الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: ١٠].
في هذه الآيةِ: دليلٌ على أنّ الأصلَ في منافعِ الأرضِ أنّها مُشاعةٌ بينَهم، يَستوُونَ في حقِّ الانتِفاعِ منها والقَرارِ فيها، وإنّما جاءتِ الشرائعُ ببيانِ المحرَّماتِ والحدودِ التي تَحُدُّ هذا الإطلاقَ ولا تُلغِيه، وهذا يَظهرُ في مواضعَ عديدةٍ مِن القرآنِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، وقولِهِ تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشًا﴾ [البقرة: ٢٢]، وقولِهِ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا﴾ [طه: ٥٣، والزخرف: ١٠]، وقولِه: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرارًا﴾ [غافر: ٦٤].
وقد جاءَ في السُّنَّةِ ما يُبيِّنُ هذا المعنى، كما في «المسنَدِ» و«سننِ أبي داودَ»، مِن حديثِ رجلٍ مِن الصحابةِ، قال ﷺ: (المُسْلِمُونَ شُرَكاءُ فِي ثَلاثٍ: الماءِ، والكَلَأِ، والنّارِ) [[أخرجه أحمد (٥ /٣٦٤)، وأبو داود (٣٤٧٧).]].
ومِن هذا ما في «الصحيحينِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (لا يُمْنَعُ فَضْلُ الماءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلَأُ) [[أخرجه البخاري (٢٣٥٣)، ومسلم (١٥٦٦).]].
منافعُ الأرضِ حَقٌّ مشاعٌ:
ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَمْنَعَ الناسَ مِن الانتفاعِ مِن الأرضِ، مِن ترابٍ وماءٍ وكَلَأٍ، ما لم يكنْ له مِلْكًا يَمْلِكُهُ وله فيه مَؤُونةٌ، وكان مالكُ بنُ أنسٍ ذهَبَ إلى أنّ ذلك في كلأِ الفَلَواتِ والصَّحاري، وما لا تُملَكُ رَقَبةُ الأرضِ فيه، وجعَلَ الرجُلَ أحَقَّ بكلأِ أرضِه، إنْ أحَبَّ المنعَ منه، فإنّ ذلك له[[ينظر: «التمهيد» (١٩ /١).]].
وإنّما جاء تخصيصُ الماءِ بالنَّهْيِ عن بيعِ فَضْلِهِ، وتكاثَرَتِ الأحاديثُ في ذلك، لأنّ المِنَّةَ فيه أظهَرُ، والحاجةَ إليه أشَدُّ، وقد يَصبِرُ الناسُ عن الحاجةِ إلى المَلْبَسِ والمَسْكَنِ ولا يَمُوتونَ، ولكنْ لا يَحْيَوْنَ إلاَّ بالماءِ، وفاقدُ الماءِ يموتُ قبلَ فاقدِ الطعامِ، فيَصبِرُ على الجوعِ أطوَلَ مِن صبرِهِ على العطشِ.
ونصَّ أبو حنيفةَ ومحمدُ بنُ الحسنِ: على أنّ فضلَ الماءِ مِن الآبارِ يُسقى للنفوسِ لا للزُّروعِ والنخلِ، فيجبُ بَذْلُهُ لِشُرْبِ الناسِ ودوابِّهم إبلًا وغنمًا وغيرَها.
حكمُ بيعِ الماءِ وعُشْبِ الأرضِ:
وليس لأحدٍ أنْ يبيعَ ما لا يَملِكُهُ منها، كمياهِ البحرِ ومياهِ الأنهارِ والغُدْرانِ وعُشْبِ الأرضِ، ما لم يكنْ منه مَؤُونةٌ عليه، كالمياهِ المصنَّعةِ وعُشْبِ أرضِهِ وبُسْتانِهِ وبيتِهِ الذي يَحْمِيهِ ويَسْقِيه، وفي «صحيحِ مسلمٍ»، مِن حديثِ جابرٍ أنّ النبيَّ ﷺ نَهى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الماءِ[[أخرجه مسلم (١٥٦٥).]].
ومنعُ فضلِ الماءِ الذي لم تَعمَلْهُ اليدُ عن ابنِ السَّبِيلِ كبيرةٌ مِن كبائرِ الذُّنُوبِ، وقد قال ﷺ: (ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلى سِلْعَةٍ لَقَدْ أعْطى بِها أكْثَرَ مِمّا أعْطى وهُوَ كاذِبٌ، ورَجُلٌ حَلَفَ عَلى يَمِينٍ كاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، ورَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ، فَيَقُولُ اللهُ: اليَوْمَ أمْنَعُكَ فَضْلِي كَما مَنَعْتَ فَضْلَ ما لَمْ تَعْمَلْ يَداكَ)، رواهُ البخاريُّ، وهو في مسلمٍ مختصَرًا[[أخرجه البخاري (٢٣٦٩)، ومسلم (١٠٨).]].
حكمُ بيعِ منافعِ الأرضِ الطبيعيَّةِ:
وكلُّ ما يَنتفِعُ الناسُ به، وجعَلَهُ اللهُ في الأرضِ، ولم يَملِكْهُ أحدٌ بعينِه: فلا يجوزُ لأحدٍ بيعُهُ ولو كان سُلْطانًا، سواءٌ كان مطعومًا كالمِلْحِ والماءِ والعُشْبِ، أو كان يُتَّخَذُ منه سكنٌ، كأعوادِ الشجرِ وحجارةِ الأرضِ وتُرابِها، وهذا ما تدُلُّ عليه ظواهرُ الأدلَّةِ، وقد جاءَ في «المسنَد»، و«سُننِ أبي داودَ»، حديثٌ ضعيفٌ عن بُهَيْسَةَ، أنّ أباها قال: يا نَبِيَّ اللهِ، ما الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنعُهُ؟ قالَ: (الماءُ)، قالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، ما الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنعُهُ؟ قالَ: (المِلْحُ)، قالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، ما الشَّيْءُ الَّذِي لا يَحِلُّ مَنعُهُ؟ قالَ: (أنْ تَفْعَلَ الخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ) [[أخرجه أحمد (٣ /٤٨٠)، وأبو داود (١٦٦٩، و٣٤٧٦).]].
ويدخُلُ في هذا حِمى الملوكِ التي يَحمُونَها بلا مصلحةٍ عامَّةٍ، ويَمنَعونَ منها ابنَ السَّبِيلِ ورُعاةَ البهائمِ أنْ تَطعَمَ وتَشرَبَ ممّا لم تَعمَلْهُ أيدِيهِم فيها، فهذا داخلٌ في النهيِ بلا خلافٍ.
وأمّا ما كان له مؤونةٌ فيه كماءِ البئرِ الذي يُخرِجُهُ بنفسِه، وعُشْبِ بُستانِهِ الذي يَرْعاهُ ويَحمِيهِ ويَسقِيه، أو الحَطَبِ الذي يَحْتَطِبُهُ بنفسِه، فلا حرَجَ في بيعِه.
وما كان في أرضِهِ ممّا لم يَبْذُلْ فيه جهدًا، كأنْ تَنبُعَ عينٌ في أرضِهِ أو يكونَ في أرضِهِ ماءٌ مِن المطرِ:
فذهَبَ أحمدُ في روايةٍ: أنّه لا يجبُ عليه بَذْلُه، ولكنْ لا يجوزُ له أنْ يَحبِسَهُ عن الناسِ وهو يَعلَمُ أنّه لا يَنتفِعُ منه، فما زادَ عن حاجتِهِ مِن مائِه، فاختُلِفَ في وجوبِ بَذْلِهِ لمَن يحتاجُ إليه على قولينِ، هما روايتانِ عن أحمدَ:
فقال الشافعيُّ: لا يَلزَمُه بَذْلُهُ، وله أخذُ عِوَضٍ عليه.
وقال بعضُهم: بوجوبِ بَذْلِه بلا عِوَضٍ، واحتجُّوا بما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: أنّ قَيِّمَ أرضِهِ بالوَهْطِ كتَبَ إليه يُخبِرُهُ أنّه سَقى أرضَهُ، وفَضَلَ له مِن الماءِ فضلٌ يُطلَبُ بثلاثينَ ألفًا، فكتَبَ إليه عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: «أقِمْ قِلْدَكَ، ثمَّ اسْقِ الأَدْنى فالأَدْنى، فإنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَنهى عن بَيْعِ فَضْلِ الماءِ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /١٦).]].
فقد فَهِمَ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو مِن الحديثِ مَنعَ بَيْعِ ما زادَ عن ماءِ أرضِه.
وكان أحمدُ في قولٍ يَنْهى عن بيعِ فضلِ ماءِ الآبارِ والعيونِ، فضلًا عن الأنهارِ والبحارِ.
وأمّا البئرُ، فيجوزُ بيعُها، لأنّها حُفِرَتْ بمؤونةٍ وعملٍ، ولو كان الماءُ الذي فيها فضَلَ عن حاجةِ صاحِبِها، لأنّ البيعَ للبئرِ، وقد أذِنَ النبيُّ ﷺ بذلك، (مَن يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيها كَدِلاءِ المُسْلِمِينَ)، فاشْتَراها عُثْمانُ رضي الله عنه، كما في البخاريِّ[[أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٢٣٥١).]]، وقد سَبَّلَها عثمانُ بنُ عفّانَ رضي الله عنه بأمرِ النبيِّ ﷺ لِلمُسلمِينَ، وكان اليهوديُّ يبيعُ ماءَها.
وفي بعضِ رواياتِ الحديثِ خارجَ «الصحيحِ»، أنّ عثمانَ رضي الله عنه اشترى منه نِصْفَها باثنَيْ عشَرَ ألفًا، ثمَّ قال لليهوديِّ: اختَرْ إمّا أنْ تَأْخُذَها يومًا، وآخُذَها يومًا، وإمّا أنْ تَنْصِبَ لك عليها دَلْوًا، وأَنْصِبَ عليها دَلْوًا، فاختارَ يومًا ويومًا، فكان الناسُ يَسْتَقُونَ منها في يومِ عثمانَ لِليومَيْنِ، فقال اليهوديُّ: أفْسَدتَّ عليَّ بِئْرِي، فاشْتَرِ باقِيَها، فاشتراهُ بثمانيةِ آلافٍ[[«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (٨ /٢٠٤)، و«الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (٣ /١٠٤٠).]].
ومِثلُ الماءِ: الرِّمالُ والتُّرابُ والحجارةُ التي في الأرضِ غيرِ المملوكةِ: لا يجوزُ أنْ يتسلَّطَ عليها مَن يَمنَعُها إلاَّ بِبَيْعِها، وأمّا إنْ كان ذلك في مِلْكِه، فيأخُذُ حُكْمَ الماءِ على الأرجحِ، فما كان للإنسانِ فيه مؤونةٌ كحَفْرٍ ونقلٍ، جاز، وما لم يكنْ له مؤونةٌ وكُلْفةٌ وكان مِن فضلِ أرضِه لا يَتضرَّرُ بفَقْدِهِ، فلا يجوزُ بيعُهُ على الأظهَرِ، وإنْ كان محتاجًا إليه وليس مِن فضلِ أرضِهِ وأرادَ أن يبيعَ حقَّه منه، جاز ذلك.
وأمّا الأرضُ المُشاعةُ كالماءِ المُشاعِ مِن مياهِ الأنهارِ والبحارِ، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يقولَ: «أبِيعُ نَصِيبِي منه»، كما لو تقاسَمَ الناسُ الورودَ على النهرِ كلَّ يومٍ لأهلِ بيتٍ أو لبَلْدةٍ أو لقومٍ، فيُرِيدُ مَن كان يومُهُمُ السبتَ أنْ يَبِيعُوا يومَهُمْ لغيرِهم، لم يَجُزْ ذلك، لأنّه تحايُلٌ على بيعِ ماءِ الفَلاةِ، وقد كان أحمدُ يَنهى عن ذلك.
{"ayah":"وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِیهَا مَعَـٰیِشَۗ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق