الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ وفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ ۝﴾ [التوبة: ١٧]. لمّا منَعَ اللهُ المشرِكينَ مِن دخولِ المسجدِ الحرامِ، لم يَصِحَّ منهم عِمارتُهُ سواءٌ بعبادةٍ أو بتشييدٍ، لأنّهم ليسوا مِن أهلِه، فقد منَعَهُمُ اللهُ مِن دخولِ الحرَمِ، فضلًا عن العبادةِ فيه بحجٍّ وعُمْرةٍ واعتكافٍ وسِقايةِ حاجٍّ. وقد فُسِّرَتِ العِمارةُ للمسجدِ الحرامِ بمعنَيَيْنِ: المعنى الأوَّلُ: عِمارتُهُ بالعبادةِ، مِن صلاةٍ وطوافٍ واعتكافٍ وصَدَقةٍ وغيرِ ذلك. المعنى الـثـانـي: عمارتُهُ بتشييدِهِ بالبناءِ والفَرْشِ والتنظيفِ والتطييبِ وغيرِ ذلك، وهذه عبادةٌ. ولكنَّ المعنى الأولَ أخَصُّ مِن جهةِ كونِهِ عبادةً محضَةً، فإنّ العمارةَ بالصَّلاةِ والطوافِ لا تُسمّى عبادةً إلاَّ إنْ كانتْ مِن موحِّدٍ، وأمّا تشييدُهُ وبناؤُه، فقد يصِحُّ أن يقومَ به كافرٌ ويُسمّى مسجِدًا، كما لو استُؤجِرَ على ذلك، ولكنَّ اللهَ لمّا منَعَ مِن دخولِ المشرِكينَ للمسجدِ الحرامِ، لم يصِحَّ منهم عِمارتُهُ بالمعنَيَيْنِ جميعًا. عِمارةُ الكافرِ للمساجِدِ بِنَفْسِهِ أو بمالِه: الأصلُ: أنّ المساجدَ لا يعمُرُها بالبناءِ والعبادةِ إلاَّ المؤمنونَ، لظاهرِ الآيةِ: ﴿إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ١٨]، وهذا ما جَرى عليه النبيُّ ﷺ وخلفاؤُهُ مِن بعدِه، فلمّا قَدِمَ النبيُّ المدينةَ، لم يَشْرَكْهُ في بناءِ مسجدِهِ مُشرِكٌ ولا يهوديٌّ، مع كونِهم في المدينةِ كثيرًا أوَّلَ الهجرةِ. وإذا وجَدَ المُسلِمونَ قُدْرةً بدنيَّةً ومالًا لبناءِ مَساجدِهم، كُرِهَ لهم الاستعانةُ بيَدِ كافرٍ ومالِهِ في بنائِها، حتّى لا يكونَ للكافرِ عليهم وعلى مَساجدِهم يدٌ ومِنَّةٌ، ولا تكونَ لهم يدٌ عُليا على الإسلامِ. وإذا عجَزَ المُسلِمونَ عن القيامِ بمَسْجِدِهم بأنفُسِهم وبمالِهم، فلهم الاستعانةُ بكافرٍ أو بمالِه على بِنائِه، وهذا يكونُ كثيرًا في البُلْدانِ التي يَحْكُمُها نَصارى أو مُشْرِكونَ، ويكونُ المُسلِمونَ فيها قِلَّةً، فتقومُ تلك الدُّوَلُ بإعطاءِ مِنَحٍ وأراضٍ تُقامُ عليها المساجِدُ، أُسوةً بمَعابِدِ أهلِ الأديانِ، فإن عَجَزوا عنِ القيامِ بذلك بأنفُسِهم، جاز لهم قَبُولُ ذلك، وقد فتَحَ النبيُّ ﷺ مكَّةَ وقد كانتِ الكعبةُ قد هُدِمَتْ مرّاتٍ في الجاهليَّةِ وبَناها المشرِكونَ، فلم يَنقُضْ ما فعَلُوهُ ولم يَذكُرْهُ بكَراهةٍ، لأنّه كان في زمَنٍ لا سُلْطانَ فيه للإسلامِ، ولا تقومُ بيوتُ اللهِ إلاَّ بذلك. وقد نصَّ على جوازِ عِمارةِ المساجدِ بمالِ الكافرِ جماعةٌ، كابنِ مُفلِحٍ مِن الحنابلةِ[[«الفروع» (١٠ /٣٤٤)، و«الآداب الشرعية» (٣ /٤٠٥).]]، وقد قَبِلَ النبيُّ ﷺ هَدايا مِن الكفارِ، وقَبُولُها دليلٌ على حِلِّها وحِلِّ التصرُّفِ بها، فما جازَ للنبيِّ ﷺ أنْ يَطعَمَهُ ويُدخِلَهُ في جَوْفِهِ لحِلِّه، جازَتْ عِمارةُ المساجدِ به مِن بابِ أولى، وذلك أنّ مِثْلَ هذه العطيَّةِ والهديَّةِ لا سُلْطانَ للكافرِ بها على المؤمنينَ، بل هي مِن تأليفِ قلبِهِ ودفعِ شرِّه، وكفايةٌ للمؤمنينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب