الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ۝﴾ [الأنعام: ١١٨]، وقال: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيْاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أولِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ۝﴾ [الأنعام: ١٢١]. حكمُ التسميةِ على الذبيحةِ: تقدَّمَ في سورةِ المائدةِ الكلامُ على حُكْمِ التسميةِ على سبيلِ الإجمالِ، والصوابُ: أنّ العِبْرةَ بالنِّيَّةِ والذَّبْحِ والذابحِ، فما ذبَحَهُ غيرُ المسلِمِ والكتابيِّ، يحرُمُ ولو سُمِّيَ عليه، وما خُنِقَ أو وُقِذَ، فلا يَحِلُّ ولو سُمِّيَ عليه، ولو كان الخانقُ مسلِمًا، وما سُمِّيَ عليه وذُبِحَ مِن غيرِ المسلِمِ والكتابيِّ، فلا يَحِلُّ، لأنّ المجوسَ لو سَمَّوْا لم تُؤكَلْ ذبائحُهم، وجملةُ الأقوالِ في وجوبِ التسميةِ عن الأئمَّةِ قولانِ: الأوَّلُ: قالوا بوجوبِ التسميةِ، وأنّ ما ذُبِحَ ولم يُسَمَّ عليه، لا يَحِلُّ ولو كان الذابحُ مسلمًا ولم يَذكُرِ اسمَ غيرِ اللهِ عليه سواءً، وهذا قولُ الجمهورِ: أبي حنيفةَ ومالكٍ وأحمدَ، اتَّفَقَ هؤلاءِ في العامدِ، ولكنَّهم اختلَفُوا في تارِكِ التسميةِ نسيانًا، على قولَيْنِ هما روايتانِ عن أحمدَ، والجمهورُ: على أنّه معذورٌ. وقال بعُذْرِ الناسِي مِن الأصحابِ: ابنُ قُدامةَ، وجماعةٌ. وقيل: إنّ الناسيَ كالعامدِ، وهذا روايةٌ عن أحمدَ، قال بها جماعةٌ مِن الأصحابِ، كأبي الخطّابِ، وابنِ تيميَّةَ، أخذًا بظاهرِ الأدلَّةِ مِن القرآنِ، كما في الآياتِ السابقةِ، وكما في قولِهِ ﷺ: (ما أنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا) [[أخرجه البخاري (٢٥٠٧).]]، وأنّه في الحديثِ قرَنَ ذِكْرَ اسمِ اللهِ وخروجَ الدمِ سواءً، فكما لا يسقُطُ خروجُ الدمِ بالنِّسْيانِ، فكذلك التسميةُ، وكذلك: الذابحُ خَنْقًا بلا عمدٍ كالتاركِ للتسميةِ نسيانًا. الثاني: أنّ التسميةَ سُنَّةٌ ولا تَجِبُ، وتَرْكَها عمدًا فضلًا عن السهوِ لا يَضُرُّ، ما لم يَنْوِ بها غيرَ اللهِ أو يُهِلَّ به غيرَ اسمِ اللهِ، وهو قولُ الشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ، وهو مذهبُ الشافعيَّةِ، وقد صحَّ هذا المعنى عن ابنِ عبّاسٍ وجماعةٍ مِن أصحابِه، وهو الأقربُ للصوابِ. التسميةُ والإهلالُ عند الذبح: والمرادُ بإيجابِ التسميةِ قَصْدُ الإهلالِ، لأنّ العربَ تُهِلُّ بذبحِها لأصنامِها وتذكُرُ اسمَها لا اسمَ اللهِ، فجاء ما يُنافي ذلك ويُناقِضُهُ، لأنّ اللهَ تعالى قال: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ﴾، وهذا الفِسْقُ في الآيةِ هو الفِسْقُ في الآيةِ الأُخرى: ﴿فَإنَّهُ رِجْسٌ أوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، فالمقصودُ به: الإهلالُ لغيرِ اللهِ، لا مجرَّدُ تركِ التسميةِ مِن الموحِّدِ، وقد تُترَكُ التسميةُ نسيانًا ولا يكونُ ذلك فِسْقًا، ولهذا جاء بيانُ ذلك القصدِ في مواضعَ، فذكَرَ اللهُ المحرَّماتِ وجعَلَ منها قولَهُ: ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٣]، فلم يذكُرِ اللهُ في موضعٍ واحدٍ ما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ وما لم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عليه، لأنّ المقصودَ بهما معنًى واحدٌ، ولو كانا معنيَيْنِ، لذُكِرا جميعًا في آيةٍ واحدةٍ، ولكنَّهما يَتناوَبانِ بالقصدِ فيُغني أحدُهما عن الآخَرِ عندَ ذِكْرِه، والمعنى المشتَرَكُ بينَهما هو القصدُ. تاركُ التسميةِ عند الذبح عمدًا: والتارِكُ المتعمِّدُ للتسميةِ إنْ كان تركُهُ لها يَعتقِدُ عدمَ وجوبِ الذبحِ للهِ، فذلك فِسْقٌ كما في الآيةِ، لأنّه شارَكَ المشرِكِينَ في عدمِ قصدِ اللهِ، ولم يُشارِكْهُمْ في قصدِ أوثانِهم. والمشابَهَةُ بينَ إنهارِ الدمِ بالذبحِ والتسميةِ وتركِهما، وقياسُ نِسْيانِ التسميةِ على نسيانِ الذبحِ والإماتةِ بالخَنْقِ أو الصَّعْقِ قياسٌ مع الفارقِ، لأنّ عِلَّةَ الأمرِ بالذبحِ عدمُ حبسِ الدمِ في البهيمةِ، فنِسْيانُ الذبحِ كالعمدِ فيه، بخلافِ تعمُّدِ تركِ التسميةِ، فلا يُوجَدُ عِلَّةٌ تقومُ في المذبوحِ وإنّما في الذابح، وما تعلَّقَ بالذابحِ إنْ جعَل القصدَ لغيرِ اللهِ، فهي محرَّمةٌ، لا لخُبْثِ لحمِها، وإنّما لحُكْمِها، كتحريمِ الذهبِ والحريرِ على الرِّجالِ، وتَلبَسُهُ النِّساءُ، فهذا مِن الأحكامِ التي لا تتعلَّقُ عِلَّةُ التحريمِ فيها بنجاسةِ العَيْنِ المحرَّمةِ، وإنّما بما اقترَنَ بها. ومَن تعمَّدَ تركَ التسميةِ تهاوُنًا ولم يَقصِدْ بها غيرَ اللهِ ولم يُسَمِّ غيرَه، فلا تحرُمُ ذبيحتُهُ على الأرجحِ، وإنْ قيل بتأثيمِهِ. فالقولُ بوجوبِ التسميةِ عندَ الذبحِ مع عدمِ تحريمِ المذبوحِ عندَ تعمُّدِ تركِها، أقرَبُ إلى الصوابِ مِن القولِ بوجوبِ التسميةِ وتحريمِ أكلِها عندَ تعمُّدِ تركِها، ويُنسَبُ إلى بعضِ الأئمَّةِ أقوالٌ في حُرْمةِ أكلِ ما تُرِكَتِ التسميةُ عليه عمدًا مِن بهيمةِ الأنعامِ، لأنّهم يقولونَ بوجوبِ التسميةِ، والقولُ بوجوبِ التسميةِ لا يَلزَمُ منه جعلُ الذبيحةِ في حُكْمِ الميتةِ إلاَّ لِمَن صرَّحَ بذلك، أو كانتْ أُصولُهُ تَقتضي ذلك. واللهُ قد أحَلَّ ذبيحةَ أهلِ الكتابِ، ولم يُلزِمْ أهلَ الإيمانِ بالتحرِّي في تسميتِهم على ذبائحِهم، وتركُهُمْ لذِكْرِ اسمِ اللهِ على الذبيحةِ يقعُ منهم أكثَرَ مِن أهلِ الإسلامِ، وهذا ظاهرٌ في حديثِ عائشةَ، أنّ قومًا قالوا للنبيِّ ﷺ: إنَّ قَوْمًا يَأْتُونا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِي: أذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أمْ لا؟ فقال: (سَمُّوا عَلَيْهِ أنْتُمْ وكُلُوهُ)، قالتْ: وكانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالكُفْرِ[[أخرجه البخاري (٥٥٠٧).]]. وأمّا حديثُ: (ذَبِيحَةُ المُسْلِمِ حَلالٌ، سَمّى أوْ لَمْ يُسَمِّ، ما لَمْ يَتَعَمَّدْ، والصَّيْدُ كَذَلِكَ)، فرواهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ في «تفسيرِه»، مِن حديثِ راشدِ بنِ سعدٍ، مرسلًا[[«الدر المنثور» (٦ /١٨٨)، وأخرجه الحارث في «بغية الباحث، عن زوائد مسند الحارث» (٤١٠).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب