الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ ۝﴾ [الحشر: ٥]. لمّا دخَلَ النبيُّ ﷺ أرضَ بني النضيرِ، قطَعَ ثمارَهُمْ مِن نخيلٍ وثمرٍ، كما في «الصحيحَيْنِ»، عن ابنِ عمرَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ حَرَّقَ نَخْلَ بنِي النَّضِيرِ وقَطَعَ، وهِيَ البُوَيْرَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجل: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ ۝﴾ [[أخرجه البخاري (٤٨٨٤)، ومسلم (١٧٤٦).]]. وقيل: إنّ الصحابةَ اختلَفُوا في إحراقِ نخلِ اليهودِ وإفسادِه، فأنزَلَ اللهُ على نبيِّه هذه الآيةَ، وفي «السُّننِ»، مِن حديثِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، في قولِه: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ ۝﴾، قال: اسْتَنْزَلُوهُمْ مِن حُصُونِهِمْ، وأُمِرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحاكَ فِي صُدُورِهِمْ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: قَدْ قَطَعْنا بَعْضًا، وتَرَكْنا بَعْضًا، فَلَنَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: هَلْ لَنا فِيما قَطَعْنا مِن أجْرٍ، وهَلْ عَلَيْنا فِيما تَرَكْنا مِن وِزْرٍ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزّ وجل: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً﴾ [[أخرجه الترمذي (٣٣٠٣)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١١٥١٠).]]. وفي هذا: أنّ اللهَ لم يُنكِرْ على نبيِّه ولا على صحابتِه فِعْلَهم، وهذا ظاهرٌ في قولِه تعالى: ﴿فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفاسِقِينَ ۝﴾، ولم يكنِ اللهُ لِيأذَنَ لنبيٍّ بمحرَّمٍ، بل سمّاه هنا خِزْيًا على المُنافِقينَ، وذُلًّا وصَغارًا لهم. وقد اختلَفَ العلماءُ في جوازِ إتلافِ حَرْثِ العدوِّ المُحارِبِ ودُورِهم، على قولَيْنِ: ذهَبَ جماعةٌ: إلى جوازِ ذلك إنْ كان فيه مصلحةٌ للمُسلِمينَ، كأنْ يَعلَموا أنّ هذا المالَ لن يَؤُولَ إلى المُسلِمِينَ ولن يَنتفِعوا منه، وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ، أخذًا مِن ظاهرِ فِعْلِ النبيِّ ﷺ في بَني النضيرِ، ولم يَنهَهُ اللهُ ولم يُعاتِبْهُ على ذلك. وقد أجاز أحمدُ الحَرْقَ إذا كان بلا عبثٍ، وإنّما لمصلحةٍ، كالمواضعِ التي لا بدَّ منها، وبنحوِهِ قال إسحاقُ، فقد جَوَّزَهُ نِكايةً، بل جعَلَهُ سُنَّةً بذلك القَيْدِ. وذهَبَ الأوزاعيُّ في قولٍ وغيرُهُ: إلى المنعِ مِن ذلك[[ينظر: «سنن الترمذي» (١٥٥٢).]]، وجعَلَ فِعْلَ الناسِ في بَني النَّضيرِ منسوخًا، وأنّه قضيَّةُ عَيْنٍ نُهِيَ عنها بعدَ ذلك، واستَدَلَّ بما رَوى مالكٌ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إلى الشّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بنِ أبي سُفْيانَ، وكانَ أمِيرَ رُبُعٍ مِن تِلْكَ الأَرْباعِ، فقال: «إنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، ولا صَبِيًّا، ولا كَبِيرًا هَرِمًا، ولا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، ولا تُخَرِّبَنَّ عامِرًا، ولا تَعْقِرَنَّ شاةً ولا بَعِيرًا إلاَّ لِمَأْكَلَةٍ، ولا تَحْرِقَنَّ نَخلًا، ولا تُغَرِّقَنَّهُ، ولا تَغْلُلْ، ولا تَجْبُنْ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ /٤٤٨).]]، وهو مُرسَلٌ، وقد جاء مِن وجهٍ آخَرَ، فرواهُ عثمانُ بنُ عطاءٍ، عن أبيهِ، عن أبي بكرٍ، وهو مرسَلٌ أيضًا. وهذا لا يَتعارضُ مع قولِ مَن أجازَ، لأنّ مَن قال بجوازِ ذلك، لم يَنفِ مَنعَهُ عندَ تحقُّقِ كونِهِ إفسادًا، أو لم يكنِ العدوُّ منتفِعًا مِن الزرعِ، ولا أثَرَ عليه بحَرْقِه، فإنْ كانتِ الحالُ كذلك، فيُقالُ فيه كما قاله أبو بكرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب