الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿وإذْ أسَرَّ النَّبِيُّ إلى بَعْضِ أزْواجِهِ حَدِيثًا فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَن أنْبَأَكَ هَذا قالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ ۝﴾ [التحريم: ٣]. لمّا أطلَعَ اللهُ نبيَّه على ما تظاهَرَتْ به عائشةُ وحفصةُ، عرَّف النبيُّ ﷺ حفصةَ بعضَ ذلك، وأعرَضَ عن بعضِه الآخَرِ، أي: أخبَرَها بشيءٍ مِن أمرِها، ولم يُخبِرْها بشيءٍ آخَرَ. وفي هذا: أنّ السُّنَّةَ التغافُلُ عمّا لا يحسُنُ ذِكْرُه، أو ما كان ذِكْرُهُ يُحْيِيهِ ويُعظِّمُ شأنَ المذكورِ وهو دون ذلك، ويُكتفى بذِكْرِ بعضِه، لِيَسْرِيَ العلاجُ على باقِيه. وقولُه تعالى: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾، فيه: أنّه مِن الحِكْمةِ أنّ بعضَ الأمورِ لا يصلُحُ فيها التغافُلُ التامُّ المُشعِرُ بالغَفْلةِ والبلادةِ، بل يُبيَّنُ طرَفُها المُشعِرُ بالعِلْمِ، ويُكتَمُ القَدْرُ الذي لا حاجةَ إليه، أو كانتِ الحاجةُ إلى ذِكْرِهِ ضعيفةً، أو يكونُ ضررُ إخراجِهِ أشَدَّ مِن ضررِ كَتْمِه. والتغافُلُ ليس على مَرْتبةٍ واحدةٍ، بل هو على مَراتِبَ بحسَبِ الأمرِ الذي جاء فيه: فمِنَ الأمورِ: ما يُستحَبُّ التغافُلُ عنه بالكليَّةِ. ومنها: ما يُستحَبُّ أنْ يُبدِيَ بعضًا ويَكتُمَ الآخَرَ، ويَختلِفُ قَدْرُ ما يُبدِيهِ وما يُخْفِيهِ، كلُّ حالةٍ بحسَبِها، وهذا يَرجِعُ إلى حِكْمةِ الإنسانِ وعِلْمِه، ومِن الناسِ: مَن يظُنُّ أنّه إنْ كان ذا حقٍّ، فله أن يُبدِيَ مِن حقِّه ما يشاءُ، مِن غيرِ نَظَرٍ إلى ما يُصلِحُ الأمرَ ولا ما يُفسِدُه. ويُعرَفُ العاقلُ بمِقْدارِ غَفْلتِه ومواضعِها، وكثيرٌ مِن الشرورِ علاجُها بالتغافُلِ، وذِكْرُها يُحْيِيها ويُذْكِيها حتى تعظُمَ وتستطيرَ. وللتغافُلِ ألمٌ عاجلٌ، ولذَّةٌ آجِلةٌ، قال الأعمشُ: «السكوتُ جوابٌ، والتغافُلُ يُطفِئُ شرًّا كثيرًا[[أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٨١٠١).]]». وقد قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الخُزاعيُّ: «سَمِعتُ عثمانَ بنَ زائدةَ يقولُ: العافيةُ عشَرةُ أجزاءٍ، تسعةٌ منها في التغافُلِ، ثمَّ قال: فحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبلٍ، فقال: العافيةُ عشَرةُ أجزاءٍ، كلُّها في التغافُلِ»[[أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٨٠٢٨).]]. ويقولُ الشافعيُّ: «الكَيِّسُ العاقِلْ، هو الفَطِنُ المُتغافِلْ»[[أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٨٠٣٠).]]. وأحوَجُ ما يكونُ الإنسانُ إلى التغافُلِ مع مَن يُكثِرُ خِلْطَتَه، كالزوجةِ والولدِ والخادمِ وذوي الأرحامِ والأصحابِ والجِيرانِ، فلو تتبَّعَ الإنسانُ كلَّ ما يَجِدُ في نَفْسِه منه، لَما بَقِيَ له عمرٌ، ولم تصلُحْ له حالٌ، ويتحوَّلُ مِن فِتنةٍ إلى أُخرى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب