الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ولَوْ أراكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ولَتَنازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ولَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ۝وإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ التَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ويُقَلِّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أمْرًا كانَ مَفْعُولًا وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۝﴾ [الأنفال: ٤٣ ـ ٤٤]. أرى اللهُ نبيَّهُ ﷺ الكفّارَ في مَنامِهِ قليلًا، فصارَ النبيُّ ﷺ مع أصحابِهِ مُحتقِرًا لقُوَّتِهم وعَدَدِهم، وكان ذلك سببًا لقوةِ عزائمِ المؤمنينَ وقلوبِهم، وثَباتِ أقدامِهم، فإنّ القلوبَ إنْ ثبَتَتْ، ثبَتَ تَبَعًا لها البَدَنُ. وفي هذه الآيةِ: وجوبُ ثباتِ أميرِ الجندِ، فبِثَباتِهِ يثبُتُ أتباعُه، ومِن خوفِهِ يَخافُونَ، لأنّه يَعلَمُ مِن العدوِّ ما لا يَعلَمونَ، ويَعلَمُ مِن قوَّتِهم ما لا يَعلَمُونَ، فالجنديُّ يعلَمُ قوَّةَ نفسِه، لكنَّه لا يعلَمُ قوةَ جميعِ الجيشِ، ولهذا ثَبَّتَ اللهُ نبيَّهُ بتقليلِ عددِ المشرِكينَ في عينَيْهِ ليَظهَرَ على وجهِه البِشْرُ والثَّباتُ والفرحُ، فلا تَغلِبَهُ الشَّفَقَةُ على نفوسِ المؤمِنِينَ أنْ يُستأصَلُوا ويُبادُوا، أو يُغلَبُوا ويُؤسَرُوا، قال تعالى في ذلك: ﴿ولَوْ أراكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ولَتَنازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ولَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾، قال مجاهدٌ: «لَفَشِلْتَ أنْتَ، فَرَأى أصْحابُكَ فِي وجْهِكَ الفَشَلَ، فَفَشِلُوا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٠٩).]]. تحقيرُ العدوِّ في أعْيُنِ الجُنْدِ: وفي هذا: مشروعيَّةُ تحقيرِ قُوَّةِ المشرِكينَ في أعيُنِ الجُنْدِ، تثبيتًا لعزائمِهم وقلوبِهم وأقدامِهم، فإنّ الخوفَ والهَلَعَ عندَ التقاءِ الصفوفِ شديدٌ، وإذا كان المشرِكونَ أكثَرَ عَدَدًا وعُدَدًا، هُزِمَتِ النفوسُ ثُمَّ غُلِبَتْ، ونصرُ اللهِ لنبيِّه كان بقُوَّةِ القلوبِ أكثَرَ مِن قوةِ الأبدانِ، وهكذا أصحابُهُ مِن بعدِه. وتحقيرُ العدوِّ وعَدَدِه وعَتادِهِ على نوعَيْنِ: الأوَّلُ: تحقيرُ العدوِّ لأجلِ التغريرِ بالجندِ، كمَن يحقِّرُ العدوَّ ويضعِّفُ قوَّتَهُ المُهلِكةَ في نفوسِ المؤمنينَ، ليَثبُتَ المؤمنونَ على ما لا قِبَلَ لهم أنْ يَثبُتُوا عليه لقِلَّةِ عَدَدِهم وعتادِهم، فيغرِّرُ بهم فيَهلِكونَ ويُؤسَرونَ. فهذا لا يجوزُ، وهو مِن الكذبِ المُحرَّمِ، لأنّ المَفسدةَ فيه ظاهرةٌ، ونَصْرَ العدوِّ فيه متحقِّقٌ، فتحقيرُهُمْ كان لحَظِّ المشرِكِينَ، وهو تحقيرٌ في صورةِ استدراجٍ، ليتمكَّنَ العدوُّ مِن المؤمنِينَ، فذلك لا يجوزُ ولو حَسُنَ قصدُ أميرِ الجندِ وقائدِهم. ومَن رأى قوةَ الكافرينَ، وتيقَّنَ أنّ فيهم قُوَّةً وعُدَّةً وعَدَدًا مِثْلُهم لا يُنتصَرُ عليه ولو ثبَتَتِ الأقدامُ وقَوِيَتِ العزائمُ، فيجبُ عليه إخبارُ الجندِ بحقيقةِ ذلك، ولهم أنْ يَثبُتوا، ولو قُتِلوا فهم شُهَداءُ، ولهم أنْ يَنحازُوا أو يَتحرَّفُوا إلى فئةٍ مِن المؤمنِينَ. الثاني: تحقيرٌ لأجلِ الثَّباتِ، واحتمالِ الغلَبةِ للمؤمنِينَ، فيُشرَعُ تحقيرُ عَدَدِ العدوِّ وعُدَّتِه، لِتَقْوى عزائمُ المؤمنينَ، ويُربَطَ على قلوبِهم، وتثبُتَ أقدامُهم، فإنّ ذلك يعوِّضُ ما يَفُوقُهم عدوُّهم به مِن العَدَدِ والعُدَّةِ، فالثابتُ الواحدُ قد يَغلِبُ عشَرةً، وقد يَغلِبُ الثابتُ بعَصاهُ عدوَّهُ ولو كان معه سَيْفٌ، فإنّه إذا ضَعُفَ قلبُ الإنسانِ، لم يُحسِنْ تدبيرَ ما بيدَيْهِ، كما في القُدْسِ اليومَ: يقتُلُ المسلمُ اليهوديَّ بحجرٍ وسلاحُ اليهوديِّ بيدَيْهِ. وفي قولِه تعالى: ﴿ولَتَنازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ولَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ۝﴾ دليلٌ على أنّ بعضَ الخلافِ الذي يقعُ بينَ المُسلِمينَ في الثغورِ هو بسببِ الدُّنيا وحُبِّ السلامةِ فيها، وهذا وهُمْ في ثُغورٍ، فاللهُ بيَّنَ أنّه سلَّمَ المؤمنينَ مِن النِّزاعِ والخلافِ بسببِ دَبِّ الخوفِ فيما بينَهم مِن أنْ يُغلَبوا، ولأجلِ ذلك تختلِفُ آراؤُهم ويَنسحِبُ قومٌ ويَضطربُ آخَرونَ، ولو ثبَتَتْ عزائمُهم وقلوبُهم واحتقَرُوا عدوَّهم مع احتمالِ نصرِهم، لانتصَرُوا بنصرِ اللهِ لهم. وفي قولِه تعالى: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ۝﴾، ذكَرَ الصدورَ ولم يذكُرِ اللهُ الأمورَ الظاهرةَ الماديَّةَ مِن عَدَدٍ وعُدَّةٍ، لأنّ النصرَ بسلامةِ الصدرِ، وإنْ لم تصلُحِ القلوبُ والنفوسُ، لم تَنتفِعْ بقوَّتِها مهما بلَغَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب