الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ ۝فَإمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَن خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۝وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخائِنِينَ ۝﴾ [الأنفال: ٥٦ ـ ٥٨]. معاهدةُ مَن نَقَضَ عهدًا سابقًا: في هذه الآيةِ: دليلٌ على جوازِ مُعاهَدةِ ناكِثِ العهدِ السابقِ وناقِضِه إنْ كان في مُعاهَدَتِهِ مرَّةً أُخرى صلاحٌ للمُسلِمينَ، ولو بكَسْبِ أمانٍ ليومٍ أو لشهرٍ أو عامٍ، بصَدِّ عادِيَتِهِ ومَكْرِه، كما عاهَدَ النبيُّ ﷺ اليهودَ مع عِلْمِهِ بنقضِهِمْ للعهودِ، فقد كانوا عاهَدُوهُ أوَّلَ مرَّةٍ، ثمَّ أعانُوا قُريشًا بسلاحٍ، ثمَّ اعتذَرُوا، ثمَّ عاهَدَهم فخانُوهُ في الخَنْدَقِ. والأصلُ الحَذَرُ مِن إمضاءِ العهدِ لناقِضِ العهدِ، حتى لا يكونَ في ذلك استغفالٌ بالمُسلِمينَ وشماتةٌ مِن أعداءِ الدِّينِ بهم، وقد عاهَدَ أبو عَزَّةَ الجُمَحِيُّ رسولَ اللهِ ﷺ يومَ بَدْرٍ وترَكَهُ لِبَناتِهِ بلا فِدْيةٍ، وأخَذَ عليه ألاَّ يُقاتِلَه، فأَخْفَرَهُ وقاتَلَهُ يومَ أُحُدٍ، فدَعا رسولُ اللهِ ﷺ ألاَّ يُفلِتَ، فما أُسِرَ مِن المشركينَ رجلٌ غيرُهُ، فقال: يا محمَّدُ، امْنُنْ عَلَيَّ ودَعْنِي لِبَناتِي وأُعْطِيكَ عَهْدًا ألاَّ أعُودَ لِقِتالِكَ، فقال النبيُّ ﷺ: (لا تَمْسَحُ عَلى عارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ: قَدْ خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ)، فأمَرَ به فضُرِبَتْ عُنُقُه[[«سيرة ابن هشام» (٢ /١٠٤)، و«السنن الكبرى» للبيهقي (٩ /٦٥).]]. ويُستثنى مِن ذلك الزمَنُ الذي تتعدَّدُ فيه الأعداءُ، وتكثُرُ الثغورُ، ولا قِبَلَ للمُسلِمينَ بكلِّ أحدٍ، كما كانتِ اليهودُ وقريشٌ وسائرُ المشرِكِينَ يُحارِبونَ النبيَّ ﷺ. وإذا عاهَدَ المُسلِمونَ المشرِكينَ الذين عُرِفُوا بنقضِ العهدِ، فهل للمُسلِمينَ أنْ ينقُضُوا عهدَهم معهم متى شاؤوا؟ وجوابُ ذلك: أنّ المُعاهَدينَ المعروفينَ بالنَّكْثِ على نوعَيْنِ: الـنـوعُ الأوَّلُ: قومٌ لم يَظهَرْ منهم ما يُبدِي تربُّصَهُمْ ومَكْرَهُمْ ونَقْضَهُمْ للعهدِ، فلم يجهِّزوا في السِّرِّ ويَمْكُروا في الباطنِ على المؤمنِين، فهؤلاءِ يُمضى لهم عهدُهُمْ إلى مُدَّتِهم، ولا يجوزُ نقضُ عهدِهْم لمجرَّدِ سابقةِ نقضٍ لهم، لأنّ الأصلَ بقاءُ العهودِ وعدمُ نقضِها ووجوبُ الوفاءِ بها، على ما تقدَّمَ في صدرِ سورةِ المائدةِ. النوعُ الثاني: قومٌ أظهَرُوا ما يُبدِي خِيانةً، أو جاءَتِ الأعيُنُ للمُسلِمينَ تُخبِرُهم بأنّهم يُعِدُّونَ العُدَّةَ ويَتربَّصونَ الدوائرَ بالمؤمنِين، فهؤلاء يجوزُ أنْ يُنبَذَ إليهم عهدُهم، ولا يجوزُ تَبْيِيتُهم على غِرَّةٍ والعهدُ قائمٌ، بل يُنبَذُ عهدُهم ويُبَلَّغُونَ بتعطيلِ العهدِ، وهذا ظاهرٌ في قولِه: ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخائِنِينَ ۝﴾، وللمُسلِمينَ أنْ يُقاتِلُوهم أو يُبَيِّتُوهُم بعدَ ذلك إنْ شاؤوا ليلًا أو نهارًا، ولو لم يَعلَموا، ما دام نُبِذَ إليهم عهدُهم بعِلْمِهم، فلا حُرْمةَ لهم، ولا إثمَ في أخذِهِمْ على حِينِ غَفْلةٍ وغِرَّةٍ. وفي قولِه: ﴿فَإمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَن خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۝﴾ مشروعيَّةُ ترجيحِ العقوبةِ الأشَدِّ عندَ التردُّدِ بينَ عقوبتَيْنِ يَستحِقُّهما جانٍ أو عدوٌّ، لأجلِ تشريدِ الأَبْعَدِينَ وتأديبِهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب