الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: ٢٠٤].
نزَلتْ هذه الآيةُ في الصلاةِ، أُمِرُوا بالإنصاتِ فيها، تعظيمًا لها ولو لم يكنْ هناك قراءةٌ مسموعةٌ، وإذا كانتِ الصلاةُ جهريَّةً، فالإنصاتُ آكَدُ، ولذا قدَّمَ اللهُ الاستماعَ على الإنصاتِ، لأنّه هو المقصودُ منه، فقد يُنصِتُ مَن يَسمَعُ ولا يَستمِعُ.
وحكى أحمدُ الإجماعَ في أنّ نُزُولَها في الصلاةِ، وحكاهُ مِثلَهُ الجصّاصُ وغيرُه.
المقصودُ من الإنصاتِ في الصلاةِ:
وقد اختُلِفَ في المقصودِ مِن الإنصاتِ في الصلاةِ: هل هو منعٌ لكلامِ الناسِ أو هو شاملٌ حتى للقراءةِ؟ وقد جاءَ أنّ هذه الآيةَ نزَلتْ في الصلاةِ بعدَما كانتِ الرُّخْصةُ لهم أنّهم يتكلَّمونَ فيها، وقد ثبَتَ ذلك كما رواهُ ابنُ مسعودٍ، قال: «كنّا يُسَلِّمُ بعضُنا على بعضٍ في الصلاةِ، فجاءَ القرآنُ: ﴿وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾»[[«تفسير الطبري» (١٠ /٦٥٨).]].
وجاء عن بعضِ السلفِ، صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ المسيَّبِ ومجاهدٍ والنخَعيِّ وغيرِهم، أنّها نزَلَتْ في الصلاةِ للإنصاتِ خَلْفَ الإمامِ في الصلاةِ الجهريَّةِ، فلا يُقرَأُ القرآنُ وبهذا جزَمَ أحمدُ، وهذا ظاهرٌ دخولُهُ في الآيةِ، لأنّ اللَّهَ قال: ﴿وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا﴾، وليس كلُّ الصلواتِ جهريَّةً يجبُ الإنصاتُ فيها لأجلِ الاستماعِ، فأكثَرُ الرَّكَعاتِ سِرِّيَّةٌ، ففي الفرائضِ سِتُّ ركعاتٍ جهريَّةٍ، وهنَّ: الفجرُ وركعتا المغربِ والعِشاءِ الأُوليانِ، عدا يومِ الجمعةِ فتزيدُ فتكونُ ثمانيَ ركعاتٍ، وأمّا السِّرِّيَّةُ فإحدى عَشْرةَ ركعةً، إلاَّ الجمعةَ ففيها سبعُ ركعاتٍ سِرِّيَّةٍ.
ومِن السلفِ: مَن عمَّمَ الحُكْمَ لكلِّ قراءةٍ، في صلاةٍ وغيرِها، وفي كلِّ ذِكْرٍ، كخُطْبةِ الجمعةِ والعيدَيْنِ وغيرِهما، وهذا ليس مِن الخلافِ في سببِ نزولِ الآيةِ، وإنّما في تعميمِ حُكْمِها.
الإنصاتُ عند سماعِ القرآنِ خارج الصلاةِ:
ومَن سمِع قرآنًا في غيرِ الصلاةِ، فلا يخلو مِن حالَيْنِ:
الأُولى: أنْ يكونَ مقصودًا بالقراءةِ، كمَن يُقرَأُ القرآنُ في مجلسٍ هو فيه ويُجهَرُ بالقراءةِ للناسِ، فإنصاتُهُ مشروعٌ، ولَغْوُهُ فيه محرَّمٌ، ولا حرَجَ عليه في الكلمةِ والكلمتَيْنِ لمَن حولَهُ التي لا تُذهِبُ هَيْبةَ القرآنِ وتعظيمَهُ.
الثـانيةُ: ألاَّ يكونَ مقصودًا بالقراءةِ، كمَن يَسمَعُ رجلًا يَقرَأُ لنفسِهِ، أو يَسمعُ مُقرِئًا يُقرِئُ غيرَهُ، أو حَلْقةَ علمٍ ليس هو فيها، أو إمامًا يُصلِّي بالناسِ في مسجدٍ ليس هو منهم، فلا يدخُلُ في مشروعيَّةِ الإنصاتِ المقصودِ في الآيةِ.
والوجوبُ إنّما هو في الصلاةِ لا خارجَها، وقد صحَّ عن طَلْحةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ كَرِيزٍ، قال: «رَأَيْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، وعَطاءَ بْنَ أبِي رَباحٍ، يَتَحَدَّثانِ والقاصُّ يَقُصُّ، فَقُلْتُ: ألا تَسْتَمِعانِ إلى الذِّكْرِ وتَسْتَوْجِبانِ المَوْعُودَ؟ قالَ: فَنَظَرا إلَيَّ، ثُمَّ أقْبَلا عَلى حَدِيثِهِما، قالَ: فَأَعَدتُّ، فَنَظَرا إلَيَّ، ثُمَّ أقْبَلا عَلى حَدِيثِهِما، قالَ: فَأَعَدتُّ الثّالِثَةَ، قالَ: فَنَظَرا إلَيَّ، فَقالا: إنَّما ذَلِكَ فِي الصَّلاةِ: ﴿وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا﴾»[[«تفسير الطبري» (١٠ /٦٥٩).]].
وقال بجوازِ الكلامِ خارجَ الصلاةِ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، والشَّعْبيُّ، وقتادةُ، والنخَعيُّ، وغيرُهم.
ولا يختلِفُ العلماءُ في أنّ هذه الآيةَ نزَلَتْ في الإنصاتِ في الصلاةِ، كما حكى الإجماعَ أحمدُ والجصّاصُ، وإنّما الخلافُ في فروعِ مسألةِ القراءةِ خلفَ الإمامِ، وقد حكى أحمدُ إجماعَ مَن سبَقَ على أنّ مَن ترَكَ القراءةَ خلفَ الإمامِ في الصلاةِ الجهريَّةِ أنّ صلاتَه لا تَبطُلُ، فقال: «ما سَمِعْنا أحدًا مِن أهلِ الإسلامِ يقولُ: إنّ الإمامَ إذا جهَرَ بالقراءةِ لا تُجزِئُ صلاةَ مَن خلفَه إذا لم يَقرَأْ»[[«المغني» لابن قدامة (٢ /٢٦٢).]].
القراءةُ خلفَ الإمامِ في الجهريَّة:
وقد اختلَفَ العلماءُ في القراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ على أقوالٍ، أشهرُها أقوالٌ ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: أنّه لا يُقرَأُ خلفَ الإمامِ في الجَهْرِيَّةِ، وهو قولُ جماهيرِ العلماءِ وعامَّةِ السلفِ، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ، ومنهم الشافعيُّ في القديمِ.
ومِن العلماءِ مَن قال: إنّها لا تجبُ حتى في السِّرِّيَّةِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وروايةٌ عن أحمدَ، لظاهرِ قولِهِ ﷺ: (مَن كانَ لَهُ إمامٌ، فَقِراءَتُهُ لَهُ قِراءَةٌ)، رواهُ أحمدُ وابنُ ماجه، عن جابرٍ[[أخرجه أحمد (٣ /٣٣٩)، وابن ماجه (٨٥٠).]]، ورواهُ مالكٌ في «الموطَّأِ»، عن وهبِ بنِ كَيْسانَ، عن جابرٍ، مِن قولِه[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١ /٨٤).]]، وهو أرجَحُ، وله طرقٌ مرفوعةٌ لا يصحُّ منها شيءٌ.
القولُ الثاني: أنّ القراءةَ تجبُ خلفَ الإمامِ في الجَهْرِيَّةِ، وفي السرِّيَّةِ مِن بابِ أوْلى، وهو قولُ الشافعيِّ في الجديدِ، وهو مذهبُ الشافعيَّةِ، فيُوجِبُ الشافعيُّ القراءةَ في سَكَتاتِ الإمامِ، لِيَجمَعَ بينَ الامتثالِ للآيةِ، وهو الإنصاتُ، وبينَ الإتيانِ بالرُّكْنِ، وهو القراءةُ.
ونقَل البُوَيْطِيُّ أنّه يقرَأُ فيما أسَرَّ الإمامُ بأمِّ القرآنِ وسورةٍ في الأُولَيَيْنِ، وأُمِّ القرآنِ في الأُخريَيْنِ، وفيما جهَرَ فيه الإمامُ لا يَقرَأُ مَن خَلْفَهُ إلاَّ بأمِّ القرآنِ.
وكان الشافعيُّ في القديمِ يُوجِبُ القراءةَ في الصلاةِ السِّرِّيَّةِ دونَ الجهريَّةِ، ثمَّ أوجَبَها في الجميعِ في قولِه الجديدِ.
وللبخاريِّ جزءٌ في القراءةِ خلفَ الإمامِ، أوجَبَ فيه القراءةَ حتى في الجهريَّةِ، ووافَقَهُ جماعةٌ مِن أهلِ الحديثِ والفقهِ.
القولُ الثالثُ: أنّ القراءةَ مستحبَّةٌ لا تجبُ، وهو قولُ الأوزاعيِّ واللَّيْثِ.
وأصحُّ الأقوالِ وأرجَحُها: أنّ القراءةَ لا تجبُ ولا تُشرَعُ أيضًا في الجهريَّةِ، لِما ثبَتَ في مسلمٍ، في الإتمامِ بالإمامِ، عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (فَإذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإذا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا)، وذكَرَ بقيَّةَ الحديثِ، وهو في «السُّننِ»، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ، أنّه قال: (وإذا قَرَأَ، فَأَنْصِتُوا) [[أخرجه أحمد (٢ /٣٧٦)، وأبو داود (٦٠٤)، والنسائي (٩٢١)، وابن ماجه (٨٤٦).]]، وقد صحَّحَهُ مسلمٌ[[«صحيح مسلم» (٤٠٤) (٦٣).]]، وحديثُ أبي هريرةَ في «الصحيحَيْنِ»، وليس فيه هذه اللَّفْظةُ[[أخرجه البخاري (٧٢٢)، ومسلم (٤١٤).]]، ولذا أعلَّها بعضُهم.
لأنّ اللهَ لم يأمُرِ الإمامَ بالجهرِ بالقراءةِ، إلاَّ لأجلِ المأمومِ، ولم يُفرِّقْ بينَ السرِّيَّةِ والجهريَّةِ إلاَّ لذلك، ولا يَصِحُّ مِن جهةِ النظرِ ولا الشرعِ أنْ يُؤمَرَ أحدٌ بالجهرِ ومَن خَلْفَهُ بقراءةٍ مخالِفةٍ له في أنفُسِهِمْ، ثمَّ يُؤمَرونَ بالخشوعِ جميعًا، والقولُ بوجوبِ القراءةِ في الجهريَّةِ لازمٌ لعدمِ اعتبارِ الخشوعِ في الصلاةِ بالنسبةِ للمأمومِ، فلا يحضُرُ قلبُ مَن يَتكلَّمُ في نفسِهِ ويَسمعُ مَن يَجْهَرُ بخلافِه.
القراءةُ خلفَ الإمامِ عند الصحابةِ:
وقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم لا يَقْرَؤُونَ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ، وجَرى على ذلك عملُ عامَّتِهم.
صحَّ ذلك عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وابنِ عبّاسٍ وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ وأبي هريرةَ وأبي الدَّرداءِ وغيرِهم.
فقد روى أبو وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قولَهُ: «أنْصِتْ لِلْقُرْآنِ، فَإنَّ فِي الصَّلاةِ شُغْلًا، وسَيَكْفِيكَ ذاكَ الإمامُ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٨٠٣)، والطبراني في «الكبير» (٩٣١١)، والبيهقي في «الكبرى» (٢ /١٦٠).]].
ورَوى نافعٌ، عن ابنِ عمرَ، أنّه قال: «يَكْفِيكَ قِراءَةُ الإمامِ»[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (١ /٤٠٢).]]، وكان ابنُ عمرَ لا يَقْرَأُ خَلْفَ الإمامِ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١/٨٦).]].
وتابَعَه بمعناهُ سالمٌ[[أخرجه البيهقي في «القراءة خلف الإمام» (٣٣٠).]].
وصحَّ عن زيدٍ، كما رواهُ مسلمٌ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، أنّه سألَ زيدَ بنَ ثابتٍ عن القراءةِ مع الإمامِ؟ فقال: «لا قِراءَةَ مَعَ الإمامِ فِي شَيْءٍ»[[أخرجه مسلم (٥٧٧).]].
وصحَّ عن وهبِ بنِ كَيسانَ، قال: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يقولُ: «مَن صَلّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيها بِأُمِّ القُرْآنِ، فَلَمْ يُصَلِّ، إلاَّ أنْ يَكُونَ وراءَ الإمامِ»، رواهُ مالكٌ والتِّرْمِذيُّ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (١ /٨٤)، والترمذي (٣١٣).]].
وجاء ذلك عن ابنِ مسعودٍ وأصحابِهِ، وأعلَمُ أصحابِ ابنِ مسعودٍ أبو وائلٍ شقيقُ بنُ سَلَمةَ ـ كما قاله أبو عبيدةَ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ ـ يُفتِي بعدمِ القراءةِ خلفَ الإمامِ.
القراءةُ خلفَ الإمامِ عند التابعين:
وقد كان كبارُ الفقهاءِ مِن التابعينَ في المدينةِ ومَكَّةَ والكُوفةِ لا يقولونَ بالقراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ، وهم أدْرى الناسِ بمِثْلِ هذه السُّنَنِ، وهي مِن العِلْمِ المشهودِ المُتتابِعِ كلَّ يومٍ، وتغيُّرُ الحالِ واختلافُها يَظهَرُ فيهم أكثَرَ مِن غيرِهم، لأنّ صلاتَهُمْ بمسجدِ النبيِّ ﷺ، وأئمَّتُهُمْ هم مَن شَهِدُوا النبيَّ ﷺ وكبارَ أصحابِه، بخلافِ بقيَّةِ البُلْدانِ الذين لم تَعمُرْ أكثرُ مساجدِهم إلاَّ بعدَ وفاةِ النبيِّ ووفاةِ خُلَفائِه، وقد كان ابنُ المسيَّبِ يُفتِي بالقراءةِ خلفَ الإمامِ في السِّرِّيَّةِ، كما صحَّ عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنّه قال: «يَقْرَأُ الإمامُ ومَن خَلْفَهُ فِي الظُّهْرِ والعَصْرِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٦٥).]].
وبه قال عُرْوةُ وغيرُهُ.
ولم يَثبُتْ عن أحدٍ مِن الخلفاءِ وفقهاءِ الصحابةِ القولُ بالقراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ، ويكونَ قولُهُ صريحًا بذلك، بل الثابتُ عن عمرَ وعليٍّ عَدَمُها، وأمّا ما جاءَ عن عمرَ بنِ الخطّابِ في القراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ، فقد رواهُ هُشيمٌ، قال: أخبَرَنا الشيبانيُّ، عن جَوّابِ بنِ عُبيدِ اللهِ التَّيْمِيِّ، قال: حدَّثَنا يزيدُ بنُ شَرِيكٍ التيميُّ أبو إبراهيمَ، قال: سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ عَنِ القِراءَةِ خَلْفَ الإمامِ؟ فَقالَ لِي: اقْرَأْ، قالَ: قُلْتُ: وإنْ كُنْتُ خَلْفَكَ؟ قالَ: وإنْ كُنْتَ خَلْفِي، قُلْتُ: وإنْ قَرَأْتَ؟ قالَ: وإنْ قَرَأْتُ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٤٨).]].
فهذا إسنادٌ عراقيٌّ بتمامِهِ تُفُرِّدَ به عن عمرَ بنِ الخطّابِ، وهو غريبٌ، وجَوّابُ بنُ عُبيدِ اللهِ ضعَّفَهُ ابنُ نُمَيْرٍ، وابنُ نُمَيْرٍ بصيرٌ بالكوفيِّينَ، وقد رأى سفيانُ الثوريُّ جَوّابًا التَّيْمِيَّ وترَكَ الحديثَ عنه، ومِثْلُ هذا الإسنادِ العراقيِّ لا يُحمَلُ في الرِّوايةِ عن مدنيٍّ كبيرٍ، فضلًا عن مِثْلِ عمرَ بنِ الخطّابِ، ثمَّ لا يُعرَفُ عندَ أصحابِه المدنيِّينَ ولا يُفتُونَ به.
وقد ثبَتَ عن نافعٍ وأنسِ بنِ سيرينَ عن عمرَ قولُهُ: «تَكْفِيكَ قِراءَةُ الإمامِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٨٤).]]. وإن لم يصحَّ سماعُ نافعٍ وأنسٍ مِن عمرَ، إلاَّ أنّ حديثَ نافعٍ منقطعًا أصَحُّ مِن تفرُّدِ جوّابِ بنِ عبيدِ اللهِ والكوفيِّينَ موصولًا عن عمرَ، وروايةُ نافعٍ عن عمرَ ممّا يَحتجُّ به بعضُ الأئمَّةِ.
وأصحابُ عمرَ والعارِفونَ بفِقْهِهِ يُخالِفونَ بفُتْياهُمْ ما تفرَّدَ به الكوفيُّونَ عن عمرَ، كابْنِهِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ وابنِ المسيَّبِ، ولو صحَّ عندَ الكوفيِّينَ، لَأَحْدَثَ في كبارِهم عَمَلًا، وكبارُهُمْ يُفتُونَ بخلافِ ذلك، صحَّ عدمُ القراءةِ عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ وأبي وائلٍ شقيقِ بنِ سَلَمةَ، وهما كوفيّانِ مُخضرَمانِ، وفقهُ أهلِ البلدِ يُعِلُّ الحديثَ الذي يَرْوُونَهُ ويُخالِفونَهُ، كما بيَّنّاهُ في «كتابِ العِلَلِ».
والقولُ بعدمِ القراءةِ خَلْفَ الإمامِ في الجهريَّةِ هو قولُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، فقد صحَّ عنه قولُهُ: «يَقْرَأُ الإمامُ ومَن خَلْفَهُ فِي الظُّهْرِ والعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ وسُورَةٍ، وفِي الأُخْرَيَيْنِ بِفاتِحَةِ الكِتابِ»، رواهُ عنه كاتبُهُ عبيدُ اللهِ بنُ أبي رافعٍ، عندَ ابنِ أبي شَيْبَةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٢٦).]].
وتخصيصُهُ للقراءةِ في الظهرِ والعصرِ دليلٌ على أنّ الجَهْريَّةَ على خلافِها، فيَقرَأُ الإمامُ ولا يَقرَأُ مَن خَلْفَهُ.
وظاهِرُ قولِ أحمدَ: أنّ السلفَ عامَّةً على هذا، وقد أنكرَ على مَن قال له: «قراءة الفاتحة خلف الإمام مخصوصٌ من قوله: ﴿وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ﴾، قال أحمد: عمّن يقولُ هذا؟! أجمَعَ الناسُ أنّ هذه الآية في الصلاةِ»[[«مسائل أبي داود» (٤٨).]].
وكان إبراهيمُ الحربيُّ يقولُ عن أحمد: إمّا ألفَ مرَّة إنْ لم أقُلْ، فقد سمعتُهُ يقرأُ فيما خافَتَ، ويُنصِتُ فيما جَهَرَ[[«طبقات الحنابلة» (١ /٩٢).]].
القراءةُ خَلْفَ الإمامِ في السريَّة:
وهناك مَن يَستدلُّ على القراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ ببعضِ المُجمَلاتِ مِن الأحاديثِ والآثارِ في القراءةِ خلفَ الإمامِ، ويَغْفُلُونَ عن أنّ القراءةَ خلفَ الإمامِ منها سِرِّيَّةٌ ومنها جَهْريَّةٌ، وأنّ القولَ بعدمِ القراءةِ خلفَ الإمامِ في السِّرِّيَّةِ قولٌ قديمٌ، والخلافُ فيه معروفٌ عندَ السلفِ، وليس الخلافُ فيه مقصورًا على الجهريَّةِ، والخلافُ في السرِّيَّةِ على قولَيْنِ عندَ السلفِ والفقهاءِ:
الأوَّلُ: أنّه لا يُقرَأُ فيها، وقد صحَّ عن بعضِ الصحابةِ عدمُ القراءةِ خلفَ الإمامِ في سِرِّيَّةٍ ولا جَهْريَّةٍ، كزيدِ بنِ ثابتٍ، فقد روى عنه ابنُ ثَوْبانَ قولَهُ: «لا يُقْرَأُ خَلْفَ الإمامِ إنْ جَهَرَ، ولا إنْ خافَتَ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٨٧).]]، ومِن التابعينَ سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ.
وهذا قولُ أبي حنيفةَ.
القولُ الثاني: أنّه يُقرَأُ في السِّرِّيَّةِ، وقد صحَّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ذلك كما تقدَّمَ، وثبَتَ هذا عن ابنِ عمرَ، فقد روى سالمٌ عنه، أنّه خصَّصَ الإنصاتَ بما يَجهَرُ به الإمامُ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٨١١).]].
ومِن ذلك الإجمالِ الذي يَستدِلُّ به بعضُهُمْ على أنّ الصحابةَ كانوا يَقْرَؤُونَ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ: ما يَرويهِ ابنُ أبي شَيْبةَ، عن حُصَيْنٍ، قال: «صَلَّيْتُ إلى جَنْبِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ خَلْفَ الإمامِ، قالَ: فَلَقِيتُ مُجاهِدًا، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ مُجاهِدٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقْرَأُ خَلْفَ الإمامِ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٥٠).]].
وليس في هذا ذِكْرٌ للجهرِ والإسرارِ، والصحيحُ: أنّها صلاةٌ سرِّيَّةٌ، كما رواهُ مجاهدٌ عنه مِن وجهٍ آخَرَ أنّها صلاةُ الظهرِ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٢ /١٦٩).]].
ومِن ذلك: ما في مسلمٍ، عن أبي هريرةَ، أنّه قال في القراءةِ خلفَ الإمامِ: «اقْرَأْ بِها فِي نَفْسِكَ»[[أخرجه مسلم (٣٩٥).]]، وهذا عامٌّ يَستدِلُّ به البعضُ على الجهريَّةِ، وفيه نظرٌ، فقد ثبَتَ عن أبي هريرةَ قولُه: «اقْرَأْ خَلْفَ الإمامِ فِيما يُخافِتُ بِهِ»، رواهُ ابنُ المُنذِرِ[[أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (٣ /٢٥٦).]]، وليس هذا مِن اختلافِ القولِ لأبي هريرةَ، كما يحكي بعضُ الأئمَّةِ عن أبي هريرةَ في المسألةِ قولَيْنِ.
ورُوِيَ مِثلُ هذا الإجمالِ عن عمرَ وعليِّ بنِ أبي طالبٍ وابنِ عبّاسٍ وابنِ عمرَ وعُبادةَ وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وأبي سعيدٍ وعائشةَ، ومنها ما هو معلولٌ، ومنها ما ليس بصريحٍ في الصلاةِ الجهريَّةِ، وإنّما في القراءةِ خلفَ الإمامِ.
سكوتُ الإمامِ ليتمكَّن المأمومُ مِن القراءة:
وجاءَ عن بعضِ السلفِ كابنِ جُبَيْرٍ: أنّ الإمامَ يسكُتُ لِيَقْرَأَ المأمومُ في الجهريَّةِ، وهذا لا يُحفَظُ عن أحدٍ مِن الصحابةِ، روى البخاريُّ في «جُزءِ القراءةِ»، عن عبدِ اللهِ بنِ عثمانَ بنِ خُثَيْمٍ، قال: «قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أقْرَأُ خَلْفَ الإمامِ؟ قالَ: نَعَمْ، وإنْ سَمِعْتَ قِراءَتَهُ، إنَّهُمْ قَدْ أحْدَثُوا ما لَمْ يَكُونُوا يَصْنَعُونَهُ، إنَّ السَّلَفَ كانَ إذا أمَّ أحَدُهُمُ النّاسَ، كَبَّرَ ثُمَّ أنْصَتَ، حَتّى يَظُنَّ أنَّ مَن خَلْفَهُ قَدْ قَرَأَ فاتِحَةَ الكِتابِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وأَنْصِتُوا﴾»[[أخرجه البخاري في «القراءة خلف الإمام» (١٦٤).]].
وصحَّ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ قولُهُ: «لَيْسَ خَلْفَ الإمامِ قِراءَةٌ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٩٢).]].
ولا أعلَمُ أحدًا مِن الصحابةِ أوجَبَ على الإمامِ السكوتَ ليتمكَّنَ المأمومُ مِن القراءةِ، ولا أنْ يَتحيَّنَ المأمومُ سَكَتاتِ الإمامِ ليَقْرَأَ، وهذا الأمرُ لو كان في عَمَلِهم، لَنُقِلَ ولَظهَرَتْ شكوى الناسِ فيه، فقد كانوا يَشْتَكُونَ مِن طولِ صلاةِ بعضِ أئمَّتِهم ونوعِ ما يَقْرَؤُونَ، ولم يَثبُتْ أنّهم تكلَّموا بهذا، ولا اشتكى الصحابةُ ولا التابعونَ للصحابةِ مِن عدمِ قراءتِهم في سَكَتاتِ أئمَّتِهم أو عدمِ سكوتِ أئمَّتِهم، مع كثرةِ المتعلِّمينَ والمصلِّينَ، ومِثلُ هذا الحُكْمِ في تتبُّعِ المأمومِ لِسَكَتاتِ الإمامِ عملٌ دقيقٌ لا يَعلَمُهُ كلُّ أحدٍ، ويجبُ ألاَّ يُترَكَ بيانُه.
وما جاء في بعضِ الآثارِ والأحاديثِ مِن القراءةِ خلفَ الإمامِ إذا أنصَتَ، والسكوتِ إذا قرَأَ، يَحمِلُهُ بعضُهم على القراءةِ حالَ سَكَتاتِ الإمامِ، والمقصودُ منه التفريقُ بينَ الصلاةِ الجَهْريَّةِ والسرِّيَّةِ، وركَعاتِ الجهرِ والسرِّ مِن العِشاءِ والمَغْربِ.
وقد جاءَ سكوتُ الإمامِ عن بعضِ التابعينَ، كسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ ومكحولٍ وأبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ وعُرْوةَ وعطاءٍ.
وبقراءةِ المأمومِ الفاتحةَ في سكَتاتِ الإمامِ قال الشافعيُّ كما نقَلَهُ عنه البُوَيْطِيُّ.
فأمّا كلامُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، فتقدَّمَ، وابنُ خُثَيْمٍ متكلَّمٌ فيه مع صدقِه، ولم يُحدِّثْ عنه يحيى وعبدُ الرحمنِ، ومَن هم أوثَقُ مِن ابنِ خُثَيْمٍ يَرْوُونَ عن سعيدٍ عدمَ القراءةِ خلفَ الإمامِ، كما رواهُ هُشَيْمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ: سَأَلْتُهُ عَنِ القِراءَةِ خَلْفَ الإمامِ، قالَ: «لَيْسَ خَلْفَ الإمامِ قِراءَةٌ»، رواهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٩٢).]].
وهُشَيْمٌ بصيرٌ بالموقوفاتِ، وهذا السَّنَدُ على شرطِ الشيخَيْنِ.
ثمَّ إنّ قولَ سعيدٍ السابقَ لم يَنسُبْهُ لأحدٍ مِن السلفِ، وربَّما قصَدَ كبارَ التابعينَ، فسعيدٌ ليس مِن طبقةِ التابعينَ المتقدِّمةِ.
وأمّا كلامُ مكحولٍ، فرواهُ أبو داودَ إثرَ حديثِ عُبادةَ، قال مكحولٌ: «اقْرَأْ بِها ـ يعني الفاتحةَ ـ فِيما جَهَرَ بِهِ الإمامُ إذا قَرَأَ بِفاتِحَةِ الكِتابِ وسَكَتَ سِرًّا، فَإنْ لَمْ يَسْكُتِ اقْرَأْ بِها قَبْلَهُ ومَعَهُ وبَعْدَهُ، لا تَتْرُكْها عَلى كُلِّ حالٍ»[[أخرجه أبو داود (٨٢٥).]].
ومكحولٌ يؤكِّدُ ذلك ولا يُوجِبُهُ، وقد كان الأوزاعيُّ بصيرًا برأيِ مكحولٍ وعُبادةَ بنِ الصامتِ في القراءةِ في الصلاةِ، ولم يكنْ يُوجِبُ قراءةَ المأمومِ في الجهريَّةِ، وإنّما يَستحِبُّها، وقد كان الأوزاعيُّ يقولُ: «أخَذْتُ القِراءَةَ مَعَ الإمامِ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ، ومَكْحُولٍ»[[أخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» (٤ /٢٣٥)، و«التمهيد» (١١ /٣٩).]].
وأمّا ما جاءَ عن أبي سلمةَ، فهو قولُه: «لِلإمامِ سَكْتَتانِ، فاغْتَنِمُوا القِراءَةَ فِيهِما بِفاتِحَةِ الكِتابِ»، رواهُ عنه البخاريُّ في «جزئِه»، عن محمدِ بنِ عمرٍو، عنه[[أخرجه البخاري في «القراءة خلف الإمام» (١٦٥).]].
وفي القراءةِ في سَكَتاتِ الإمامِ حديثٌ مرفوعٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، ولا يَثبُتُ.
وأمّا كلامُ عُرْوةَ، فرواهُ عنه إبراهيمُ بنُ أبي يحيى، عن شَرِيكِ بنِ أبي نَمِرٍ، عن عُرْوةَ بنِ الزُّّبَيْرِ، قال: «إذا قالَ الإمامُ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: ٧]، قَرَأْتُ بِأُمِّ القُرْآنِ، أوْ بَعْدَما يَفْرُغُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَها»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٧٩١).]]، وابنُ أبي يحيى مُتَّهَمٌ، والثابتُ عن عُرْوةَ ما يَرويهِ ابنُهُ هشامٌ عنه، قال: «اسْكُتُوا فِيما يَجْهَرُ، واقْرَؤُوا فِيما لا يَجْهَرُ»، كما رواهُ ابنُ أبي شيبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٦٧).]].
وأصحُّ ما جاءَ في ذلك وأرفَعُهُ فقهًا: ما جاء عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، كما رواهُ عبدُ الرزّاقِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عنه، قال: «إذا كانَ الإمامُ يَجْهَرُ، فَلْيُبادِرْ بِأُمِّ القُرْآنِ، أوْ لِيَقْرَأْ بَعْدَما يَسْكُتُ، فَإذا قَرَأَ، فَلْيُنْصِتُوا كَما قالَ اللهُ عزّ وجل»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٧٨٨).]].
وعطاءٌ يَستحِبُّ ذلك ولا يُوجِبُهُ، فهو يُخيِّرُ مَن لا يَسمَعُ الإمامَ في الجهريَّةِ بينَ القراءةِ والتسبيحِ، كما رواهُ عنه ابنُ جُرَيْجٍ نفسُهُ، حيثُ قال: «إذا لَمْ تَفْهَمْ قِراءَةَ الإمامِ، فاقْرَأْ إنْ شِئْتَ أوْ سَبِّحْ»، أخرَجَهُ عبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٧٧٩).]]، وروى بهذا الإسنادِ عنه، قال: «يُجْزِي قِراءَةُ الإمامِ عَمَّنْ وراءَهُ، قُلْتُ: عَمَّنْ تَأْثِرُهُ؟ قالَ: سَمِعْتُهُ، ولَكِنَّ الفَضائِلَ أحَبُّ إلَيَّ أنْ تَأْخُذُوا بِها، أحَبُّ إلَيَّ أنْ تَقْرَؤُوا مَعَهُ»[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٨١٦).]]، وعن ابنِ جُرَيْجٍ أيضًا، قال: قُلْتُ لِعَطاءٍ: أيُجْزِي عَمَّنْ وراءَ الإمامِ قِراءَتُهُ فِيما يَرْفَعُ بِهِ الصَّوْتَ وفِيما يُخافِتُ؟ قالَ: نَعَمْ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٨١٨).]].
والقولُ بأنّ عطاءً يُوجِبُ القراءةَ خلفَ الإمامِ، لقولِهِ بالقراءةِ في السَّكَتاتِ ـ تلفيقٌ بينَ أحدِ أقوالِه مع قولِ غيرِه، وهذا لا يستقيمُ لعارفٍ بالرِّوايةِ، ولا بصيرٍ بالدِّرايةِ.
ومَن تأمَّلَ أقوالَ الصحابةِ والتابعينَ، وجَدَ أنّه لا يثبُتُ عن واحدٍ منهم إبطالُ الصلاةِ بتركِ القراءةِ خلفَ الإمامِ، وهذا يدُلُّ على أنّهم لم يكونوا يَحمِلونَ حديثَ الأمرِ بقراءةِ الفاتحةِ والقولَ بركنيَّتِها على الصلاةِ الجهريَّةِ، وأنّ عامَّتَهُمْ على عدمِ القراءةِ فيها للمأمومِ.
وبعدمِ القراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ يُفتي أئمَّةُ الفُتْيا مِن التابعينَ، صحَّ عن أئمَّةِ المدينةِ، كابنِ المسيَّبِ وعُرْوةَ، وأئمَّةِ الكوفةِ، كسُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، والأَسْوَدِ، فقد رَوى عنه النخَعيُّ قولَهُ: «لَأَنْ أعَضَّ عَلى جَمْرَةٍ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أقْرَأَ خَلْفَ الإمامِ أعْلَمُ أنَّهُ يَقْرَأُ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٨٥).]].
وأمّا إيجابُ القراءةِ لظاهرِ حديثِ عُبادَةَ في «الصحيحَيْنِ»: (لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ) [[أخرجه البخاري (٧٥٦)، ومسلم (٣٩٤).]]، ونحوِه في مسلمٍ، عن أبي هريرةَ: (مَن صَلّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيها بِأُمِّ القُرْآنِ، فَهِيَ خِداجٌ ـ ثَلاثًا ـ غَيْرُ تَمامٍ) [[أخرجه مسلم (٣٩٥).]]، فذلك هو الأصلُ، وهو وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ، وهو الأغلبُ في الصلواتِ، لأنّ غالبَ الصلواتِ سرِّيَّةٌ لا جهريَّةٌ، وحتى الجهريَّةُ لا تَسقُطُ الفاتحةُ عن الإمامِ، فهي واجبةٌ لكلِّ صلاةٍ وكلِّ ركعةٍ، ومقامُ الإمامِ في الجهريَّةِ مقامُ المأمومِ وهو نائبُهُ فيها، فهو يَقرَأُ والمأمومُ يُنصِتُ، وللمأمومِ أجرُ ما عقَلَ مِن سماعِه، كما أنّ للإمامِ ما عقَلَ مِن قراءتِه، والمأمومُ يُؤَمِّنُ بعدَ الفاتحةِ مع الإمامِ، والمُؤَمِّنُ كالدّاعي، كما جعَلَ اللهُ هارونَ داعيًا وهو يُؤَمِّنُ مع موسى، كما قال تعالى: ﴿وقالَ مُوسى رَبَّنا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأَهُ زِينَةً وأَمْوالًا فِي الحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما﴾ [يونس: ٨٨ ـ ٨٩].
والنصوصُ تتعلَّقُ بالأغلبِ، وأغلبُ الصلاةِ تجبُ فيها، كنوافلِ الرَّواتِبِ، فهي في اليومِ اثنتا عَشْرةَ ركعةً، ويَزِيدُ في ذلك صلاةُ الضُّحا، وتحيَّةُ المسجدِ، وقيامُ الليلِ، والفرائضُ تجبُ في جميعِها على الإمامِ، وفي السِّرِّيَّةِ على الجميعِ على الصحيحِ، والناظرُ لصلاةِ المرأةِ كلِّها جُلُّها في بيتِها ويجبُ عليها القراءةُ فيها جميعًا، وكلُّ منفرِدٍ مِن الرِّجالِ مِثْلُها لفَرْضِهِ ونَفْلِه، واستثناءُ الجهريَّةِ مِن إيجابِ القراءةِ لا يُلْغي الحُكْمَ، ولا يُعطِّلُ العملَ بحديثِ عُبادةَ وأبي هُرَيْرةَ، وإنّما هي عامَّةٌ دخَلَها التخصيصُ.
وأمّا حديثُ عُبادةَ عن النبيِّ ﷺ: (لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ خَلْفَ إمامِكُمْ)، قُلْنا: نَعَمْ، هَذًّا يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: (لا تَفْعَلُوا إلاَّ بِفاتِحَةِ الكِتابِ، فَإنَّهُ لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بِها)، فرواهُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ، مِن حديثِ محمدِ بنِ إسحاقَ، عن مكحولٍ، عن محمودِ بنِ الرَّبيعِ، عن عُبادةَ[[أخرجه أحمد (٥ /٣١٦)، وأبو داود (٨٢٣)، والترمذي (٣١١).]]، فالحديثُ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ الزُّهْريِّ، عن محمودِ بنِ الربيعِ، عن عُبادةَ، بلفظِ: (لا صَلاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ) [[سبق تخريجه.]]، وليس فيه هذه الزِّيادةُ.
وقال الترمذيُّ: هذا أصَحُّ[[«سنن الترمذي» إثر حديث رقم (٣١١).]].
وابنُ إسحاقَ تفرَّدَ بهذه اللفظةِ بهذا الإسنادِ.
وحديثُ عُبادةَ يَرويهِ الزُّهْريُّ، وهو أعلَمُ الناسِ بألفاظِ ما يَرويهِ وأحكامِه الفقهيَّةِ، وهو يُفتي بعدمِ القراءةِ خلفَ الإمامِ في الجهريَّةِ، كما رواهُ عنه مَعْمَرٌ[[أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (٢٧٨٤).]]، ولو صحَّ عنه المعنى في حديثِ عُبادةَ أو صَحَّ عندَهُ ما رواهُ ابنُ إسحاقَ، لَعَمِلَ به.
وفي حديثِ مكحولٍ اضطرابٌ أيضًا، فتارةً يَرويهِ عن محمودِ بنِ الربيعِ، ومرَّةً عن ابنِه نافعِ بنِ محمودٍ، ومرَّةً عن عُبادةَ بنِ الصامتِ، وهذا لا يُحتمَلُ في مثلِ هذا الحديثِ.
وقد ضعَّفَ حديثَ عُبادةَ أحمدُ وابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُهما.
وله طريقٌ أُخرى عندَ أحمدَ، مِن حديثِ خالدٍ الحَذّاءِ، عن محمدِ بنِ أبي عائشةَ، عن رجلٍ مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ، مرفوعًا، قال: (لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ والإمامُ يَقْرَأُ) ـ مَرَّتَيْنِ، أوْ ثَلاثًا ـ قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، إنّا لَنَفْعَلُ، قالَ: (فَلا تَفْعَلُوا، إلاَّ أنْ يَقْرَأَ أحَدُكُمْ بِفاتِحَةِ الكِتابِ) [[أخرجه أحمد (٤/٢٣٦).]].
وقد خالَفَ أيُّوبُ فيها خالدًا الحذّاءَ، فرواهُ عن أبي قلابةَ وأرسَلَهُ كما رواهُ البخاريُّ في «التاريخِ»[[«التاريخ الكبير» للبخاري (١ /٢٠٧) (٦٤٧).]]، وهو أصحُّ، فأيوبُ أثبَتُ مِن خالدٍ.
ورجَّحَ الإرسالَ الدارقطنيُّ[[«علل الدارقطني» (١٢ /٢٣٧).]].
وصوَّبَ أبو حاتمٍ الوصلَ عن خالدٍ، عن أبي قلابةَ، عن محمدٍ، به، لكنَّه لم يذكُرْ مَتْنَهُ[[«علل الحديث» لابن أبي حاتم (٢ /٤٤٥).]].
ولو صَحَّ مسنَدًا، كما رواهُ أحمدُ[[«العلل ومعرفة الرجال» لأحمد، رواية ابنه عبد الله (٢ /٤٠٨) (٢٨٢٥ و٢٨٢٦).]]، والبخاريُّ في «التاريخِ»[[«التاريخ الكبير» للبخاري (١ /٢٠٧) (٦٤٧).]]، عن إسماعيلَ، وابنُ أبي شيبةَ عن هُشَيْمٍ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٣٧٥٧).]]، كلاهُما عن خالدٍ الحذّاءِ، أنّه سأَل أبا قِلابةَ: ممَّن سَمِعَهُ؟ فقال: مِن محمدِ بنِ أبي عائشةَ ـ: فقد ساقَ المتنَ أحمدُ في «عِلَلِه»، وأحالَهُ إلى متنِ المُرسَلِ، وفيه: «فَلا تَفْعَلُوا»، وليس فيه: «إلاَّ بِفاتِحَةِ الكِتابِ»، والبخاريُّ لم يَذكُرْ مَتْنَه.
وليس فيه أيضًا تصريحُ روايةِ محمدِ بنِ أبي عائشةَ عن أحدٍ، وقد يكونُ عنه مرسَلًا، ولو صحَّتْ، لَما ترَكَ البخاريُّ الاحتجاجَ بها ولو معلَّقةً كعادتِه.
ورواهُ أبو يَعْلى، عن مَخْلَدِ بنِ أبي زُمَيْلٍ، ثنا عُبيدُ اللهِ بنُ عمرٍو الرَّقِّيُّ، عن أيوبَ، عن أبي قلابةَ، عن أنسٍ، بنحوِه[[أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (٢٨٠٥).]].
وهو غلطٌ جرى فيه على الجادَّةِ، والصحيحُ فيه عن أيوبَ المرسَلُ، وقال البخاريُّ: «لا يصحُّ عن أنسٍ»[[«التاريخ الكبير» (١ /٢٠٧).]]، ومع أنّ البخاريَّ يقولُ به، فأَعَلَّهُ، لأنّ مِثلَهُ لا يُنتصَرُ به، لشذوذِهِ.
والخطأُ فيه مِن عُبَيْدِ اللهِ، كما قالهُ البخاريُّ، وأبو حاتمٍ[[«علل الحديث» لابن أبي حاتم (٢/٤٤٥).]]، وابنُ عديٍّ[[«الكامل في ضعفاء الرجال» (٣ /١٢٩).]]، واللهُ أعلَمُ.
{"ayah":"وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











