.
الـثـاني: ذهَب أبو حنيفةَ وابنُ وهبٍ: إلى أنّه يدخُلُ مع أهلِ الكتابِ جميعُ كفّارِ العجَمِ على اختلافِ عَقائدِهم، ولو كانوا وثَنيِّينَ أو زَنادِقةً ومَلاحِدةً، وأمّا مُشرِكو العرَبِ، فلا يُقبَلُ منهم إلاَّ الإسلامُ أو السَّيْفُ.
&#١٣٥،&#١٣٥، الثالثُ: ذهَبَ الأوزاعيُّ ومالكٌ وأحمدُ: إلى أنّ الجزيةَ تُقبَلُ مِن كلِّ كافرٍ، عربيٍّ أو أعجميٍّ، كتابيٍّ أو وثنيٍّ، وقد أخَذُوا بعمومِ حديثِ بُرَيْدةَ السابقِ، فلم يُخصِّصْ أصحابَ مِلَّةٍ عن الأُخرى، وإنّما جَعَلَ الأمرَ على كلِّ مَن يَلْقاهُ مِن عدوِّه.
وهذا الأظهَرُ، وتأخُّرُ نزولِ الآيةِ كان لاستئصالِ المشرِكِينَ وإخراجِهم مِن جزيرةِ العرَبِ، فمِثْلُهم لا يُقَرُّ فيها بحالٍ إلاَّ للضَّرورةِ، وإقرارُ الكتابيِّينَ أخَفُّ مِن إقرارِهم.
المَجُوسُ والصابئةُ:
والحديثُ الواردُ في مُشابَهةِ المجوسِ لليهودِ والنَّصارى إنّما هي في الجِزْيةِ خاصَّةً، ولا تَحِلُّ ذَبائحُهم ولا نكاحُ نسائِهم، وما كانتِ العربُ تَعْرِفُهُمْ بأنّهم أهلُ كتابٍ، وذلك أنّ اللهَ قال عن كفّارِ قريشٍ: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ ﴾ [الأنعام: ١٥٥ ـ ١٥٦]، يَعْنُونَ: اليهودَ والنَّصارى، كما صَحَّ عن ابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ وقتادةَ[[«تفسير الطبري» (١٠/٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥/١٤٢٥).]]، أي: يُخافُ أنْ تقولَ قريشٌ ذلك، فيَرَوْنَ أنّ كُتُبَ اليهودِ والنصارى ليسَتْ على لُغَتِهم، ولا هم مِن قَوْمِهم، فقطَعَ اللهُ بإنزالِهِ القرآنَ بلسانٍ عربيٍّ حُجَّتَهم، فقُرَيْشٌ كانوا يَنتَقِدُونَ أهلَ الكتابِ بعدَمِ عَمَلِهِمْ بالكتابِ، وأنّ قريشًا لو نزَلَ عليهم كتابٌ بلِسانِهم، لآمَنُوا به، ولو بَيَّنَ لهم أخطاءَهم، لَترَكُوها وكانوا خيرًا منهم بالاتِّباعِ، وذلك في قولِهِ: ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ وهُدىً ورَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: ١٥٧]، فذكَرَ اللهُ للطائفتَيْنِ دليلًا على أنّه ليس حولَ العربِ أهلُ كتابٍ غيرُهم، مع أنّ المجوسَ مَعرُوفُونَ، ولم يكونوا عندَهم أهلَ كتابٍ، فلو كانوا كذلك، لكانَتِ الطوائفُ ثلاثًا.
وكذلك: فإنّ اللهَ تعالى لمّا ذكَرَ الذين يَنْجُونَ يومَ القيامةِ مِن أهلِ المِلَلِ الذين ماتوا على استقامةِ دِينِهم، لم يذكُرِ المجوسَ مع أهلِ الكتابِ، فقال في سورةِ البقرةِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئِينَ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: ٦٢]، ومِثلُها في سورةِ المائدةِ، إلاَّ أنّه قدَّمَ الصابِئِينَ على النصارى: ﴿والصّابِئُونَ والنَّصارى﴾ [المائدة: ٦٩]، ثمَّ قال: ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [المائدة: ٦٩]، وذكَر أنّ هؤلاء قد يصدُرُ منهم عملٌ صالحٌ قبلَ العِلْمِ بالإسلامِ، وليس المجوسُ منهم، ولكنَّ اللهَ لمّا ذكَرَ الفصلَ يومَ القيامةِ بينَ الأُممِ ولم يذكُرِ النَّجاةَ وعدَمَ الخوفِ، ذكَرَ المجوسَ معهم، كما في الحَجِّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [الحج: ١٧].
وفي أحسَنِ أحوالِ المجوسِ: فهذا يدُلُّ على أنّ الصابِئِينَ أحسَنُ منهم، وأقرَبُ للكتابِ المنزَّلِ مِن المجوسِ، والصابئةُ اليومَ موجودونَ في العِراقِ ويَعتقِدونَ بنُبُوَّةِ آدمَ وشِيثَ وسامِ بنِ نوحٍ وإبراهيمَ ويحيى، والنَّصارى يُسَمُّونَهم يُوحَنّاسِيَّةً، (نسبةً إلى يوحنّا، وهو يحيى)، وهم طوائفُ وفِرَقٌ، وبعضُهُمْ بدَّل فأشرَكَ، وبعضُهُمْ لم يُبدِّلْ وبَقِيَ على توحيدِه، وقد قال وهبُ بنُ مُنبِّهٍ ـ وهو مِن أهلِ العِلمِ بالمِلَلِ السابقةِ وأخبارِهم ـ لمّا سُئِلَ عن الصابئةِ: «الذي يَعرِفُ اللهَ وحدَهُ، وليسَتْ له شريعةٌ يَعمَلُ بها، ولم يُحْدِثْ كُفْرًا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/١٢٨).]].
وذكَرَ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ: أنّهم أهلُ كتابٍ، كالسُّدِّيِّ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/١٢٧).]]، وبه قال إسحاقُ وابنُ المُنذِرِ[[«تفسير القرطبي» (٢/١٦١).]]، وكثيرٌ مِنهم يَعتقِدونَ بإلهٍ واحدٍ، لا آلهةٍ، وذكَرَ ابنُ زيدٍ أنّهم يقولونَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ[[«تفسير الطبري» (٢/٣٦).]].
وكلُّ فِرْقةٍ منهم لها حُكْمُها، فمَن لم يُبدِّلْ، أُلحِقَ بأهلِ الكتابِ، ومَن بدَّل، أُلحِقَ بالوثَنيِّينَ المشرِكينَ.
ومَن تأمَّلَ المنقولَ عن كتبِ الصابئةِ، كـ(الكنزاربا) و(أدراشا أديهيا)، ونَظَرَ في عقائدِ المجوسِ وأقوالِهم، وجَدَ أنّ الصابِئِينَ أقرَبُ منهم، ولكنَّهم ليسوا في جزيرةِ العربِ حتّى يُعرَفَ أمرُهُمْ ويَشتهِرَ ذِكرُهُمْ عندَ قريشٍ وأمثالِها، وهم اليومَ عددٌ قليلٌ في العراقِ وبعضِ الشامِ، وإلحاقُ هذا النوعِ مِن الصابئينَ بأحكامِ الجزيةِ عندَ مَن يقولُ بحَصْرِها في أهلِ الكتابِ أولى مِن المَجُوسِ، فضلًا عن المَلاحِدةِ والمُشرِكينَ.
وسببُ خلافِ العلماءِ في عمومِ الجِزْيةِ وخصوصِها في الكفّارِ هو تأخُّرُ نُزولِها، وذِكْرُ اللهِ لأهلِ الكتابِ في الآيةِ في قولِه: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ ﴾، وقد نزَلَتِ الآيةُ بعدَ ذَهابِ شَوْكةِ المشرِكينَ في جزيرةِ العرَبِ وأطرافِها، وأهلُ الكتابِ حينَها أهلُ شَوْكةٍ وقُوَّةٍ، فجاءَ النصُّ عليهم، واللهُ أعلَمُ.
قولُه تعالى: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ ﴾ الصَّغارُ هو الذِّلَّةُ، فلا يُعطُونَ المالَ بمِنَّةٍ كالهديَّةِ والهِبَةِ، فتكونَ لهم اليدُ العُليا، فهذا ليس مِن مقاصدِ الجِزْيةِ، وإنّما تكونُ الجِزْيةُ معَ قوةٍ، وظهورِ أمرٍ، وقدرةٍ على قتالٍ.
وقد أخَذَ عمرُ الجِزْيةَ مِن بعضِ نصارى العرَبِ، كتَغْلِبَ، لمّا كَرِهُوا مُشابهتَهُمْ بالعَجَمِ، فقالوا: نحن عربٌ ولا نُؤدِّي ما تُؤدِّيهِ العجَمُ، ولكن خُذْ منّا باسْمِ الصَّدَقةِ كما تأخُذُ مِن العرَبِ، كما رَوى أبو عُبَيْدٍ، عن هُشَيْمٍ، حدَّثَنا مُغِيرةُ، عن السَّفّاحِ بنِ المثنّى الشيبانيِّ، عن زُرْعَةَ بنِ النعْمانِ ـ أو: النُّعْمانِ بنِ زُرْعَةَ ـ: «أنّه سأَلَ عمرَ بنَ الخطّابِ وكلَّمَهُ في نَصارى بني تَغلِبَ، وكان عمرُ قد هَمَّ أنْ يَأخُذَ مِنهم الجِزْيةَ، فتَفرَّقوا في البلادِ، فقال النُّعْمانُ بنُ زُرْعةَ لعُمرَ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنّ بني تَغلِبَ قومٌ عربٌ يَأنَفُونَ مِن الجِزْيةِ، وليسَتْ لهم أموالٌ، إنّما هم أصحابُ حُرُوثٍ ومَواشٍ، ولهم نِكايةٌ في العدوِّ، فلا تُعِنْ عَدُوَّكَ عليك بهم، قال: فصالَحَهُمْ عمرُ رضي الله عنه على أن تضعَّفَ عليهم الصَّدَقةُ، واشترَطَ عليهم ألاَّ يُنَصِّرُوا أولادَهم» رواهُ أبو عُبيدٍ[[أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (٧١).]].
ولهذا ضاعَفَ عليهم عمرُ الجِزْيةَ، كما روى الحَكَمُ بنُ عُتَيْبةَ، قال: «سمعتُ إبراهيمَ النَّخَعيَّ يُحدِّثُ عن زيادِ بنِ حُدَيْرٍ ـ وكان زيادٌ يومَئذٍ حيًّا ـ أنّ عمرَ رضي الله عنه بعثَهُ مُصَدِّقًا، فأمَرَهُ أنْ يأخُذَ مِن نصارى بَني تَغلِبَ العُشْرَ، ومِن نصارى العربِ نِصْفَ العُشْرِ» رواهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (١٠١٢٥).]].
وإنّما ترَكَ عمرُ أخْذَها باسْمِ الجِزْيةِ، حتّى لا تَعظُمَ الفتنةُ بهم، بلَحاقِهم بعدوِّه، وانتفاعًا بمالِهم وقُوَّتِهِمْ عندَ الحاجةِ إليهم، وفي هذا أنّ تحقُّقَ المعاني أعظَمُ مِن تحقُّقِ المصطَلَحاتِ، وقد أخَذَ النبيُّ ﷺ مِن اليهودِ خَراجَ أرْضِهم وصالَحَهُمْ على ذلك، ولم يَكُنْ ذلك جِزْيةً، وللمُسلِمينَ أنْ يَفعَلوا ذلك مِن بَعْدِه، فأمرُ الصَّغارِ في الجِزْيةِ مَنُوطٌ بالقُدْرةِ على الصحيحِ، كما أنّ أصلَ القتالِ مَنوطٌ بها كذلك، فالجِزْيةُ مِن بابِ أولى، والصغارُ أولى مِن ذلك كلِّه.
مِقْدارُ الجِزْيةِ، وممَّن تُؤخَذُ، والحِكْمةُ مِن أخْذِها:
وتُؤخَذُ الجِزْيةُ مِن البالِغينَ مِن الرِّجالِ دونَ النساءِ، ولا تُؤخَذُ ممَّن لا يُقاتِلُ، كالصَّبِيِّ والمرأةِ والمجنونِ والشيخِ الفاني، وقد حكى الاتِّفاقَ على هذا غيرُ واحدٍ، كابنِ المُنذِرِ وابنِ قُدامةَ[[«المغني» (١٣/٢١٦).]]، وقد كان عمرُ يَنهى عن أخذِها منهم، وفي وصيَّةِ أبي بكرٍ ليَزِيدَ بنِ أبي سُفْيانَ: «إنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أنَّهُمْ حَبَسُوا أنْفُسَهُمْ لِلهِ، فَذَرْهُمْ وما زَعَمُوا أنَّهُمْ حَبَسُوا أنْفُسَهُمْ لَهُ» رواهُ البيهقيُّ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/٤٤٨)، وعبد الرزاق في «المصنف» (٩٣٧٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩/٨٩).]].
ولا تقديرَ في القِيمَةِ المأخوذةِ على الأصحِّ، لأنّ النبيَّ ﷺ وأصحابَهُ اختَلَفَ أخذُهم، فلم يَكُنْ ذلك مقدَّرًا كنِصابِ الزَّكاةِ مَشى عليه جميعُهم، فدَلَّ على أنّ ذلك بحَسَبِ المصلحةِ والقُدْرةِ.
وأمّا بعثُ رسولِ اللهِ ﷺ مُعاذًا إلى اليمَنِ وأمرُهُ أنْ يأخُذَ الجِزْيةَ، مِن كُلِّ حالِمٍ دِينارًا، أوْ عِدْلَهُ مَعافِرَ[[أخرجه أحمد (٥/٢٣٠)، والترمذي (٦٢٣)، والنسائي (٢٤٥٠).]] ـ: فذلك كان منه في قضيَّةِ عَيْنٍ، فقد أخَذ بعدَ ذلك ولم يقدِّرْ مِثلَ ذلك حينَما أخَذَ مِن أهلِ البَحْرَيْنِ ونَجْرانَ، فقد صالَحَ أهلَ نَجْرانَ على ألْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ في صفَرٍ، والباقي في رجبٍ[[أخرجه أبو داود (٣٠٤١).]].
وأخَذَ أصحابُهُ كعُمَرَ خلافَ تقديرِهِ في أهلِ اليمنِ، فقد جعَلَ الجِزْيةَ على ثلاثِ أحوالٍ: على الغنيِّ ثمانيةً وأربعينَ دِرْهَمًا، وعلى المتوسِّطِ أربعةً وعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وعلى الفقيرِ اثنَيْ عشَرَ دِرْهَمًا[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٧٢٢) و(٣٢٦٤٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩/١٩٦).]]، وقد أخَذ على تَغلِبَ ضِعفَيْ ما على المُسلِمينَ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٩/٢١٦).]].
وهكذا فَهِمَ غيرُ واحدٍ مِن فقهاءِ السَّلَفِ، أنّ الأمرَ على اليَسارِ والمُصالَحةِ بحسَبِ اختلافِ البُلْدانِ، ففي البخاريِّ، عن ابنِ عُيَيْنةَ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، قال: قلتُ لمجاهِدٍ: ما شأنُ أهلِ الشّامِ عليهم أربعةُ دنانيرَ، وأهلُ اليمنِ عليهم دينارٌ؟ قال: جُعِلَ ذلك مِن قِبَلِ اليَسارِ[[«صحيح البخاري» (٤/٩٦).]].
وذهَبَ إلى أنّ قيمةَ الجِزْيةِ غيرُ مقدَّرةٍ كالزَّكاةِ، وأنّهم بحسَبِ ما يتَصالَحُونَ عليه معَ عدوِّهم ـ جماعةٌ مِن الأئمةِ، كعطاءِ بنِ أبي رَباحٍ وأبي عُبَيْدٍ، وهو آخِرُ أقوالِ أحمدَ، كما حكاهُ الخَلاَّلُ، ورجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ وغيرُهُ.
الحِكْمةُ مِن الجِزْيةِ:
وللجِزْيةِ حِكَمٌ متعدِّدةٌ في تشريعِها وأَخْذِها مِن الكفّارِ:
مـنـهـا: إغناءُ اللهِ للمؤمِنِينَ مِن فَضْلِه، لِيَقْوَوْا بأنفُسِهم على عدوِّهم.
ومنها: الصَّغارُ على الكافرينَ، ومنها: إبقاءُ الكفارِ ليُخالِطوا المُسلِمينَ ويرَوْهم، فبَدَلًا مِن قَتْلِهم يُترَكونَ ليُشاهِدوا المُسلِمينَ، ويَألَفوا الإسلامَ، ولو قُتِلوا لاستحَقُّوا النارَ.
ومـنـهـا: علوُّ يدِ المؤمنينَ في الأرضِ.
وقد اختُلِفَ في مُقابِلِ الجزاءِ المقصودِ مِن الجِزْيةِ، فالجزيةُ في أصلِها مشتقَّةٌ مِن الجزاءِ، كأنّها جَزاءٌ لشيءٍ أو أشياءَ منهم، ولمّا كان عمرُ لم يأخُذْها باسْمِ الجِزْيةِ، وإنّما باسمِ الصَّدَقةِ، دلَّ على أنّ ثَمَّةَ جزاءً فوقَ الصَّغارِ للجِزْيةِ، ولمّا كان أصلُ أخذِ المالِ على أيِّ حالٍ معَ تَرْكِ القتلِ يتَضمَّنُ علوَّ يدٍ للمُسلِمينَ وظهورًا على الكافرينَ، كان الأصلُ في أخْذِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وتَرْكَهُمْ بعدَ القُدْرةِ عليهم، كما هو قولُ مالكٍ، وكذلك فقد جعَلَ الشافعيُّ سبَبَ أخذِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وسُكْناهم دارَ المُسلِمينَ، وجَرَيانَ حُكْمِ المُسلِمينَ عليهم، قال الشافعيَّةُ: «وأشَدُّ الصَّغارِ على المرءِ: أنْ يُحكَمَ عليه بما لا يَعتقِدُهُ، ويُضطَرَّ إلى احتمالِه»[[«روضة الطالبين» (١٠/٣١٦).]].
ومَن كان قادرًا عليهم، عرَضَ الجِزْيةَ عليهم مُقابِلَ تَرْكِهم في دارِه، مع القدرةِ عليهم، بحِمايَتِهم لو نزَلَ بهم عدوٌّ أنْ يَدفَعَ عنهم المُسلِمونَ ولا يَترُكوهم.
ولا يجوزُ للمُسلِمينَ مُصالَحَةُ عدوِّهم بلا جِزْيةٍ ولا خَراجٍ وهم قادِرونَ عليهم بالإجماعِ، إلاَّ في حالِ الحاجةِ والضرورةِ، كما فعَلَ النبيُّ ﷺ في الحُدَيْبِيَةِ، وإذا كَثُرَ الأعداءُ على المُسلِمينَ، وتكالَبَتْ عليهم الأممُ وهم في حالِ ضَعْفٍ وتفرُّقٍ، فلهم المصالَحةُ والمهادَنةُ بلا خَراجٍ ولا جِزْيةٍ، ولكنَّه خِلافُ الأصلِ، فيَعمَلُ المُسلِمونَ على عدَمِ دَوامِه، ولا إطالةِ أمَدِه.
{"ayah":"قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق